أرشيف المقالات

من أسباب اسوداد الوجوه يوم القيامة

مدة قراءة المادة : 32 دقائق .
من أسباب اسوداد الوجوه يوم القيامة


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلقد جعل الله - عز وجل - لأهل الآخرة علامات تظهر عليهم، ويُمكن من خلالها وبها التمييز بينهم، وبيَّن في كتابه - عز وجل - أن مما يُميَّز به أهل الآخرة بعضهم من بعض، صفة وجوه أهل الآخرة وحالها ولونها جميعها، وذكر - مقررًا ذلك ومؤكدًا عليه - أن هذه علامة فارقة بينهم، ولا يمكن لأحدهم أن يخرج عن أحد قسمين لها:
الأول: بيضٌ وجوهُهم.
والآخر: سودٌ وجوهُهم.

فقال الله - عز وجل -: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ [آل عمران: 106]، والمعنى - والله أعلم - أنه تبيَضُّ وجوه أهل الطاعة والإيمان، وتسودُّ وجوه أهل الكفر والعصيان، كما أن في هذه الآية الكريمة - أيضًا - إشارة إلى أن الوجوه قد تكون علامة على السعادة أو الشقاء؛ لأن الوجه إما أن تكون فيه علامة الإشراق والسعادة، وهي ما عبر عنه في هذه الآية بالبياض، فقال - عز وجل -: ﴿ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ﴾، أو تكون علامة على الظلمة والشقاوة، وهو ما عبر عنه في هذه الآية بالسواد، فقال - عز وجل -: ﴿ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾، "فجعل الله - عز وجل - اسوداد الوجوه يوم القيامة علامة على سوء المصير، كما جعل - عز وجل - بياضها علامة على حسن المصير"[1]؛ وذلك أن الوجوه هي - في الحقيقة - علامة على القلوب وما فيها، ودليل على ما بها في الحال والمآل.


والمقصود أن ما في القلوب، وما تقوم به الجوارح والأعضاء - وهي في الحَقيقة تبع له - وإن خفيَ عن الناس: يظهر على الوجوه ولا بد، بغضِّ النظر هل ظهر لفلان من الناس، أو فلان، أو لا؟
فظُلمة المعصية مثلاً في قلب صاحبها تورث - لزامًا - الظلمة الحسية لوجهه في الدنيا والآخرة؛ وذلك لأن للطاعة نورًا وبياضًا، وللمَعصية ظُلمة وسوادًا.

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "إنَّ للحسَنة لنورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وسَعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة لسوادًا في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرِّزق، وبُغضًا في قلوب الخلق"[2].


وشاهدُنا مِن قوله هذا رضي الله عنه هو: "إن للحسنة...
ضياءً في الوجه"، وقوله رضي الله عنه: "وإنَّ للسيئة لسوادًا في الوجه"، وهذا كما يقول ابن القيم[3]، ونقله عنه محمد رشيد رضا: "يعرفه صاحب البصيرة، ويشهده من نفسه ومن غيره"[4].

ويؤكد قول ابن عباس رضي الله عنهما ما رُوي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((وجدتُ للحسنة نورًا في القلب، وزَينًا في الوجه، وقوة في العمل، ووجدتُ للخطيئة سوادًا في القلب، وشينًا في الوجه، ووهنًا في العمل))[5].

ولذلك فإنَّ أهل الكفر والباطل، مِن الجن والإنس[6]، لا يُسألون - توبيخًا لهم وتقريعًا - عن ذنوبهم في بعض المواقف[7]، كما في قوله - عز وجل - مثلاً[8]: ﴿ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ ﴾؛ والسبب - والله أعلم - لأنه عز وجل "قد جعل لأهل الخير والشر يوم القيامة علامات يُعرفون بها"[9]، ولأنهم في ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ [آل عمران: 106]، فهم معروفون بوجوههم وألوانها، فلمَ يُسألون أو يُسأل عنهم؟! إذ يمكن - وبسهولة - والحال كذلك تمييزهم؛ بسبب هذا - اسوداد وجوههم - فصار المعنى: إن الملائكة لا تسأل عنهم وذنوبهم؛ لأنهم يَعرفونهم بسيماهم، وهي هنا - كما ذكرنا - اسوداد وجوههم، كما قاله مجاهد[10] وغيره، واختاره الفَرَّاء، وهو أحد الأقوال في تفسير هذه الآية[11].

