أرشيف المقالات

أحكام المراتب (1) - أحكام مراتب الجرح والتعديل - ملفات متنوعة

مدة قراءة المادة : 21 دقائق .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
أود التنبيه على أن هذه المشاركة هي في الأصل: موضوع المبحث الثالث من التمهيد لرسالة علمية أعددتها في مرحلة الماجستير، بعنوان: "دراسة ألفاظ: (مقارب الحديث) و(صدوق) و(لا بأس به) وأحكامها عند الإمام البخاري رحمه الله".
فمن أجل دراسة هذه الألفاظ الثلاثة وأحكامها، كان عليّ دراسة مراتب الألفاظ واعتبارات أهل العلم في تصنيفها وأحكام تلك المراتب، فكان هذا المبحث.
تتفاوت الألفاظ التي استعملها أئمةُ النقد في تعديل الرواة وجرحهم تبعًا لتفاوت الرواة أنفسهم في الأوصاف المعتبرة لقبول الروايات، وتتنوع تلك الألفاظ تبعًا لمقاصد الأئمة منها، كما أن التعبير عن المعنى الواحد لا يتقيد بلفظ واحد؛ ومن هنا صارت ألفاظُ التعديل والجرح مصنفةً في مجموعات على مراتب، كلُّ مرتبةٍ تَضُمُّ عددًا من الألفاظ التي يُعَبَّرُ بها عن معنى واحد أو متقارب، وتَتَدَرَّج تلك المراتبُ بحسب دلالاتها من أعلى درجات التعديل إلى أدنى درجات الجرح مرورًا بالمراتب الوسيطة [1]، وتأخذ كل مرتبة أحكامها وَفقًا لدلالات ألفاظها، وهذه الدلالات تستند إلى المعنى اللغوي، لكنها تأخذ تحديدًا أكثر استنادًا إلى المعنى العرفي الملابس للممارسة النقدية، ولذا كان المعنى العرفي هو المعتبر في تصنيفها.
ويُعَدُّ الإمامُ ابنُ أبي حاتم صاحبَ السبق في ترتيب هذه المراتب وتهذيبها وبيان أحكامها [2]، ثم أورد كلامَه أبو بكر الخطيب بغير إضافات [3]، ثم جاء ابن الصلاح فنوّه بصنيع ابنِ أبي حاتم وأشاد، وأَوْرَدَ كلامَه مُضيفًا بعضَ التعليل والتوجيه، ومذيّلًا بألفاظ أخرى تَرَكَ ابنُ أبي حاتم ذكرها [4].
وجَعَلَ ابنُ الصلاح ذلك إحدى المسائل المتفرعة على "النوع الثالث والعشرين" من أنواع علوم الحديث، واسم ذلك النوع: "معرفة صفة مَنْ تُقبل روايته ومَنْ تُرد روايته، وما يتعلّق بذلك من قدح وجرح وتوثيق وتعديل".
ولأن كتاب ابن الصلاح نال عناية كبيرة ممن جاء بعده، بل صارت المصنفات في علم المصطلح تدور حوله [5]؛ فقد كان لذلك أثر في تنامي الاهتمام بمراتب التعديل والجرح ضمن كتب المصطلح، وصار "النوع الثالث والعشرون" في الكثير من كتب المصطلح حافلًا بالكلام حول مراتبِ التعديل والتجريح وأحكامِها.
ولا يمكن أن يهمل فضلُ الحافظِ العراقي في إثراء هذا المبحث، في شرحه لكتاب ابن الصلاح، وفي ألفيته التي نَظَمَ فيها كتابَ ابن الصلاح وفي شرحِه لها، فقد حقّقَ لذلك المبحث نوعًا من التميز والظهور، وحرَص على استيعاب عدد وفير من مصطلحات التعديل والجرح في كلام منظوم، قال في مطلعه:
                               والجرحُ والتعديلُ قد هذّبهُ    * * *      ابنُ أبي حاتم [6] إذ رَتَّبَهُ
                               والشيـخُ زاد فـيـهمـا وزِدْتُ    * * *      ما في كلامِ أهـلِهِ وَجَـدْتُ
يعني بـ"الشيخ": ابنَ الصلاح.
