أبْدِعي ولا تَجْزَعي! - لطيفة أسير
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
تُكابد الكثير من النساء مكابدة عظيمة في القيام بأشغال المنزل سواء كانت ربّة بيت أو موظفة، وإن كانت حدّتها على الثانية أشدّ وأعظم، لأنها تُضاف لعبْء العمل وإكراهاته. ولعلّ هذه المعاناة هي التي حدَت بزهرة البيت النبوي رضي الله عنها أن تشتكي للرسول صلى الله عليه وسلم ثقل تلك الأعباء المنزلية، وكلها أمل أن تظفر (بخادمة) تخفف وطأة هذا الحِمْل، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشدها لما فيه خير لها من (الخادمة) وهو الذِّكر، كإشارة لطيفة أنّ المرأة إذا ذكرت ربها أنزل الله إليها مددًا خفيًّا يعينها على تدبير أمرها، ففي الصحيحين: أن فاطمة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ما تلقى في يديها من الرحى، وتسأله خادمًا فلم تجده، فذكرت ذلك لعائشة، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته قال علي: فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقوم، فقال: «مكانكما»، فجاء فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على بطني، فقال: «ألا أدلكما على ما هو خير لكما مما سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما فسبّحا الله ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبّرا أربعا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم».
قال علي: فما تركتها بعد، قيل: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين.
كثير من النساء -خصوصًا غير الموظفات- جلّ اهتمامهن بشؤون البيت من كنس وطبخ وتنظيف صباح مساء، وكثيرًا ما تُسائل المرأة نفسها حين يشتدّ بها الإرهاق: أحقّا ما أقوم به فرض ربّاني كصلاتي وصيامي؟ لمَ كل هذا التعب وكل هذه المكابدة؟
وحُقّ لها التساؤل وهي تُبْصرُ بالمقابل زوجها أو أخاها أو ابنها مستلقيًا على ظهره غير آبِهٍ ولا مُكترثٍ بهذا العناء!
الثابت من خلال كلام العلماء أنّ أعمال المنزل لم يرِد فيها نص شرعي صريح يُلزم المرأة إلزامًا قطعيًا القيام بها.
ولهذا ذهب جمهور العلماء من شافعية وحنابلة وبعض المالكية إلى القول بأن خدمة الزوج لا تجب على الزوجة ؛ إنما هي من باب العُرف الذي جرى العمل به بين الناس، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "أما خدمتها لزوجها فهذا يرجع إلى العرف، فما جرى العرف بأنها تخدم زوجها فيه وجب عليها خدمته فيه، وما لم يجرِ به العرف لم يجب عليها، ولا يجوز للزوج أن يلزم زوجته بخدمة أمه أو أبيه أو أن يغضب عليها إذا لم تقم بذلك، وعليه أن يتقي الله ولا يستعمل قوته، فإن الله تعالى فوقه، وهو العلي الكبير عز وجل، قال الله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] من ( فتاوى نور على الدرب).
وقال الشيخ ابن جبرين رحمه الله: "لم يزل عُرْف المسلمين على أن الزوجة تخدم زوجها الخدمة المعتادة لهما في إصلاح الطعام وتغسيل الثياب والأواني وتنظيف الدور ونحوه، كلٌّ بما يناسبه، وهذا عرف جرى عليه العمل من العهد النبوي إلى عهدنا هذا من غير نكير، ولكن لا ينبغي تكليف الزوجة بما فيه مشقَّة وصعوبة، وإنما ذلك حسب القدرة والعادة، والله الموفق" من (فتاوى العلماء في عشرة النساء).