وحتى أختم هذا، لا بأس أن أنقل هنا كلامًا لشيخ الإسلام ماتعًا ونافعًا، يوضح هذا ويجليه، ويصح - أيضًا - أن يكون قاعدة مطردة في هذا الباب؛ إذ قال - وهو يبين ما أشرنا إليه سابقًا - في كتابه "الاستقامة"[12]: "وهذا الحسن والجمال الذي يكون عن الأعمال الصالحة في القلب يسري إلى الوجه، والقبح والشين الذي يكون عن الأعمال الفاسدة في القلب يسري إلى الوجه، ثم إن ذلك يَقوى بقوة الأعمال الصالِحة والأعمال الفاسدة؛ فكلما كثر البر والتقوى قويَ الحسْن والجمال، وكلما قويَ الإثم والعدوان قويَ القُبْح والشَّين، حتى ينسخ ذلك ما كان للصورة من حسن وقبح، فكم ممَّن لم تكن صورته حسنة ولكن من الأعمال الصالحة ما عظم به جماله وبهاؤه، حتى ظهر ذلك على صورته؛ ولهذا ظهر ذلك ظهورًا بينًا عند الإصرار على القبائح في آخر العمر - عند قرب الموت - فنَرى وجوه أهل السنَّة والطاعة كلما كبروا ازداد حسنها وبهاؤها، حتى يكون أحدهم في كبره أحسن وأجمل منه في صغره، ونجد وجوه أهل البدعة والمعصية كلما كبروا عظم قبحها وشَينُها حتى لا يستطيع النظر إليها من كان منبهرًا بها في حال الصغر لجمال صورتها، وهذا ظاهر لكل أحد فيمن يعظم بدعته وفجوره مثل الرافضة، وأهل المظالم والفواحش.." إلى آخر كلامه - رحمه الله.

فيظهر من هذا كله إذًا أن الوجوه على قسمين - لا ثالث لهما - يوم القيامة:
القسم الأول: وجوه بيض، وهذه إحدى النعم المُطلقة مِن الله - عز وجل - لأهل الطاعة والإيمان، والتي تزيد نور القلب، وبياض الوجه تبع له، ونتيجة عنه، فيفرح بها أهلها، وهي مما يحبه الله - عز وجل - ويرضاه، وهي خاصة بأهل الإيمان؛ كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "سيما الرجل المسلم من أهل الجنة: بياض وجهه"[13].

ويُقابله القسم الثاني: وجوه سود، وهذه إحدى العقوبات من الله - عز وجل - لأهل المعاصي والكفر، فهي تسوِّد القلب، وتُطفئ نوره، وتذهَب بإيمانه، أو تُقلِّله، وتذهب إلى ذلك بهجته، وتوهن قوته، والوجه تبع له قطعًا.

فالآية الكريمة كما أن فيها مدحًا وتزكيةً لبيض الوجوه، فإن فيها بالمقابل - كذلك - تقريعًا وتوبيخًا لمَن هم سود الوجوه؛ إذ تسويد الوجوه علامة على الخزْي، والمستلزم دخول النار، وثَمَّة أسباب لكلٍّ منهما، وسوف نقتصر في هذا المقال على ذكر شيء من أعظم الأسباب لاسوِداد الوجوه يوم القيامة، والتي تشمل بعض أهم الأعمال أو الأقوال التي استحقوا بها هذه العقوبة، والتي تُلحِق بهم: الخزي والهوان، والذلة والصغار، والفضيحة والعار، نسأل الله - عز وجل - السلامة والعافية في الدنيا والآخرة؛ ذلك لأنهم - وما مِن شكٍّ - إنما وقعوا فيها، بسبب أفعالهم المُنكَرة، وأقوالهم الباطلة، نعوذ بالله - عز وجل - من هذا الحال.