والموازنة بين كلام الحافظ العراقي وكلام الحافظ الذهبي في خطبة "ميزان الاعتدال" [7] تدل على أن الحافظ العراقي أفاد من كلام الحافظ الذهبي في ترتيب مراتب التعديل والجرح، وبذلك صرح الحافظ العراقي نفسه في شرح كتاب ابن الصلاح [8].
كما لا يصح إهمال عمل الحافظ السخاوي الذي يُعدّ كتابه "فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي" من أكثر كتب المصطلح بسطًا لمبحث مراتب التعديل والتجريح، وأظهرها عناية به.
والواقع أن من يراجعُ كتبَ المصطلح يكاد يصل إلى قناعة بأن هذه المواضعَ المشارَ إليها سابقًا قد حوتْ جُلَّ ما يَقصده مَن يريد الوقوف على المسائل المتصلة بمراتب التعديل والجرح، لا سيما كتاب "فتح المغيث" للسخاوي الذي ظهر فيه جهد المؤلف في توضيح المقاصد وتتبع الشوارد وتدوين الفوائد.
وأما الأحكام التي تُذكر في مراتب التعديل والجرح فلم يدخلها زيادة، ولا ظهر فيها اختلاف مِنْ حيثُ تعليقُها بالمراتب بحسب دلالة الألفاظ.
وكلامُ ابن أبي حاتم هو الأصل في بيان هذه الأحكام.
والحديث عن أحكام مراتب التعديل والجرح، يستدعي توضيح العلاقة بين مصطلحات التعديل والجرح وبين الممارسة النقدية، ثم بيان نوع العلاقة بين هذه المصطلحات وبين أحكامها.
أولًا: علاقة المصطلحات بالممارسة النقدية:
لا تخفى أهمية مصطلحات كلّ علم في ضبط المنهج وتقويم المسار، ولا ريب أن علم "مصطلح الحديث" من أكثر العلوم اصطلاحًا، وأظهرها بالاصطلاحات اهتمامًا.
ولكن مما ينبغي التنبيه عليه: أن دراسة المصطلحات الحديثية، وتحديد مدلولاتها، لا يعني أن يتم التعامل معها بطريقة ظاهرية [9]، بل لا بد من ربطها بمسالك أئمة النقد، ووصلها بقواعد الممارسة النقدية وضوابطها عندهم؛ لأن المتعين أن يكون التعامل معها مرتكزًا إلى معرفة كافية بمقاصد الأئمة ومذاهبهم في نقد الرواة والروايات، وهذا ينطبق على دراسة ألفاظ الجرح والتعديل ومقتضياتها وأحكامها.
قَصْرُ الكلام: أن الممارسة النقدية التي أنتجت تلك الألفاظ، والمعاني التي تم التعبير عنها بها، كما يُعدُّ فهمُها شرطًا لازمًا لفهم تلك الألفاظ، فهو أيضًا يُعَدُّ شرطًا ضروريًا لتحقيق مناطات أحكامها.
إن العمدة في معرفة مصطلحات الجرح والتعديل هم أئمة النقد السابقين؛ لأنهم هم من ابتدأ استعمالها، وعن طريق استقراء مواضعها عندهم نتوصل إلى مقتضياتها ودلالاتها.
ومن المعلوم أن هذه المصطلحات لا تستند إلى أي وضع سابق، وإنما جرت على مقتضى العادة في التعبير، وتحدّدت معانيها بناء على امتزاجها بالممارسة النقدية.
كما أنه من المعلوم أن نقد الأحاديث كان سابقًا زمنيًا للحكم على غالب الرواة؛ أي أن نقد الأحاديث هو الذي أنتج المعرفة بأحوال غالب الرواة، ومهّد لاستعمال الألفاظِ المُعَبِّرِ بها عن أحوالهم.
 
 وتوضيحُ ذلك: أن الراوي يَنظرُ الناقدُ إليه من جهتين: أولاهما: دلائل صدقه، والثانية: دلائل حفظه.