وحيثُ علمتِ أنه ليس أمرًا لازمًا يوجب تركه العقاب، وأنه عملٌ تطوعي منكِ يكشف نُبل خلقك وحسن تربيتك، فهل أنت تاركة له؟
كل أنثى عاقلة ستجيب حتمًا بالنفي، لأنه بفطرتنا وبما درَجْنا على تعلمه ومشاهدته، هذا الكائن اللطيف أنسب من يقوم بهذه الأعمال الباطنة بالمنزل، لأن الله تعالى بحكمته أودع في كل جنس مقومات تجعله أقدر على القيام بأعمال دون أخرى، فلمسات الأنثى في إعداد الطعام وتنظيم المنزل وتنظيفه، أكثر براعة من نظيرتها عند الذكور.
لكن الأمر يحتاج لغسيل كثير من الأدمغة حتى تشعر الأنثى بالرضا وهي تقوم بهذه الأعمال غير الإجبارية.
ولنبدأ بدماغ الرجل الذي يتعامل مع الأنثى التي تحت يده (زوجة، بنتًا، أختًا) كجارية أو خادمة مسخرة لتلبية طلباته والقيام بشؤونه، فتجده ينهرها ويكيل لها السباب لمجرد التأخر في إعداد الطعام، أو عدم ضبط ملوحته، تستيقظ قبله وتهيئ إفطاره وتكوي ملابسه وتهتم بالأولاد دون أن تسمع ثناء أو تلمس تقديرًا أو تنويهًا بكل هذه المجهودات.
يفسد ما أصلحته ولا يبالي، يلمح ضغط العمل عليها ولا تهتز نخوته لمدّ يد المساعدة لها، يأنف أن يدخل المطبخ لأنه في عرف تربيته هو مملكة الأنثى أو بالأحرى سجنها.
ولو راجع هذا المسكين سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لأَلْفاه في مهنة أهله يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويحلب شاته، ويقم البيت، ويحمل بضاعته.
للأسف في زمننا بعض الرجال يستثقل حتى خياطة زرّ قميصه، أو كيّه فأحرى غسله.
فهل أنتَ أفضل من سيّد البشر؟!
إن الرسول صلى الله عليه وسلم بفعله هذا يبعث رسالة سامية لكل رجل، يعلمّه أن المساهمة في الأعمال المنزلية لا تخدش الرجولة، وخدمة الأهل مظهر من مظاهر التعاون على البِر والتقوى المأمور به شرعًا، وليست إثمًا أو عدوانًا حتى ينفر منه، وحسبكَ أخي الرجل أن خيريتك رهينة بخيريتك لأهلك كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي.
وكمْ راق لي وأنا أتصفح ذات يوم منشورات بعض الأدباء على صفحات الواجوه (الفايس بوك)، ذاك الاعتراف الممزوج بالخجل والامتنان من أحد الأزواج لزوجته، يقول الأديب المغربي ربيع السملالي متحدثًا عن زوجه أم عبد الرحمن: "حين أرى زوجي أمّ عبد الرّحمن منهمكة في الطّبخ أو في تنظيف البيت، وفي مسح الغبار عن هذه المجلّدات التي تملأ عليها البيت، وهي فوق هذا لها ولدان وبنت تقوم على شؤونهم كلّ يوم كعسكري في جبهة من جبهات العدوّ لا يهدأ له بال ولا يقر له قرار...
حين أراها على هذه الحال أشعر بالحرَج الشديد، لا سيما حين أتذكّر أباها بجسده النّحيف وهو يقول لي يوم عرسنا: ابنتي أمانة عندك يا ربيع فأحسن إليها ما وسعك الإحسان! فأندم ندامةَ الفرزدق حين راحت مطلّقة منه نُوار! وأتحسر على عدم الإحسان إليها كما ينبغي أن يكون الإحسان وكمّا خمّن والدها حين زوّجها لشابّ شغله الشّاغل كتاب الله وسنّة نبيّه دراسة وحفظًا، ومستحيل أن يظلمها أو يشطط عليها!! فأحاول شكرها وإرضاءها على كلّ ما تقوم به في سبيل أن يكون هذا العشّ الدّافئ على ما يرام! فجزاها الله عنّي وعن أولادها خير الجزاء!".