من أسباب اسوداد الوجوه يوم القيامة[14]:
السبب الأول - الكفر بعد الإيمان[15]:
قال الله - عز وجل -: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ [آل عمران: 106].

يقول الإمام الطبري[16] - مبينًا مَن هم الفريقان -: "فمعلوم - إذ لم يكن هنالك إلا هذان الفريقان - أن جميع الكفار داخلون في فريق مَن سُوِّد وجهه، وأن جميع المؤمنين داخلون في فريق من بُيِّض وجهه، فلا وجه إذًا لقول قائل: إنه عنى بقوله: ﴿ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾: بعض الكفار دون بعض[17]، وقد عمَّ الله - جل ثناؤه - الخبرَ عنهم جميعهم، وإذا دخل جميعهم في ذلك، ثم لم يكن لجميعهم حالة آمنوا فيها ثم ارتدوا كافرين بعدُ إلا حالة واحدة، كان معلومًا أنها المرادة بذلك".

وممن تشملهم الآية - كما رُوي تفسيرًا لهذه الآية عن بعض السلف -:
• المنافقون؛ كما قال الحسن البصري[18].

• وأهل البدعة والفُرقة[19]: كما روي[20] عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "حين تبيضُّ وجوه: أهل السنة والجماعة، وتسودُّ وجوه: أهل البدعة والفُرقة"[21].

إشكال[22]:
ولقائل - هنا - أن يقول: لماذا لما ذكر الله - عز وجل - القسمين أولاً في الآية قال: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ فقدَّم البياض على السواد في اللفظ، ثم لما شرع في حكم هذين القسمين قدَّم حكم السواد، وكان حق الترتيب أن يقدم حكم البياض؟!

والجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أن الواو للجمع المُطلَق لا للترتيب.

وثانيها: أن المقصود من الخَلق إيصال الرحمة، لا إيصال العذاب.

قال - عليه الصلاة والسلام - حاكيًا عن رب العزة سبحانه: ((خلقتُهم ليربحوا عليَّ، لا لأربح عليهم))[23].

وإذا كان كذلك، فهو تعالى ابتدأ بذكر أهل الثواب وهم أهل البياض؛ لأن تقديم الأشرف على الأخس في الذِّكر أحسن، ثم ختم بذكرهم - أيضًا - تنبيهًا على أن إرادة الرحمة، أكثر من إرادة الغضب كما قال: ((سبقَت رحمتي غضبي))[24].

وثالثها: أن الفصحاء والشعراء قالوا: يجب أن يكون مطلع الكلام ومقطعه شيئًا يسر الطبع، ويشرح الصدر، ولا شك أن ذكْر رحمة الله هو الذي يكون كذلك، فلا جرم وقع الابتداء بذكر أهل الثواب والاختتام بذكرهم.

ورابعها[25]: أنها جاءت على قاعدة اللفِّ والنَّشر[26] غير المرتَّب كما في علم البيان أو البديع، قاله العثيمين- رحمه الله - في الشرح الممتع[27]، والله أعلم.

السبب الثاني - الكذب على الله - عز وجل -:
قال الله - عز وجل -: ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ [28] مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [الزمر:60].

قال ابن تيمية - رحمه الله -: "الكذب أصل للشر، وأعظمه الكذب على الله عز وجل، والصدق أصل للخير، وأعظمه الصدق على الله تبارك وتعالى"[29]، ولا أظلم ممَّن كذب على الله - عز وجل - وعلى دينه؛ كما يقول ابن القيم رحمه الله[30]؛ فالكاذب على الله - عز وجل - من أعظم الناس جرمًا، وأشدهم إثمًا؛ ألا ترى أن الله - عز وجل - سوَّى بين من كذب عليه - عز وجل - وبين الكافر؟ وما ذلك إلا لعظم الكذب عليه عز وجل، فقال - عز وجل -: ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ﴾[الأعراف:37]؛ ولذلك استوجب الكاذب على الله - عز وجل - هذا السواد، واستحق هذا الوعيد.