وأحاديث الراوي التي يستند إليها الناقد في الحكم عليه ثلاثة أنواع:
1-ما يشاركه غيره في روايته، فينظر فيه الناقد من جهة الموافقة لهم أو المخالفة.
2- ما يتفرد به، فينظر فيه الناقد من جهة احتمال التفرد منه أو عدم احتماله.
3- ما يسوقه على أكثر من وجه، فينظر فيه الناقد من جهة كونه حَفِظَهُ أو اضطرب فيه.
وكل هذه الأنواع مناط لقياس مدى الثقة بالراوي:
1- فإذا كثرت موافقته للثقات المعروفين، دلت على ثقته.
2- وإذا كثرت مخالفته لهم، كان لذلك أثره في الحكم عليه.
3- وكذلك إذا أكثر التفرد عن الشيوخ مع قلة الأحاديث التي يشارك فيها غيره يكون لذلك أثر في الحكم عليه.
4- وينسحب ذلك على الموقف من حديثه إذا رواه على أكثر من وجه.
والمقصود: أن الموافقة تزيد من الثقة بالراوي، وأن سوء الحفظ يظهر أثره في المخالفة أو التفرد أو الاضطراب.
وهذا ما لخّصه أبو بكر البرديجي في حالة خاصة تشبه أن تكون ضبطًا لجميع نظائرها، فقال: "يزيد بن إبراهيم، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، صحيح؛ إذا لم يكن الحديثُ منكرًا أو مضطربًا أو معلولًا" [10].
ومن النصوص العامة الدالة على ما سبق:
قول الإمام مسلم بن الحجاج : "حُكْمُ أهلِ العلم، والذي نَعرف مِن مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدِّثُ مِن الحديث: أن يكونَ قد شارك الثقاتِ مِنْ أهلِ العلمِ والحفظِ في بعضِ ما رَوَوا، وأَمْعَنَ في ذلك على الموافقةِ لهم؛ فإذا وُجد كذلك، ثم زاد بعدَ ذلك شيئًا ليس عند أصحابِه قُبلتْ زيادتُه".
ومرادُ مسلم بقوله: "قُبلت زيادتُه": ما يتفرد به الراوي من الأحاديث، وسياق كلامه يدل على ذلك.
وهذا يتأثر بما إذا كان الشيخ الذي تفرد عنه من أهل العلم وكبار الحفاظ الذين لهم أصحاب يعتنون بأحاديثهم أو ليس كذلك، ولذلك أردف مسلم بهذا المثال: "فأما مَنْ تراه يَعمدُ لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة -وحديثُهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، قد نقل عنهما أصحابُهما حديثَهما على الاتفاق منهم في أكثره- فيروي عنهما أو عن أحدهما العددَ من الحديث مما لا يعرفه أحدٌ من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم-: فغيرُ جائزٍ قبولُ حديثِ هذا الضَّرْبِ من الناس" [11].
فهذا النص الثمين من الإمام مسلم بيّن فيه أن المشاركة والتفرد كلاهما مناط للحكم على الراوي، وأن الراوي إنما ينال نصيبه من الثقة بحسب ما يرويه من الأحاديث المحفوظة، التي يُعرف أنها محفوظة برواية غيره ممن عُرفوا بالثقة والإتقان.
وقال الحافظ الذهبي: "اعلم أن أكثر المتكلّم فيهم، ما ضعّفهم الحفاظ إلا لمخالفتهم الأثبات" [12].
وقال الحافظ ابن رجب: "فاختلاف الرجل الواحد في الإسناد، إن كان متهمًا فإنه ينسب به إلى الكذب ، وإن كان سيئ الحفظ ينسب به إلى الاضطراب وعدم الضبط، وإنما يحتمل مثل ذلك ممن كثر حديثه وقوي حفظه كالزهري وشعبة ونحوهما" [13].
وقال المعلمي: "جُلُّ اعتمادهم في التوثيق والجرح، إنما هو على سبر حديث الراوي" [14].
فهذه نصوص عامة تدل على أن أكثر الأحكام على الرواة تتفرع عن الأحكام على أحاديثهم.
