رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه


الحمد لله العلي العظيم القادر، هو الأولُ والآخر والباطن والظاهر، عالم الغيب والشهادة المطلع على السرائر والضمائر.
خلق فقدَّر ودبّر فيسر، فكل عبد إلى ما قَدَّره عليه وقضاه صائر.
أحمده سبحانه على خفيّ لطفه، وجزيل بره المتظاهر.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ولد ولا مظاهر.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الآيات والمعجزات والبصائر.
اللهم صلّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن على سبيله إلى الله سائر.
وسلم تسليماً كثيراً.
 
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، والزموا طاعته في حال الصحة والقوة، يثبتكم على دينكم في حال المرض والضعف، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
 
عباد الله: ما زلنا نبحر واياكم في، ظلال حديث سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل الا ظله.
 
امام عادل، شاب نشأ في عبادة الله، رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجلٌ قلبه معلق بالمساجد، ورجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال إني أخاف الله.
 
واليوم مع الصنف السادس ممن يظلهم الله في ظله: رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، هذا رجل يستحضر هيبة الله ويستحضر مخافته، وعظمته والوقوف بين يديه فنزلت دمعات الخشية والخوف.
 
إنه رجل ممن قال الله فيهم: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون﴾[الأنفال: 2].
 
رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه:
معشر المسلمين: هل رأيتم حياً وميتاً كيف يفترقان؟ أرأيتهم بيتاً خرباً وقصراً مشيداً كيف يختلفان؟ ومهما بلغ ما بين ذلك من التباين والاختلاف، فإن ما بين الذاكر لربه والغافل عن ذكر ربه كما بين الحي والميت, والسماء والأرض، والثرى والثريا؛ وفي الصحيح يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: "مثَل الّذي يذكر ربّه والّذي لا يذكر ربّه مثل الحيّ والميّت".
 
ذكر الله هو الحصن الواقي، والبلسم الشافي, شبهه بنبي الله يحيى عليه السلام – كما في السنن- برجل لحق به العدو, حتى إذا كادوا أن يظفروا به تحصن بحصن فما قدروا عليه, فذاكم ذكر الله، حصن من الشرور والشياطين.
 
رجل ذكر الله:
حين يأنس البعض بذكر الناس وغيبتهم، فإن أشرف الكلمات وأعظم الكرامات أن تذكر ربك ومولاك فبذكره تُستدفع الآفات، وتُكشف الكربات، وتهون المصائب والمكدرات.
 
كم هو شرف لابن آدم أن ييسر الله له ذكره فيذكره في الأرض ويذكره الله في مقابل ذلك في الملأ الأعلى وبين الملائكة! فمن أنت حتى تُذكَر في السماء؟ قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ [البقرة: 152]،.
 






فأكْثِرْ ذِكْرَهُ في الأرْضِ دَوْمَاً
لِتُذْكَرَ فِي السَّمَاءِ إِذَا ذَكَرْتَا











لا اله إلا الله سبحانه تعالى ما طابت الحياة إلا بذكره، وما طابت الآخرة إلا بعفوه، وما طابت الجنة إلا برؤيته..
 
رجل ذكر الله:
ذكر الله من أثقل العبادات في الميزان، وأسهلها على الإنسان، وأرفعها في الدرجات، نعم، فقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه -يقول: «ألا أُخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها لدرجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم»؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: «ذكر الله (عز وجل)».


ذكر الله هو جلاء القلوب وصقالها، وصدق النبي المصطفى حين قال: «وإن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، وجلاؤها ذكر الله».
 
ذكر الله به تبدد الأحزان ويسعد الإنسان ويطمئن القلب، ويزول الكرب، ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].
 
مجالس الذكر أشرف المجالس تحفها الملائكة, وتتنزل عليها السكينة وتغشاها الرحمة وما مجلس خلا من ذكرٍ الله إلا كان ترةً وحسرةً على أصحابه كما في الحديث.
 
الذِّكْرُ هُوَ الكَنْزُ الباقي حين تفنى الكنوز، قال –صلى الله عليه وسلم-: «لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة، وهي غراس الجنة».
 
وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسرى بي، فقال يا محمد: أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأنها قيعان (أي مستوية منبسطة) وأن غراسها سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر» [رواه الترمذي والطبراني في الأوسط].
 
