جراحنا النازفة على ضفاف دجلة والفرات - حسن الخليفة عثمان
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
رسالة: "في أول يوم العيد كنا في جسر (بزيبز) الوضع جدًا تعبان، صار 5 أيام الناس محبوسة خلف الجسر، وحالات وفاة، الناس مدمرة، حالات وفاة، وحالات ولادة، وكومة جهال، نزوح من هيت والفلوجة والبيجي، معاملة الجيش تعيسة وسيئة وياهم، والمسئولين نايمين، الناس لا يقبلون أن يرجعوا، خايفين من داعش لأن طلعوا تهريب، ومن جهة أخرى ما فاتحين الجسر.إذا تقدرون توصلون إلى الناس فإنها تحتاج إلى الماء والخبز والأكل المعلّب، وضعهم جدًا مأساوي، استطعنا أن نأخذ أمر من المستشفى لتحويل حالة ولادة تعبانة جدًا إلى بغداد وغيرها إلى اليرموك..
الناس تفترش التراب والشمس حارقة، وأخبروني أن من عنده معرفة بضابط يدخلوه ويرجعون يغلقون.
وزارة الصحة غير موجودة، اضطررنا للذهاب إلى العامرية لأخذ أمر وجلب إسعاف وإخراج حالتين، طبعًا ما قبلوا يدخلون عوائلهم، فقط المريضة ومرافقة، صورنا بعض اللقطات خلسة ودون علم الجيش وكادت تلفوناتنا تسحب.
من الحالات: وفاة امرأة بعمر 45 سنة أثناء وصولنا، ووفاة أربعة أطفال البارحة، وتعرض نساء ورجال كبار في السن إلى ضرب من ضابط الجيش.
في ثاني يوم العيد -السبت- كان الوضع أسوأ وأتعس من أول يوم العيد والعدد في ازدياد، الجو قاتل، والوضع النفسي للناس تعبان جدًا، الحر مخيف، وعدد قوات الجيش زادت الضعف البارحة، صرفنا مبالغ كثيرة وهيأنا للعصر صمون وجبن وماء، ذهبنا إلى عامرية الفلوجة وأتينا بماء وعصير، اشترينا ثلج وبرّدنا به الماء والعصير واشترينا صمون وجبن وبسكت.
في اليوم الثالث للعيد –الأحد- كان الوضع أسوأ من قبل، حالات مرضية كثيرة، العوائل عالقة خلف الجسر من أسبوع وأكثر، نفذت أموالهم لأنهم صرفوها على الأكل والماء، مضايقات كثيرة للناس، تعرّض نساء كبيرات بالعمر إلى ضرب من ضابط هناك، لم يسمح لنا بالدخول في بادئ الأمر وانتظرنا أكثر من ساعة إلى أن سمحوا لنا بذلك.
دخلنا وقمنا بتوزيع الماء والصمون وبسكت وجبن، وحليب أطفال وحليب كبار ومعلبات أخرى.
كنا نحاول أن نخفف عن الناس، جلسنا معهم على التراب، كنا لا نستطيع أن نسيطر على دموعنا لأننا نشعر بتعب وذل وانكسار أهلنا وإلى الله المشتكى.
الموجودون في (بزيبز) اليوم عددهم يتجاوز (300 عائلة)، العوائل تعيش حالة مأساوية..
الأطفال: أمراض جلدية، الجو جدًا حار ومتعب، الناس تستنجد بالخيّرين يخلصوهم من هذا الوضع ومن الإهانات التي يتعرضون لها من بعض عناصر الجيش، كثير من العوائل من تكريت ينوون الذهاب إلى محافظتهم وعالقين من أسبوع".
انتهى نص الرسالة التي أرسلها إلينا الفريق العراقي المتطوع هناك من خلال مصادرنا الثقة، والتي آثرنا أن ننشرها بعلامات ترقيمها ونصها وحرفها ولهجتها العراقية دون النظر إلى ما بها من خطأ أو عدم تدقيق لغوي، رغبة منا في أن يقف الأحرار ومن كانت لديهم بقية خير ومروءة من العالم العربي والإسلامي على غيض من فيض ما يعانيه أهلنا وبني ملتنا هناك، وبالصورة التي رسمها ذلك الفريق الذي تجشّم عناء الرباط ووعثاء السفر إلى هناك.