وأما الشواهد في الحالات الخاصة، فأكثر من أن تُحصر، ومن طالع كتب العلل والتواريخ والجرح والتعديل وقف على الكثير من ذلك.
ومن الواضح أن سبر حديث الراوي يتأثر بكون الراوي مقلًا أو مكثرًا، لأن المادة النقدية تتفاوت بين هذا وذاك، ولهذا قال ابن رجب في وصف أهل الإتقان، في النص السابق: "ممن كثر حديثه وقوي حفظه"، لأن الإتقان تزيد دلائله بكثرة الصواب، وهذا يستلزم كثرة الحديث.
وجميع ذلك يتأثر باجتهاد الناقد وشخصيته.
ولا ريب أن اللفظ الذي يُحْكَمُ به على الراوي لا يضبط هذه الجهات جميعًا، لا سيما من يكون في المراتب الوسيطة، التي لم يصل أصحابها إلى منزلة من يُحتج بهم، ولم يبلغوا إلى المنزلة التي يترك معها حديثهم جملة؛ لأن الناقد في مثل هذه المراتب يُعَبِّرُ عن المعنى الإجمالي المتحصل من نقد أحاديث الراوي، ولا يضع حكمًا كُليًا يشمل كل أحاديث الراوي بالقبول أو الرد.
وهذا ما يدل عليه كلام أهل العلم في أحكام تلك المراتب، حيث أقاموا للنظر والاعتبار المتعلق بالرواية قيمة في النقد، ولم يجعلوا الحكم على أحاديث هذا النوع من الرواة منوطًا بمجرد الألفاظ المستعملة في وصفهم، كما سيأتي.
ثانيًا: علاقة المصطلحات بالأحكام:
إن اللفظ من ألفاظ الجرح أو التعديل، كما أنه حكمٌ، فهو أيضًا يتضمن حكمًا؛ هو حكمٌ مبنيٌّ غالبًا على سَبْرِ الناقد لحديث الراوي بما يتوفر له من القرائن، ثم التعبير عن ذلك بلفظٍ له حكمٌ ومقتضى.
وهذا يقتضي أن القرائن التي استعملها الناقد في مرحلة السبر، قبل أن يصف الراوي بذلك اللفظ، تنبغي مراعاتها عند تحقيق مناط ذلك اللفظ في أي حديث من أحاديث ذلك الراوي [15].
يوضح ذلك:
أن مسار النقد عند الأئمة الأوّلين كان في الغالب مرتبًا على هذا النحو [16]:
1- تتبع أحاديث الراوي، ونقد كل حديث منها بخصوصه، بما يتوفر من القرائن والاعتبارات.
2- تحديد نسبة وقوع الغلط في حديث الراوي، بعد أن لا يظهر ارتياب في صدقه.
3- التعبير بلفظ يدل على مدى الثقة في حفظ الراوي عمومًا (لفظ الجرح أو التعديل).
أما مسار الحكم على الأحاديث عند مَن بعدهم، فقد أصبح مرتبًا على هذا النحو:
1- مدى الثقة في حفظ الراوي عمومًا (لفظ الجرح أو التعديل).
2- مرجحات في ذلك الحديث بخصوصه، وهي القرائن والاعتبارات.
3- الحكم على الحديث.
ومن الواضح أن اللفظ المعبر عن مدى الثقة في حفظ الراوي (لفظ التعديل أو الجرح) كان نتيجة عند أئمة النقد، فأصبح منطلقًا عند من بعدهم، وأن الناقد عبر بذلك اللفظ عن معنى عام يتعلق بالراوي، وليس من اللازم أن ينسحب على كلّ حديث من أحاديثه، بل يتفاوت ذلك بحسب دلالة اللفظ.
وقد قال الحافظ ابن رجب في وصف طريقة أئمة النقد: "لهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه" [17].
وليس مراد ابن رجب نفي الضوابط، وإنما أراد تفاوت جهات النظر من حديث إلى آخر، بحسب القرائن.
