الجور على الأجراء - عبد اللطيف بن هاجس الغامدي
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
اقتضت حكمة الله تعالى، وهو الحكيم الخبير أن يجعل الناس درجات في الرزق ، وطبقات في المعيشة، ليبتلي الفقير بفقره، والغني بغناه، والضعيف بضعفه، والقوي بسطوته وقواه. قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35].
وسخَّر الله الفقراء للأغنياء في بعض الأمور، وسخَّر الأغنياء للفقراء في بعض الشؤون، لينظر كيف يعملون، وفي ذلك من الحكم ما لا يحويه حد أو يجمعه رصد، ولكن الناس عن آيات ربِّهم غافلون! قال الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32].
ولعلمه سبحانه بأن من الأغنياء والأقوياء من يستفزُّه غناه، وتستثيره قوته، وتهيجه سطوته، فيظلم ويقهر، ويطغى ويتجبر على الضعفة والمساكين والفقراء المعدمين، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ .
أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ} [العلق:6، 7].
وأمر برحمة الفقير، واللطف مع الضعيف، والرأفة بالمسكين، والحنو على البائس، وجعل دعاءهم سبب الفلاح وأُسّ النجاح.
فعن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّما يَنصُرُ الله هذه الأُمَّةَ بِضَعيفَها، بِدَعوتِهِم، وصلاتهم، وإخلاصِهِم» (صحيح النسائي:3178].
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قا ل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابغُوني الضَّعيفَ، فإنَكُم تُرزَقُونَ، وتُنصَرُون بضُعَفَائكُم» (صحيح النسائي:3179).
وحرَّم ظلمهم، والتعدي عليهم، والقسوة معهم، وجعل ذلك في الدواوين المبنية على المشاحَّة والمحاسبة والتدقيق! فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الظلم ُ ثلاثةٌ، فظلمٌ لا يتركه اللهُ، وظلمٌ يُغفر، وظلمٌ لا يغفر، فأما الظلمُ الذي لا يُغفر، فالشرك لا يغفره الله، وأما الظلمُ الذي يُغفر، فظلم العبد فيما بينه وبين ربِّه، وأما الظلم الذي لا يُترَك، فظلمُ العباد، فيقتص الله لبعضهم من بعض» (صحيح الجامع:3961).
ولو كانت الأمور تنتهي بانتهاء الحياة لكان الداعي للعنف موجود، ووازع الكف عن الأذى مفقود، ولكنَّ المصيبة الرهيبة أن انتهاء الحياة بداية للحياة الأخرى حيث الحساب والعقاب، والسؤال والجواب، والمحاسبة الدقيقة على كلِّ جناية وجريمة، فالوقوف بين يدي الحكم العدل، الذي لا تغيب عنه غائبة، ولا يعزب عنه مثقال ذرَّة سبحانه لا إله إلا هو، وقد توعَّد الظالمين بالجزاء الموافق لذنوبهم، والمناسب لمعاصيهم، والقصاص منهم لمظلوميهم، وعند الله تجتمع الخصوم! فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتُؤدُّنَّ الحقوقَ إلى أهلها يوم القيامة ، حتَّى يُقادَ للشاةِ الجلحاءِ من الشاة القرناء» ( صحيح مسلم :2582).
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقضي الله بين خلقِه الجن ِّ والإنسِ والبهائم، وإنَّه ليَقِيدُ يومئذ الجماء من القرناء، حتى إذا لم يبق تبعة عند واحدة لأخرى، قال الله: كونوا ترابًا، فعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابًا» (السلسلة الصحيحة:1966)
فمن جمحت به نفسه، وغرَّته قوته، وخدعته قدرته، واستفزَّه غناه، فظلم الأجراء الضعفاء، وتعدَّى عليهم أو أساء إليهم، فليبادر بالتحلل منهم، والتخلص من تبعات ظلمهم، وطلب المسامحة منهم، ورد المظالم وإرجاع الحقوق لهم، قبل أن يأتي بها في ميزان سيئاته، ويحملها فوق ظهره، ليكون القصاص! فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحللهُ منها، فإنه ليس ثَمَّ دينارٌ ولا درهم، مِن قبلِ أن يؤخذ لأخيهِ من حسناتِه، فإن لم يكن لهُ حسناتٌ أُخذ مِن سيِّئاتِ أخيهِ فطرحت عليهِ» (صحيح البخاري :6534).
وعن عبد الله بن أُنيس رضي الله عنه أنّه سمع النبي َّ صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشُر الله العبادَ يوم القيامة عُراةً غُرلاً بُهمًا».
قال: قلنا: وما بُهمًا؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ليس معهم شيءٌ، ثُمَّ ينادِيهم بصوتٍ يسمعُه مَن بعدَ كما يسمعُه من قَرُب: أنا الديَّان، أنا الملك، لا ينبغي لأحدٍ من أهل النار أن يدخل النار وله عندَ أحدٍ من أهل الجنَّة حقٌّ؛ حتى أَقُصَّهُ منه، ولا ينبغي لأحدٍ من أهل الجنة أن يدخلَ الجنّة ولأحدٍ من أهل النار عنده حقٌّ حتى أقُصَّه منه، حتى اللَّطمَةَ».
قال: قلنا: كيفَ، وإنما نأتي عراةً غُرلاً بُهمًا؟! قال صلى الله عليه وسلم: «الحسناتُ والسيِّئات» (صحيح الترغيب:3608).
وعن عائشة رضي الله عنها "أن رجلاً قعد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنَّ لي مملوكين؛ يكذبونني، ويخونونني، ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا منهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «يُحسَبُ ما خَانُوكَ وعصَوكَ وكذَّبوكَ، وعقَابُكَ إيَّاهم، فإن كان عقابك إيَّاهم بقدرِ ذُنُوبهم كان كفافًا لا لكَ ولا عليكَ، وإن كان عِقابُك إياهُم دونَ ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابُك إيَّاهُم فوقَ ذُنُوبهم اقتُصَّ لهم منكَ الفضلُ».
قال: فتنحى الرجل، فجعل يبكي ويهتف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أما تقرأ كتابَ الله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ}» .
فقال الرجل: والله! يا رسول الله، ما أجد لي ولهم شيئًا خيرًا من مفارقتهم، أشهدك أنهم أحرار كلهم" (صحيح الجامع:8039).
ففي هذا الميزان الدقيق يجب على كلِّ من ولاه الله تعالى ولاية -دقَّت أو جلَّت- أن يضع أعماله وأن يزن أفعاله، قبل أن يأتي يومٌ لا مردَّ له من الله، فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل.
(ملحوظة: يراجع كتابي: (العنف الأسري ))