يا أيها الراغبون للكنوز والأجور، يا من تطمحون للربح الباقي: إن كلمة: "الحمد لله" تملأ الميزان، وإن "سبحان الله، والحمد لله" تملآن ما بين السّماوات والأرض، قاله -صلى الله عليه وسلم-، ولقد قال أيضاً: «أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف سنة؟ يسبح مائة تسبيحة فيكسب ألف حسنة».
 
أخي الكريم:
اجعل لك نصيب من ذكر الله في صباحك ومساءك، في بيتك وفي سوقك، في فراغك وفي شغلك.
 
﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وقُعُوداً وعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾ [آل عمران: 191].
 
رجل ذكر الله خاليا.
إن هذا الرجل -أيها الكرام- قد استحق الاستظلال بالعرش في وقت الشدائد وحرّ الشمس لأنه ذكر ربه ولم يك غافلا، وذكر الله خالياً متخفياً، وفاضت عيناه دمعاً من خشية الله خاشعا، صفاتٌ ثلاثٌ حري بالطامح لنيل الكرامة أن يتمثلها.
 
هنيئاً لمن خرجت من عينيه قطرة دمع من خشية الله، هنيئاً لمن بكى من خشية الله.
ولكن أنّى لعين تنظر إلى ما حرم الله أن تبكي من خشية الله؟ أنّى لقلبٍ غافل معرض ممتلئ بالأحقاد والضغائن أن يخشع لله.
فالله الله في التوبة إلى الله.
 
رجل ذكر الله خاليا.
في زمن الغفلة وكثرة الملهيات نحتاج للتذكير بالذكر، وفي زمن تيسرت فيه ذنوب الخلوات نحتاج للتذكير بذكر الله في الخلوات، وفي زمن جفاف العيون وقسوة القلوب في زمن تفيض دموع أقوامٍ لأجل دنيا، أو لأجل، فقد خليل رحل عن الدنيا، أو لأجل موت ممثل في مسلسل، نحتاج ان نذكّر بشرف من فاضت عيناه لأجل الله.
 
ذكر الله خاليا ففاضت عيناه.
 
ذكر عظمة الله وبطشه وانتقامه وعقابه؛ فبكى.
 
ذكر جماله وكماله وبره ولطفه وستره فبكى.
 
ذكر ذنوبه ومعاصيه في حق الله تعالى فبكى طمعا في مغفرته وخوفا من عقابه.
 
ذكر الله ومعيتَه وقُربه واطِّلاعه عليه حيث كَانَ فبكى حياءً مِنْه.
 
رأى نعيم في الدنيا؛ فتذكر الجنة واشتاق إليها فبكى.
 
رأى مبتلى بُترت قدماه، أو قُطعت يداه، أو فقئت عيناه، أو، فقد عقله، فدمعت عيناه رحمةً به وشكراً لله لما من عليه واعطاه.
 
ذكر الله بقراءة كتابه فتأمل وتدبر فبكى؛ فكان من الذين:
﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [مريم: 58].
 
قام يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يبكي حتى بلَّ حِجْرَه، ولحيته ومكان صلاته، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله، لم تبكي، وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟، قال: " أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد انزلت علي الليلة آيات، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190].
 
عباد الله:
يقول بعض أهل العلم: يكفي مرة واحدة في العمر أن تذكر الله خالياً فتفيض عيناك من الدمع فتكون من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
 
رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه:
تأمل هذه الصورة جيدا، تخيل هذا المشهد: ذكر الله خاليا ففاضت عيناه هل مرت عليك هذه اللحظة؟ هل شعرت يوما من الأيام بهذا الموقف؟ ه.
 
ما أسعدها من لحظات يجلسها المرء خالياً فيها مع نفسه، يناجي ربه وخالقه، فينهمر دمعه عذباً صافياً خالياً من لوث الرياء.
 
اللهم ثبّت قلوبنا على الإيمان، الله أعنا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك.
اللهم آتنا قلوباً خاشعة وأعينًا تدمع من خشيتك يا رب العالمين.
 
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً لا ينفد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له نصلي ونسجد، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، رسولٌ لا يكذب، وعبدٌ لا يُعبد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما دعا الله داع وتعبّد، وسلّم تسليماً كثيراً.
وبعد...


رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه.
قوة الإيمان وصدق اليقين أن يبكي وحده، أن يبكي ولا يراه إلا الله، أن يبكي بكاءً لا يعرفه من حوله أنه بكى.
 