السبب الثالث - اكتساب السيئات:
قال الله - عز وجل -: ﴿ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا ﴾ [يونس: 27].

فشرح الله - عز وجل - في هذه الآية وبين حال من أقدم على السيئات، فذكر - عز وجل - من أحوالهم أمورًا أربعة[31]:
أولها: قوله - عز وجل -: ﴿ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا ﴾.
وثانيها: قوله - عز وجل -: ﴿ وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾.
وثالثها: قوله - عز وجل -: ﴿ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ﴾.
ورابعها: قوله - عز وجل -: ﴿ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا ﴾.

فجعل أحد العقوبات والتي باتت علامة وسيَما عليهم، استحقوها بكسبهم لهذه السيئات؛ هي أن جعل وجوههم كأنها: ﴿ قِطَعًا [32] مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا ﴾؛ كناية عن شدَّة سوادها، وإنما شبَّهها بالليل - والله أعلم - لأنه وكما رُوي عن الحسن البصري: "ما خلق الله خلقًا أشد سوادًا من الليل"[33]، فنعوذ بالله - عز وجل - من هذا الحال.

ولذلك قال ابن كثير - رحمه الله -: "الآية إخبار عن سواد وجوههم في الدار الآخرة"[34].

وقال القاسمي أيضًا - رحمه الله -: "﴿ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا ﴾: لفرط سوادها وظلمتها"[35].

السبب الرابع - الكفر والفجور:
قال الله - عز وجل -: ﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ﴾ [عبس: 40 - 42].

ومعنى قوله - عز وجل -: ﴿ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ﴾؛ أي: "يعلوها ويغشاها سواد كالدخان الأسود"[36].

قال الرازي: "ولا يُرى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه، كما ترى وجوه الزنوج إذا اغبرَّت، وكأن الله تعالى جمع في وجوههم بين: السواد والغبرة، كما جمعوا بين: الكفر والفجور، والله أعلم"[37].

السبب الخامس - الإجرام:
قال الله - عز وجل -: ﴿ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ﴾ [الرحمن: 41].
يقول الحسن في قوله - عز وجل -: ﴿ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ﴾ [الرحمن: 41]: "يُعرفون باسوداد الوجوه، وزُرقة العيون"[38]، وبمثله قال قتادة[39]، واختاره الرازي فقال: "وتلك العلامة هي سواد الوجه وزرقة العين"[40]، ووافقه صاحب الأضواء[41] فقال: "أي: بعلامتهم المميزة لهم، وقد دلَّ القرآن على أنها هي: سواد وجوههم، وزرقة عيونهم".

قال الرازي: "الآية عامة، وإن نزلت في قوم خاص"[42].

ويقول أيضًا الله - عز وجل -: ﴿ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ﴾ [طه: 102].

يعني زرق العيون سود الوجوه؛ كما قال الضحاك ومقاتل[43]، وكأنه مال إليه البغوي[44]، واختاره الجزائري[45].

قال الشنقيطي: "وأقبح صورة أن تكون الوجوه سودًا والعيون زرقًا، ألا ترى الشاعر لما أراد أن يصور عِلل البخيل في أقبح صورة وأشوهها اقترح لها زرقة العيون، واسوداد الوجوه في قوله:






وللبَخيل على أمواله عِلَل
زرق العيون عليها أوجُه سُود[46]







 
ويقول أيضًا الله - عز وجل -: ﴿ وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [القصص: 78]، فعن مجاهد أنه قال: في قول الله - عز وجل -: ﴿ وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾، "هو كقوله: ﴿ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ﴾، يعني: زرقًا سود الوجوه، يقول: الملائكة لا تسأل عنهم قد عرفتْهم"[47].

