في زمان الغربة
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
في زمان الغربةفي زمان الغربة قد تَبدو راية الباطِل عالية، في زمان الغربة قد يَنزوي الحقُّ.
في زمان الغربة قد يُكذَّب الصَّادق ويُصدَّق الكاذب، وقد يوصَف المتمسِّك بالكتاب والسنَّة بالمتشدِّد الإرهابي، في زمان الغربة قد تَشعر بالوحدة بين أهلك، وربَّما يضيق صدرك بكل ما حولك.
وأنا أقول: صَبرًا صَبرًا إنَّ العاقبة للمتَّقين، صَبرًا صَبرًا ولا يضرك قلَّة السالكين.
صبرًا صَبرًا إنَّ الله مع الصَّابرين، أتعلمون أحبَّتي ما هو زمن الغربة؟
أتعلمون ما أعدَّه الله للصَّابرين في زمان الغربة؟
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((بدأ الإسلامُ غريبًا وسيَعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغُرَباء))، قيل: يا رسول الله، مَن الغُرباء؟ قال: ((الذين يصلحون إذا فسَد النَّاسُ))، فالغرباء هم أهل الاستِقامة والثَّباتِ على الدِّين، هم قومٌ خالَفوا أهواءهم واتَّبعوا الحقَّ المبين، لم يغرَّهم كثرةُ المنتكِسين المائلين، الذين اشتَروا الدنيا وباعوا الدين.
الغرباء في زماننا هذا لم تزِدهم الفتنُ إلَّا ثباتًا ويقينًا؛ طمعًا فيما عند الله جلَّ وعلا من نعيم، وأولئك هم الفائزون حقًّا، بشَّرهم ربُّهم بالأمن والسَّعادةِ في الدنيا والآخرة.
اسمعوا أيها الغرباء وأبشِروا، قال الله جلَّ وعلا: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الأحقاف: 13]، أبشِر يا من تمسَّكتَ بدِينك وسنَّةِ نبيِّك، أبشِر يا مَن وقفتَ ضدَّ الباطل وصدعتَ بالحقِّ، أبشِر بجنَّة عرضها كعرض السَّماء والأرض، قال الله جلَّ وعلا: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾ [الحديد: 21].
يا لها من بُشرى عظيمة تثبِّتُ القلوبَ وتشحذ الهِمَم! اثبتوا ثبَّتَكم اللهُ، فما الدنيا إلَّا دار ابتلاء، والآخرة خير وأبقى...
زمان الغربة، وما أدراكم ما زمان الغربة؟! زمانٌ القابِضُ فيه على دينِه كالقابِض على الجَمْر؛ كما أخبَرَنا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم.
فيا أيُّها القابِضون على الجمر، لا يغرنكم كثرةُ الهالِكين، ولا يضرنكم قلَّة السالكين، لا تَغترُّوا بأهل المعاصي وكثرتِهم، لا تنشغِلوا بالنَّاس؛ فالانشِغال بهم بلاء، وعليكم بأنفسكم.
أصلِح نفسَك وألجِمها لجامَ التقوى لله جلَّ وعلا، فلا نجاةَ في هذا الزَّمان إلَّا بتقوى الله والتمسُّكِ بكتاب الله وسنَّةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((تَركتُ فيكم ما إنْ تمسَّكتُم به لن تضلُّوا بعدي أبدًا: كتابَ الله، وسنَّتي))، فعليكم بكتاب الله، لا أقول: تلاوةً وحفظًا فقط؛ فكم من حافظٍ لا يعمل بما حَفِظ، نحن نريد القرآن قولًا وعملًا في حياتنا، نحن نريد تطبيقَ السنَّة ظاهرًا وباطِنًا.
في زمان الغربة، تَمسَّك بطلَبِ العلم؛ فإنَّه نجاة ووقاية لك من فِتَن الشُّبهات والشهوات.
في زمان الغربة، كن في رَكْبِ الصَّالحين، وإيَّاك إيَّاك وصحبةَ الغافلين.
في زمان الغربة، لا تنهمك في الدنيا مثلهم؛ فإنَّ التعلُّق بالدنيا وحبَّها لن يزيد قلبك إلا همًّا وغمًّا، ولن تأخذ منها إلَّا ما قدَّره اللهُ لك، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((مَن كانت الآخرَة همَّه، جعَل الله غِناه في قلبه، وجمَع له شمْلَه، وأتَتْه الدُّنيا وهي راغِمَة، ومن كانت الدنيا همَّه، جعَل الله فقْرَه بين عينيه، وفرَّق عليه شَمْلَه، ولم يأتِه من الدنيا إلَّا ما قُدِّر له)).
بالفعل في زماننا هذا أكثرُ النَّاس - إلَّا مَن رحِم ربي - قلوبهم تعلَّقتْ بالدنيا تعلُّقًا شديدًا؛ فتراهم ليل نهار يَسعَوْنَ للرِّزق، يفكِّرون في اليوم وما حدَث بالأمس، وكيف يكون مستقبل أولادهم، وكيف يتعاملون مع غَلاء الأسعار، وربما عصَوا ربَّهم مِن أجل لقمة العيش، ووالله لو لجؤوا إلى الله، واعتمدوا عليه، لكفاهم كلَّ ذلك وأغناهم، فالله خالِقُهم تكفَّل لهم بكلِّ ما يكفيهم؛ ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ [هود: 6].
وليس معنى الكلام أن نترك العمَلَ ولا نجتهد، لا؛ بل علينا الأخذ بالأسباب، ولكن كثرة الانهماكِ والانشغال الدَّائم بها يُميتُ القلبَ، ومِن دُعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((اللهمَّ لا تجعل الدنيا أكبَر همِّنا))، مما يدُلَّ على أننا سننشغِل بها لا محالة، ولكنَّ العاقل لا يجعلها أكبر همِّه وأكبر هدفٍ له في الحياة؛ لأنَّ الهدف الأول من إيجاد الخَلْق جميعًا هو عبادةُ الله جلَّ وعلا.
وختامًا، أنصح نفسي والغرباء في زماننا بحديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((اتَّقِ اللهَ حيثما كنتَ، وأَتْبِعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالِق النَّاسَ بخُلُق حسَن))؛ حديثٌ عظيم، جمَع بين علاقتك بالله وعلاقتك مع نفسك وعلاقتك بالناس، فلا تغفل عنه وتمسَّك به، تفُزْ في الدنيا والآخرة.
أكتفي بهذا القَدْر، ولنا حديثٌ آخر تفصيلي المرَّة القادمة إن شاء الله، أسأل اللهَ أن يهديَنا إلى ما فيه الخير والصَّواب، وأن يقيَنا الفتَنَ ما ظهَر منها وما بطن، وأن يثبِّتَنا على الحقِّ حتى نلقاه، وأن يختم لنا بالباقيات الصَّالحات، إنَّه وليُّ ذلك والقادِر عليه.