مر الشافعي برجل يبكي في المسجد، فقال: ما أطيب هذه الدموع، ولو كانت وحدك لكانت أطيب.
 
قال الحسن البصري: إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها، فإذا خشي أن تسبقه قام.
 
وكان أيوب السختيانى إذا وعظ ترقرق الدمع في عينيه فيمسح وجهه ويقول: ما أشد الزكام حذرا من الرياء.
 
أحمد بن حنبل رضى الله تعالى عنه يوما من الأيام كان جالسا مع تلاميذه يحدثهم فاقشعر بدنه وشعر بحلاوة الإيمان فقام وتأخر على التلاميذ وذهب أحد التلاميذ ليرى أين ذهب الإمام فاقترب من باب الغرفة، أو الحجرة فوجد وسمع الإمام أحمد يتمثل البيتين ويبكي بكاء شديدا ويقول:
إذا ما خلوت الدهر يوما، فلا تقل خلوت، ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب
رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه
الخلوة مدعاة إلى قسوة القلب، والجرأة على المعصية، وهذا الرجل جاهد نفسه، واستشعر عظمة الله ففاضت عيناه؛ فاستحق أن يكون تحت ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.
 
عبد الله:
خلق الله لك سبعة ابحر وطلب منك قطرة من خشيته ليدخلك جنته فبخلت بها انها قطرة تحرم صاحبها ً على النار، يقول -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح الجامع من حديث أنس -رضي الله عنه-: «عينان لا تمسهما النار أبدا: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله».

وقال -صلى الله عليه وسلم-: «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله تعالى ودخان جهنم» ٍ[أخرجه أحمد عن أبي هريرة].
 
وفي حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنه- مرفوعًا: «كل عينٍ باكية يوم القيامة إلا أربعة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين غضت عن محارم الله، وعين حرست في سبيل الله، وعين باتت ساهرة فباتت ساجدة لله تعالى»[ رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" 3/ 163].‏.
 
ولا أذهب بكم بعيدا قبل عشرة أيام في الثلث الاخير من الليل امرأة صالحة قامت لتصلي بين يدي الله، لتذكر الله خالية، وبينما هي غي صلاتها سمع زوجها غرغرة فقام اليها، واذا بها تعالج سكرات الموت فترتفع روحها الى باريها وهي بين يدي الله في ساعة مباركة ينزل فيها الملك الجليل الى سماء الدنيا فيقول: هل من داع فاستجيب له؟ هل من صاحب حاجة فأقضيها له؟..
امرأة ذكرت الله خالية فلتم تفض عينيها بالدموع فقط بل فاضت روحها الى باريها.
 
اللهم احسن ختامنا يا رب العالمين.
 
‏ وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم‏: ‏ «؛ لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار»، وقال عون بن عبد الله ‏: ‏ «بلغني أنه لا تصيب دموع الإنسان من خشية الله مكانا من جسده إلا حرم الله ذلك المكان على النار ‏».
 
أخي الحبيب: متى آخر مرة بكيت من خشية الله؟
 
‏ عباد الله: يا ترى ما هي مثيرات البكاء؟
 
أولاً: الخلوة الصالحة في أوقات إجابة الدعاء: وتكون فيها المصارحة والمكاشفة بين كل امرئ وقلبه، فيعرف مقامه وتقصيره وكم هو مذنب مقصر خطّاء..
وعندها يسارع إلى الاستغفار والبكاء من خشيته سبحانه.
 
ثانياً: الإنصات والتدبر للتذكرة والموعظة: فكم من كلمة طيبة كانت سببا في تغيير حياة إنسان من الغفلة إلى الاستقامة.
 
ثالثاً: محاسبة الجوارح ومخاطبتها: انها حسرات الصالحين، حسرة يوم يذكر طاعة لم يتمها، وحسرة يوم يذكر خيرا لم يشارك فيه، وحسرة يوم يمر عليه وقت لا يذكر الله تعالى فيه.
 
رابعاً: التأمل والنظر في أحوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ومن تابعهم ونهج نهجهم من علماء الأمة في هذا الباب وسوف يرى بوضوح أن البكاء كان سمة مميزة لهم.
 
خامسًا: كثرة ذكر الله:.لما شكا بعضهم لشيخه قسوة قلبه، فقال له: أذب قسوة قلبك بكثرة الذكر.
 
سادسا: تذكر الموت وزيارة القبور للعبرة والعظة.
هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب: 56].
 
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.