السبب السادس - الفجور:
قال الله - عز وجل -: ﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ﴾ [القيامة:24]، قال ابن كثير: "هذه وجوه الفجار[48] تكون يوم القيامة باسرة"[49]، وقال الطبري: "ووجوه يومئذٍ متغيرة الألوان، مسودة كالحة"[50].
 
وقال الرازي: "المعنى أنها عابسة كالحة قد أظلمت ألوانها، وعدمت آثار السرور والنعمة منها؛ لما أدركها من الشقاء، واليأس من رحمة الله، ولما سودها الله حين ميز الله أهل الجنة والنار"[51].
 
وختامًا:
اعلم أن بعض أهل العلم يقول: إن هذه الأسباب في الحقيقة - والله أعلم - هي نتاج شيء واحد متفرعة عنه، وإن عبر عنه بعبارات مختلفة، وهو الكفر بالله - عز وجل - بأنواعه، كما نص على ذلك غير واحد من أهل العلم، والله أعلم.
 
فائدة[52]:
وإذا عرفت هذا، فنقول: في هذا البياض والسواد والغبرة والقترة والنضرة - وغيرها مما ذكر في الآيات ولم يذكر هنا - أن لأهل العلم فيه قولين:
أحدهما: أن البياض مجاز عن الفرح والسرور، والسواد - وغيره - عن الغم، وهذا مجاز مستعمل.
 
والقول الثاني: أن هذا البياض والسواد يحصلان - حقيقة - في وجوه المؤمنين والكافرين؛ وذلك لأن اللفظ حقيقة فيهما، ولا دليل يوجب ترك الحقيقة، فوجب المصير إليه.
 
قلت (بكر): وهذا هو الظاهر، والذي رجحه جماعة من المحققين من أهل العلم، والله - عز وجل - أعلم.
 
فائدة[53]:
كما ينبغي أن يعلم - أيضًا - أن الناس قد اختلفوا في صيَغِ جمْع المذكَّر، مظهره ومضمره، مثل: المؤمنين، والأبرار...
وغيرها - مما ورد هنا - وهل يدخل النساء في مطلق اللفظ، أو لا يدخلون إلا بدليل؟ على قولين:
[القول الأول: وهو] أشهرها عند الحنابلة ومن وافقهم: أنهم يدخلون؛ بناءً على أن من لغة العرب إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلَّبوا المذكَّر، وقد عهدنا من الشارع في خطابه أنه يعم القِسمين، ويدخل النساء بطريق التغليب، وحاصله أن هذه الجموع تستعملها العرب تارة في الذكور المجردين، وتارة في الذكور والإناث، وقد عهدنا من الشارع أن خطابه المطلق يجري على النمط الثاني، وقولنا: المطلق، احتراز من المقيد؛ مثل قوله - عز وجل -: ﴿ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [الأحزاب: 35]، ومن هؤلاء من يدعي أن مطلق اللفظ في اللغة يشمل القسمين.
 
والقول الثاني: أنهن لا يدخلن إلا بدليل، ثم لا خلاف بين الفريقين أن آيات الأحكام والوعد والوعيد التي في القرآن تشمل الفريقين وإن كانت بصيغة المذكر، والله أعلم.
 
وهنا نصل إلى ختام ما أردنا ذكره وبيانه، وسرده وتحريره، والحمد لله رب العالمين.
 
وكتبه: أبو عبدالله بكر البعداني.



[1] تفسير ابن عاشور (24 / 119).


[2] ذكره شيخ الإسلام في غير ما موضع من كتبه؛ منها على سبيل المثال: منهاج السُّنة (1 / 269)، والاستقامة (1 / 351) وغيرهما، وكذا تلميذه ابن القيم؛ كما في الداء والدواء (ص: 73)، والوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 43) وغيرهما، وانظر أيضًا: ذم الهوى (1 / 181)؛ لابن الجوزي.


