حارث الضاري فقيد الأمة - حسن الخليفة عثمان
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقــْبـِضُ الْعِلْمَ انْتزَاعًا يَنْـتَزِعُهُ مِنْ الْعـِبَـادِ ولَكِـنْ يَـقـْبـِضُ الْعِـلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمـَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا فَسـُئـِلُوا فَأَفْتـَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَـلُّوا وَأَضَـلُّوا» (رواه البخاري ).* فقدت الإنسانية مشعلاً من مشاعل الهدى ومصباحاً منيراً للسائرين نحو المعالي والدرجات العلى، وودّعت الأمة الإسلامية عظيماً من حملة اللـواء وقادة المسيرة ودعاة الحق.
* لقد ترجل الفارس، الذي لطالما كان الصخرة التي تحطمت على صموده أحلام الصناديد من الطغاة والفاسدين المستبدين.
* رحل الربانيّ الذي حمل الميثاق فبـيّــنه للناس، ولم يكتمه ولم يشتر به ثمناً قليلاً، فما ذلّه رغب، ولا ضلّه رهب، بل كان الضابط العدل، والثبت الثــقة، الذي نفى عنه تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ.
* إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ يكون بذَهَاب حَمَلَتِهِ، وقد مُنيَ أهل السنة في العراق بثُــلمة لا تُسد ما تعاقب الليل والنهار، وفقدت رجلاً من رجالاتها الذين سطّروا للإنسانية عامة، وللأمة المسلمة خاصة أسمى معان الرجولة والرقي والنبل والمروءة، في الوقوف في وجه الظالم مهما عزّ، ومناصرة المظلوم مهما هان، والدفاع عن الشرف والعرض والكرامة والوطن، مهما كان الثمن والتضحية في ذلك.
* لقد كان الموقف المشرف الذي وقفه الشيخ (حارث الضاري رحمه الله) ورفضه للاجتياح العـراقي الغاشم للكـويت واعتراضه على هذا القرار الذي اتخذه الرئيس (صدام حسين) كان ذلك الموقف مما سطّره التاريخ للرجل في حياته حيث عانى بسبب موقفه هذا من نظام (صدام حسين) الكثير من الإضطهاد لكن هذا لم يحمله على القبول بالظلم والإعانة عليه في الإعتداء على دولة الكويت وشعبها المسالم.
إن المتأمل في سيرة ومسيرة الشيخ (الضاري) ليجد نفسه أمام شخصية اجتمع فيها من الشمائل وخصال الخير ما قل أن تجتمع في الكثيرين من غيره من أهل العلم وحملته، ذلك أن الله جمع له في شخصيته خيرية المعدن والأصل، مع رفيع الشرف بالعلم والفقه، حيث أنه ينتمي لواحدة من عريق عشائر العراق، وهي عشائر زوبع، التي تنتمي إلى قبائل شمر الطائية العربية، وقد تميــزت عبر تاريخها بمقاومة الغـزاة..
وقد قدمت وبذلت الكثير عبر تاريخها في سبيل الدفاع عن العراق والأمة جميعاً، بل عن الإنسانية جمعاء في سبيل إرساء قيم الحق والعدل والكرامة الإنسانية، وإعلاء قيمة حق الإنسان في حياة كريمة أو رحيل أكرم، فكان بذلك النسب الرفيع من أولئك الذين صدق فيهم قول المعصوم صلى الله عليه وسلم فيما رواه (البخاري، ومسلم) في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تجدون الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا».
وكما كان للشيخ (الضاري رحمه الله) موقفه في مواجهة (صدام حسين) ورفضه لظلمه، فقد اتخذ موقفاً أكثر صلابة من الاحتلال الأمريكي للعراق، ومن الاستبداد والتطهير العرقي الذي تمارسه القوات الإيرانية لأهل السنة، وما ارتكبته حكومة المالكي من أهوال تشيب لها الولدان في حق أهل السنة، من قتل وإعدامات واغتصاب وتهجير وإبادة، تحت سمع وبصر ورعاية المجتمع الدولي، الذي لم يحرك ساكناً بل دعّم المعتدين وأعانهم على ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية..