منذ كتبنا سلسلة مقالاتنا عن إحدى مآسينا في العراق المتمثلة فيما تعرضت له الحرائر السنّيات من اعتداء على أعراضهن وشرفهن في سجون مليشيات (نور المالكي)، الذي وصفه (جورج بوش) الابن في المؤتمر الصحفي بينهما بتاريخ 1 ديسمبر 2006 قائلاً: "إنه رجُلنا في العراق"، تلك المأساة التي وثقناها من خلال شخصية عراقية رفيعة القدر بين قومها وعشائر الموصل، الأستاذة (أم أحمد) ممثلة داعيات نينوى؛ ولا زالت جراحنا تنزف كل يوم على ضفاف دجلة والفرات ولم تندمل بعد، بل صارت آلامًا ومحنًا جِسامًا يرقّق بعضها بعضًا.
كتبت في مقالتي عن فقيد الأمة الشيخ (حارث الضاري) رحمه الله:
"لن نكون مبالغين في القول إذا قلنا إن ما يُحاك لأهل السُنّة جميعًا ليس أقل من محرقة أو إبادة جماعية لهم؛ بفعل ما ارتُكب من خيانات عربية أدت إلى فقدان العرب لأقطار ودول كاملة سقطت في يد خصومهم، وباتت مسرحًا ومرتعًا للمخططات الأجنبية والخارجية، لا مكان فيها ولا حياة إلا لحفنة العملاء الذين سيأتي عليهم الدور لاحقًا لتطحنهم الألة الاستعمارية الجبّارة التي أول من تحتقر هم أولئك الذين أعانوها على احتلال شعوبهم وبلدانهم".
حين ننظر اليوم إلى ما يحدث في العراق من قصف للأطفال الذين شاهد العالم كله صور جثثهم الملطخة بدمائهم، يحملهم آباءهم ويوارونهم الثرى تحت مرأى ومسمع من المجتمع الدولي، ومشهد الأب المكلوم الذي يُقبّل طفلته الرضيعة الغارقة في دماءها إثر قصف الطيران الحربي للفلوجة، وما نتج عنه من مقتل العديد من الأطفال والأبرياء العزل، فإن ما يتبادر إلى الذهن وما يفرضه الحال من سؤال ليس فقط ما نطق به خالد الذكر المحتسب عند الله شهيدًا الملك (فيصل بن عبد العزيز) طيّب الله ثراه حين قالها مدوية مصحوبة بعَبَرَات الصدق والألم: "هل ننتظر الضمير العالمي؟ أين هو الضمير العالمي؟".
وإنما يتساءل المرء متى ستتوقف الأنظمة المجرمة الداعمة لهذه الأعمال الهمجية، التي تحصد أرواح الأطفال والنساء والأبرياء العزل؟ ومتى يكون للشرفاء الأحرار من العرب والعالم الإسلامي والغربي موقف ينتفضون فيه لما بقي لديهم من بقية خير ومروءة وإنسانية؟
إنني من أولئك الذين يؤمنون بما قال شيخنا محمد الغزالي رحمه الله: "إن الحياة مهما اسودت صحائفها، وكلحت شرورها، فلن تخلو من نفوس تهزها معان النُبل، وتستجيشها إلى النجدة والبر".
إنني أدعو خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك (سلمان بن عبد العزيز) وإخوانه من شرفاء الرؤساء والأمراء أن يغيثوا بني قومهم من أهل السنّة بالعراق، الذين ما نزلت بهم نازلة، ولا ألمّت بهم جائحة، إلا يمّموا وجوههم مستصرخين مستغيثين بالله ثم بهم..
فاللهَ اللهَ من موقف نُساءل فيه جميعًا بين يدي الله عن شكاية أعضاء لجسدنا في العراق، لم تتداعى لها سائر الأعضاء بالسهر والحمى.