[3] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1 / 424).


[4] مجلة المنار (17 / 113).


[5] أخرجه أبو نعيم في الحلية (2 / 161)، وقال: "غريب من حديث الحسن عن أنس، لم نكتبه إلا من هذا الوجه، تفرَّد به عمرو بن أبي قيس، وأبو سفيان اسمه عبدربه"، وقال ابن أبي حاتم: "وسألت أبي عن حديث - وذكره، ثم قال -: قال أبي: هذا حديث منكر، وأبو سفيان: مجهول"؛ علل الحديث (2 / 139)، وانظر: ميزان الاعتدال (4 / 532).


[6] فائدة: قال ابن القيم: "أضاف الذنوب إلى الثقلين، وهذا دليل على أنهما سويًّا في التكليف"؛ طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 150).


[7] قال ابن كثير: "وكأن هذا بعدما يؤمر بهم إلى النار، فذلك الوقت لا يسألون عن ذنوبهم، بل يقادون إليها ويلقون فيها"؛ تفسير القرآن العظيم (4 / 332)، وانظر: في بيان هذا وأجوبة أهل العلم عليه دفع إيهام الاضطراب للشنقيطي، وغيره.


[8] ومثلها قوله - عز وجل -: ﴿ وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [القصص: 78]، ويأتي بيانها لاحقًا.


[9] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 831)؛ للسعدي.


[10] يأتي معنا، وانظر: تفسير القرآن العظيم (4 / 332)؛ لابن كثير.


[11] انظر: زاد المسير (6 / 243)؛ لابن الجوزي، وتفسير القرآن العظيم (4 / 332)، وتفسير الماوردي النكت والعيون (5 / 436 - 437).


[12] (1 / 364).


[13] مفاتيح الغيب (14 / 250).


[14] وسأسوقها كما وقفت عليها، وكما وردت في الأدلة، وإن كان في بعضها تداخل.


[15] وعبرنا بهذا لما جاء في الآية، وفائدته: حتى تكون الآية عامة في حق كل الكفار، والله أعلم.


[16] جامع البيان في تأويل القرآن (7 / 96).


[17] انظر أقوالهم في مفاتيح الغيب (8 / 319).


[18] أخرجه ابن أبي حاتم رقم: (3953)، وانظر: مفاتيح الغيب (8 / 319)، وتفسير القرآن العظيم (1 / 479).


[19] على خلاف بين العلماء في تكفير أهل البدع على قولين، كما ذكر ذلك جملة من المحققين؛ كالشاطبي في الاعتصام (1 / 110) وغيره.


[20] وقد روي مرفوعًا ولا يصح، فهو موضوع كما قال الشوكاني في الفوائد المجموعة (ص: 317) وغيره، ومع أن الكثير من العلماء قد تتابعوا على ذكره والاستدلال به، إلا أنه قد ضعفه بعضهم - موقوفًا ومرفوعًا - ومن أفضل وأقوى ما قرأت في ذلك كلام الشيخ محمد عمرو عبد اللطيف - رحمه الله - وانظر كلامه في تكميل النفع بما لم يثبت به وقف ولا رفع (1 / رقم: 12).


[21] تفسير القرآن العظيم (1 / 479)، والبغوي (2 / 87).


[22] مفاتيح الغيب (8 / 319)، وانظر: الفقيه والمتفقه (1 / 394).


[23] قلت (بكر): لم أجده بهذا اللفظ - مع طول بحث - ولا أراه يصح مرفوعًا، والله أعلم، ثم رأيته في تخريج العراقي لأحاديث إحياء علوم الدين برقم: (3471) ولفظه: ((يقول الله - عز وجل -: إنما خلقت الخلق ليربحوا عليَّ، ولم أخلقهم لأربح عليهم))، قال العراقي: "لم أقف له على أصل"، وعلق عليه بعضهم بقوله: "قلت: ولفظ القشيري في الرسالة: ((وقيل: أوحى الله إلى داود عليه السلام قل لهم: إني لم أخلقهم لأربح عليهم؛ وإنما خلقتهم ليربحوا عليَّ))، ثم قال: فظهر أنه خبر إسرائيلي" اهـ، والحمد لله رب العالمين.