فليت كل الأزواج والإخوة والأبناء يحملون في قلوبهم هذا الامتنان ويعترفون بهذا الفضل وهم يبصرون ذاك العرق يتصبّب من جبين زوجاتهم أو أخواتهم أو بناتهم.
أما أنتِ أختي الأنثى فكوني كَيّسة فَطِنة وأنت تتحملين هذه الأعباء، وعدِّيها باب فضل ساقه المولى لكِ، فإنْ أخلصتِ النية فيه وابتغيتِ بعملك مرضاة ربّك نِلتِ أوفر الجزاء، وهانت أمامك كلّ الصّعاب.
وضعي نُصب عينيك أن سيدات نساء العالمين كنّ يمارسن هذه الأعمال في ظروف أشد قسوة وصعوبة، فها هي فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقوم بخدمة زوجها علي رضي الله عنه، وها هي أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما تُخبر عن نفسها فتقول: "تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِي الأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلاَ مَمْلُوكٍ وَلاَ شَيْءٍ غَيْرَ فَرَسِهِ، قَالَتْ: فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ وَأَكْفِيهِ مَئُونَتَهُ وَأَسُوسُهُ وَأَدُقُّ النَّوَى لِنَاضِحِهِ وَأَعْلِفُهُ وَأَسْتَقِي الْمَاءَ وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ وَكَانَ يَخْبِزُ لِي جَارَاتٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، قَالَتْ: وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِي وَهِيَ منّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ" (أخرجه البخاري ).
ومتى صادفتكِ حادثة من الحوادث المنزلية وما أكثرها فاحتسبيها لله تعالى، وتذكّري قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري: «ما يصيب المسلم من نَصَب ولا وصبٍ ولا همٍّ ولا حزن ولا أذى ولا غمّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه».
وجلّ هذا يصيبك وأنتِ تتفانين في أداء هذا العمل العظيم، فأي خير تتمرّدين عليه، وأي فضلٍ تأْنفينَ نيْله!!
إنْ أدْمتِ السكين يومًا أصابعك، فسلّها بما سلّى به السلف الصالح أنفسهم، حين كانت دماؤهم تسيل فداء لله تعالى، فيقولون بكل ثبات ويقين:
هل أنت إلا أصبع دَمِيَتْ *** وفي سبيل الله ما لقيت
وقرّي عينًا حيثُ أثبت الدراسات العلمية الحديثة أن القيام بالأعمال المنزلية فيه فوائد صحية جمّة، فقد اعتبرتها الخبيرة الألمانية ألكسندرا بورشارد بيكر (عضو مبادرة حماية المستهلك الألمانية) سبيلا لحرق السعرات الحرارية، والحفاظ على وزن صحي ونشاط دائم، حيث يمكن لشخص يبلغ وزنه 70 كلغ حرق 600 سعرة حرارية بعد ساعتين من الأعمال المنزلية، أي ما يعادل ممارسة ساعة من رياضات قوة التحمل.
أختي الأنثى..
أخي الرجل:
إن الحياة لا يستقيم حالها إن قامت على أساس حسابات رياضية، بل سيرها الجميل حين يحفّها التعاون والتآزر والمودة بين الجنسين.
الأصل أن تقومي أنتِ بأعمال المنزل، والأصل أن تكون أنتَ خير معين لها حين يتعثر بها المسير، هي زوجة أو أخت أو بنت وليست جارية تحت يديك، إن أبصرتَ منها تقصيرًا فكنْ رفيقًا بها، وإن أبصرتِ منه تجاهلًا فدونك خالقك تحتسبين جهدكِ عنده سبحانه.
وهمسة في أذن الآباء:
عوّدوا أبناءكم الذكور منذ الصغر على خدمة أنفسهم، وترتيب غرفهم، وكيّ ملابسهم، علموهم تحمل المسؤولية في أدق تفاصيلها، ولا تزرعوا فيهم اللامبالاة فتحصدها بعدكم نساء المسلمين وبالاً وضنكًا!