وهذا الذي ذكره الحافظ ابن رجب ينصب على طريقة أئمة النقد السابقين، أما بالنسبة لمن جاء بعدَهم فيتعين اتخاذ أحكام الأوائل على الرواة سبيلًا للحكم على الأحاديث، مع الأخذ في الاعتبار أن ألفاظهم في وصف الرواة لا تتفاوت في المراتب فحسب، بل تتفاوت أيضًا في قوة اعتمادها عند الحكم على أحاديث بأعيانها:
فبعض هذه الألفاظ غالبة اللزوم لأحكامها، مثل ملازمة لفظ "حجة" ولفظ "ثقة" لحكم "الاحتجاج" [18].
وبعضها دائمة اللزوم لأحكامها، مثل ملازمة لفظ "متروك" و"ذاهب الحديث" لحكم "الترك".
وبعضها لا تعدو أن تكون مرجحات توضع في كلّ حديث جنبًا إلى جنب سائر القرائن، مع ملازمتها غالبًا لحكمِ مطلق القبول للراوي المُعبّر عنه بقولهم "يُكتب حديثه"، ومع تفاوت قوتها في الترجيح بحسب قوة مراتبها.
إن من المعلوم أن الرواية إخبار، فكل راو هو مخبر لمن دونه وشاهد على من فوقه بما أخبر، وكما قال الشافعي : "كلُّ واحدٍ منهم مُثبِتٌ لِمَنْ حدّثه، ومُثبِتٌ على مَنْ حدّث عنه" [19]، فإذا صَدَقَ خبرُ كلِّ راوٍ عَمّنْ فوقَه، فالحديث محفوظ، وإلا فلا، وهذا يعني أنه في كلّ خبر حتى يثبت لا مناص من تحقق أمرين:
الأول: أن يكون كل راو سمع ذلك الخبر ممن فوقه.
الثاني: أن يكون قد حفظه حتى أداه إلى من دونه.
وعن الأول، انبثق شرط الاتصال والصدق.
وعن الثاني، انبثق شرط الضبط.
فالشروط في حقيقة الأمر تعود إلى هذه الثلاثة؛ لأن شرط الضبط ليس موقوفًا على ذلك الوصف الذي وُصِفَ به الراوي من ألفاظ الجرح والتعديل، بل المقصود بالضبط المتعلق بالرواية: أن يكون الراوي حَفِظَ تلك الرواية المعيَّنَة للدراسة، بحيث إذا ظهرت دلائل غلطه في ذلك الحديث ورجحت، انتفى شرط ضبطه لذلك الحديث، أو على الأقل وقع فيه تردد يقتضي ترك الاحتجاج به؛ وعليه، فإن اشتراط السلامة من الشذوذ والعلة يعود إلى اشتراط ضبط الراوي لذلك الحديث بخصوصه؛ لأن حفظ الرواية لا يستنبط دائمًا من اللفظ الذي وصف به الراوي، وإنما يؤخذ من مجموع أمرين: النظر الخاص بالحديث، واعتبار أوصاف رواته.
والمقصود أن الضبط له متعلقان:
الأول: الضبط الذي يتعلق بذات الراوي، وهو عَرَض، كسائر الأعراض البشرية، وهو المعنى الذي يعبر عنه في ألفاظ الجرح والتعديل، بعد أن يكون الراوي من أهل الصدق .
الثاني: الضبط الذي يتعلق بذات الرواية، وهو حكم نقدي، ويدخله اجتهاد المتأهلين المنضبط بشروطه، كسائر الأحكام النظرية الاجتهادية.
والعلاقة بين المعنيين: هي أن المعنى الأول يكشف عن مدى الثقة في حفظ الراوي، بحيث يكون ذلك حاضرًا عند النظر في ذلك الحديث، كأحد المرجحات لكون الحديث محفوظًا أو غير محفوظ، وليس باعتباره دائمًا الدليل الوحيد.
وإذا كان مدى الثقة في حفظ الراوي رفيعًا، قوي استقلالُه في إنتاج الحكم بأن الحديث محفوظ، كما أن مدى الثقة في حفظ الراوي إذا كان ضئيلًا جدًا، قوي استقلاله في إنتاج الحكم بأن الحديث غير معتبر به، ولكن في حالة توسط الراوي أو اختلاف النقاد فيه، تقوى الحاجة إلى المرجحات الأخرى، ومن ذلك نشأ اصطلاح "الاعتبار" واصطلاح "النظر" في أحكام مراتب التعديل والجرح، كما سيأتي.