[24] أخرجه البخاري رقم: (7114)، ومسلم: (2751)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.


[25] لم يذكر هذا الجواب الرازي، وأضفته للفائدة.


[26] اللف والنَّشر: هو فنٌّ في المتعددات التي يتعلق بكل واحد منها أمر لاحق، فاللف يشار به إلى المتعدد الذي يؤتى به أولاً، والنشر يشار به إلى المتعدد اللاحق الذي يتعلق كل واحد منه بواحد من السابق دون تعيين، أما ذكر المتعددات مع تعيين ما يتعلق بكل واحد منها فهو التقسيم، فإذا أتى المتكلم بمتعدد، وبعده جاء بمتعدد آخر يتعلق كل فرد من أفراده بفرد من أفراد السابق بالتفصيل ودون تعيين، سمي صنيعه هذا "لفًّا ونشرًا"، وهو أن تلف في الذكر شيئين فأكثر، ثم تذكر متعلقات بها، وفيه طريقتان: أن تبدأ في ذكر المتعلقات بالأوَّل، وأن تبدأ بالآخر، والله أعلم.


[27] (2 / 129)، (9 / 228 - 368).


[28] وقرئ في الشواذ: {وجوهَهم}على البدل، غرائب التفسير وعجائب التأويل (2 / 1018)؛ لأبي القاسم برهان الدين الكرماني، والمعروف بتاج القراء.


[29] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (2 / 51).


[30] إعلام الموقعين عن رب العالمين (4 / 189).


[31] مفاتيح الغيب (17 / 242) بتصرُّف واختِصار.


[32] فائدة: قرئت: (قطعًا وقطعًا)؛ بالنصب للطاء وإسكانها، قال الطبري: "والقراءة التي لا يَجوز خلافها عندي، قراءة من قرأ ذلك بفتح الطاء".


[33] الحاوي (2 / 301)؛ للسيوطي.


[34] تفسير القرآن العظيم (2 / 505)، وانظر: تفسير السعدي (ص: 362).


[35] محاسن التأويل.


[36] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7 / 505)، وانظر: تفسير القرآن العظيم (4 / 573).


[37] مفاتيح الغيب (31 / 62).


[38] جامع البيان في تأويل القرآن (23 / 52)، وتفسير عبدالرزاق (3 / 269)، وانظر: زاد المسير في علم التفسير (4 / 212)؛ لابن الجوزي، وتفسير القرآن العظيم (4 / 332)، وتفسير القرطبي (17 / 175).


[39] جامع البيان في تأويل القرآن (23 / 52).


[40] مفاتيح الغيب (17 / 243)، وهو يوافق قول مجاهد كما في تفسير ابن أبي حاتم رقم: (17130)، والطبري (19 / 627).


[41] (7 / 504).


[42] مفاتيح الغيب (29 / 324).


[43] مفاتيح الغيب (22 / 98).


[44] معالم التنزيل (5 / 294).


[45] أيسر التفاسير (3 / 376).


[46] أضواء البيان (1 / 206) (7 / 505).


[47] تفسير مجاهد (ص: 532)، وابن أبي حاتم رقم: (17884)، وجامع البيان في تأويل القرآن (19 / 627).


[48] قال في النهاية في غريب الحديث والأثر (3 / 785): "جمع فاجر، وهو: المنبعث في المعاصي والمحارم".


[49] تفسير القرآن العظيم (4 / 542).


[50] (24 / 73).


[51] مفاتيح الغيب (30 / 733).


[52] مفاتيح الغيب (8 / 317) بتصرُّف واختِصار.


[53] مجموع فتاوى ابن تيمية (6 / 437) بتصرف.

شارك الخبر

المرئيات-١