بما سمح بانـتــشـار التطرف والإرهاب في كل أرجاء المنطقة العربية، ووقف المجتمع الدولي يؤجج النار بين أهل السنة وبين الشيعة ، ويدعم النظم الدكتاتورية الظالمة المجرمة، التي حولت شعوبها إلى قنابل من اليأس والإحباط حين جردتها من كل مقومات الحياة، فوجدت الشعوب نفسها كالأيتام على موائد السفهاء واللئام، الذين لا يعرفون حقاً لأحد غيرهم في الحياة، والذين حولوا النظام العالمي إلى غابة مملؤة بالذئاب المتصارعة، لا بقاء فيها إلا للأقوى، والويل فيها للمغلوب!
* تميّـزت مسيرة الشيخ (الضاري)-رحمه الله- بالربانية في الرسالة والهدف والغاية، والإعتقاد الجازم بأن الأمور تسير بقدر الله، وأن الآجال والأرزاق بيد الخالق، فحرص كل الحرص على ألا يخون ما حمل من رسالة، وما أودعته الأمة من أمانة، فبلّغ وأدّى، واستفرغ الوسع في اجتهاده ونصحه، فربما أصاب وربما أخطأ شأن البشر، لكنه أبداً لم يخن أمته ولم ينقض لأحد عهداً.
* كذلك كان مما ميّــز الشيخ (الضاري رحمه الله) ما تبناه من لغة الخطاب البعيد عن الطائفية والعصبية المقيتة، رغم ما عاناه على أيد الميليشيات الشيعـية، إلا إنه كان يحرص على ألا يجعل المعركة محصورة بين السنة والشيعة، وإنما كانت معركته مع النظام الحاكم الظالم المستبد، الذي ينكّــل بأهل السنة في العراق بدعم من الجهات الخارجية، كما جعل من ثوابته التي لا محيد عنها هي وحدة العراق، ورفض أي دعوات لتقسيمه وتفـتـيـته، وقد كانت هيئة علماء المسلمين التي أسسها -رحمه الله- عقب الغزو الأميركي للعراق هي أبرز الكيانات، التي عُدت المرجعية التي يثـق بها أهل السنة بالعراق، وقد جعلت الهيئة من ثوابتها وحـدة العراق والبعد عن الطائفية، ومشاريع الفيـدرالية أو الأقاليم الذي دعت إليه أطراف سنية، واعتبرتها مشاريع تفضي إلى تقسيم البلاد.
* لن نكون مبالغين في القول إذا قلنا إن ما يحاك لأهل السنة جميعاً الآن فصاعداً ليس أقل من محرقة أو إبادة جماعية لهم، بفعل ما ارتُكب من خيانات عربية أدت إلى فقدان العرب لأقطار ودول كاملة، سقطت في أيدي خصومهم، وباتت مسرحًا ومرتعاً للمخططات الأجنبية والخارجية، لا مكان فيها ولا حياة إلا لحفنة العملاء الذين سيأتي عليهم الدور لاحقاً لتطحنهم الآلة الاستعمارية الجبّارة، التي أول من تحتقر هم أولئك الذين أعانوها على احتلال شعوبهم وبلدانهم.
* ويبقى لنا أن ننبّه ونحذّر الجميع من الخطر المحدق بأرض الحرمين، ومهبط الوحي وقبلة المسلمين، ومهوى أفئدتهم، التي باتت هدفاً عاجلاً أو آجلا للنيران الآثمة المجرمة، وقد آن الآوان للتحرك (التركي السعودي القطري) العاجل والسريع لمعالجة الأوضاع، والوقوف على المخاطر المحدقة بالمنطقة العربية، والشرق الأوسط.
* كما إننا ندعو إلى حوار جاد مع (إيــران) توضع فيه النقاط على الحروف، فلا يصح أن يُباد الشعب السوري من أجل إصرارها على بقاء طاغيتها الحاكم في سوريا ، والذي لم يعد له مكان في عالم السياسة، كما لا يصح أن يهجّر أهل السنة من العراق من أجل بناء إمبراطورية إيرانية موهومة.
رحم الله فقيد الأمة وحامل لواء السنة الشيخ (حارث الضاري)، ونسأل الله أن يسكنه فسيح جناته، وأن يخلف الأمة في مصابها خيرًا.