على سبيل المثال، راويان: وقف الناقد من كليهما على دلائل الصدق، وتحقق من إتقان أحدهما، فوصفه بما يدل على ذلك، وظفر على الآخر بعدد من الأخطاء الدالة على قصور ضبطه، فعبر عن ذلك بواحدة من العبارات الدالة على توسطه في الضبط، أو أثنى عليه بما لا يدل على إتقان، أو أشار فيه إلى لين -: فقد اختلف حال الراويين، فاختلف اللفظان، ولكن الأهم أن اللفظين متفاوتان من حيث قوة اعتمادهما عند الحكم على حديث الراوي.
وذلك أن اللفظ الدال على الإتقان، يقتضي أن يُحكم لأحاديث صاحبه بالاحتجاج، إلا أن يعارضه في حديث معين دليل أقوى من مقتضى ذلك اللفظ.
أما اللفظ الآخر، فلا يؤخذ منه حكم عام، لأن الناقد عبّر به عن التفاوت في حفظ ذلك الراوي لأحاديثه، فغاية هذا اللفظ اعتبار معناه عند النظر في كلّ حديث لذلك الراوي.
وعلى هذا دل كلام أهل العلم في أحكام مراتب التعديل والجرح، كما سيأتي.
[1] يلاحظ نوع من التلاقي في معاني أدنى درجات التعديل مثل "صويلح" وأرفع درجات الجرح مثل "للضعف ما هو"، وأن تصنيفها قام على أساس ظاهر اللفظ.
[2] يُنظر "الجرح والتعديل" (2/37).
[3] الكفاية (ص23).
[4] مقدمة ابن الصلاح (157-161).
[5] وفي ذلك يقول الحافظ ابن حجر: "عكف الناس عليه، وساروا بسيره، فلا يُحصى كم ناظم له ومختصر، ومستدرك عليه ومقتصر، ومعارض له ومنتصر".
"نزهة النظر" (ص40).
[6] بغير تنوين للوزن، أو بالتنوين مع ترك همزة ما بعده.
فتح المغيث (2/109).
[7] (1/4)
[8] التقييد والإيضاح (ص157).
[9] العمل النقدي بطبيعته لا يتفق مع الوقوف عند الظواهر.
[10] شرح علل الترمذي (2/688).
[11] صحيح مسلم (1/7)، في المقدمة.
[12] الموقظة (ص52).
[13] شرح علل الترمذي (1/424).
[14] التنكيل (1/67).
[15] وهذا يعني الحرص على أحكام النقاد السابقين باعتبارها دالة على قرائن ربما ظهرت لنا وربما غابت عنا؛ إذ لا سبيل إلى الوقوف على جميع ما كان في صدورهم من القرائن والاعتبارات، لكن الاسترشاد بإشاراتهم ممكن مع طول الممارسة وحسن التدبر.
[16] لا حاجة إلى التذكير بأن ذلك لا يشمل الأئمة الحفاظ الكبار، ممن استفاض ذكرهم بالحفظ والمعرفة، فهؤلاء لا يتوقف توثيقهم على سبر أحاديثهم، بل إن أحاديثهم ميزان لأحاديث غيرهم، ومنهم جهابذة يزنون غيرهم.
انظر "الجرح والتعديل" (1/6 تحت ما عنون له بـ "طبقات الرواة"، و(1/10 تحت ما عنون له بـ"مراتب الرواة"، الطبقة الأولى في الموضعين.
[17] شرح علل الترمذي (2/582).
[18] أما لفظ "حجة" فالأمر فيه واضح لصراحة دلالته، وأما لفظ "ثقة"، فهذا هو الأصل اعتبارًا للاصطلاح الغالب، إلا أن ترشد القرائن إلى أن الناقد توسع في استعماله وأراد مطلق الثقة.
[19] "الرسالة" للإمام الشافعي (ص371-372).

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