أرشيف المقالات

أربعة عوامل تمكن المقاومة في غزة من تحقيق التوازن الإستراتيجي مع العدو - عبد المنعم منيب

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
المقاومة الفلسطينية تنتصر وستنتصر بفضل الله، ولكن ينبغي علينا أن نفكر بدقة ودأب في ما يمكن أن نستفيده من دروس سياسية وإستراتيجية وإدارية وإعلامية واجتماعية من هذا النصر، وذلك عبر التأمل العميق في الأداء الرائع للمقاومة الفلسطينية داخل غزة وخارجها، ومن أهم الدروس هو الإجابة عن سؤال هام وهو: لماذا تحقق المقاومة هذه الانتصارات الرائعة الآن، بينما عجزت عن ذلك منذ ثلاثينات القرن العشرين الميلادي، رغم أن الصهاينة في ذلك الوقت كانوا أضعف وأفقر وأقل عددًا بكثير جدًا عما هم عليه الآن؟

طبعًا هناك أسباب كثيرة لكن سنركز الآن على سبب واحد -وكنا كتبنا سابقًا عن سبب واحد منها، وسنرجع في مناسبات أخرى إن شاء الله للأسباب الأخرى-، هذا السبب هو توفر الحد الأدنى من السلاح اللازم للقتال بنجاح ضد العدو الصهيوني، مما يعني تحقيق قدر ما من التوازن الإستراتيجي، قد يتعجب البعض من هذه الفكرة لأول وهلة لكنها الحقيقة.

وتفصيل ذلك أنه منذ الثلاثينات كانت هناك ثورات وحركات مقاومة فلسطينية مدعومة من كافة الشعوب العربية، تواجه الغزو الصهيوني لفلسطين -لنتذكر أن عز الدين القسام الذي تسمت باسمه الآن كتائب القسام التابعة لحماس هو سوري وأحد قادة هذه الثورات العربية ضد الاحتلال الصهيوني عام 1936-، وانتهت هذه المقاومة ذات الطبيعة الشعبية الفلسطينية والعربية بهزيمة العرب أمام الصهاينة في حرب 1948.

إذًا لما وقعت الهزائم العربية في هذه المرحلة؟
وقعت لأن حركات المقاومة لم تتمكن من امتلاك الأسلحة والذخائر اللازمة لجهادها ضد العدو الصهيوني.

ولماذا لم تتمكن من الحصول على هذه الأسلحة؟
لم تتمكن لأن المتحكمين في النظام الإقليمي في المشرق العربي وفي النظام العالمي كله منعوا حينذاك وصول الأسلحة والذخائر إلى المقاومين في فلسطين ، وفي جبهات سيناء والأردن وسوريا وجميع الجبهات، وهذا المنع كان هدفه تمكين الصهاينة من إيقاع الهزيمة بالعرب، وهنا يجب أن أنوه للأخوة عن أحد وسائل وأدوات العمل السياسي، وهو مساعدة الصديق ومنع المساعدة عن الخصم وأهم مساعدة تكون في أي صراع سياسي أو عسكري هي المال والسلاح.

وتأتي أهمية هذا التنويه من أن كثيرًا من الأخوة يظنون أن السياسة منحصرة في الانتخابات وتقديم الخدمات الاجتماعية التي من شأنها جلب الأصوات المؤيدة لصناديق الاقتراع، بينما يرى كثير آخرون أن السياسة منحصرة في حمل الكلاشينكوف وخوض الجهاد حتى الاستشهاد بينما السياسة تشمل هذا وذاك معا بجانب أدوات أخرى كثيرة منها بل من أهمها مساعدة الصديق بالمال والسلاح ومنع وصول المال والسلاح للخصم ولكل أداة مكانها وزمانها ومناسبتها..
يقول المتنبي:

وَوَضْعُ النّدى في موْضعِ السّيفِ بالعلى
مضرٌّ كوضْع السيفِ في موضع النّدى

ومن هنا كانت المقاومة في معارك كثيرة تكتسح الصهاينة في فلسطين، لكنها تعود وتنسحب أو تنهزم بعدما تنفد منها الذخائر، أو قطع الغيار أو يجلب الصهاينة أسلحة متقدمة من أوروبا والولايات المتحدة، ولا تتمكن المقاومة من مجاراة هذه الأنواع من الأسلحة لعدم تمكنها من استجلاب أسلحة بالكمية والنوعية المناسبة لمواجهة تلك الأسلحة المتقدمة، وكان هذا سبب رئيس من أسباب هزائم العرب أمام الصهاينة حتى 1948.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما الذي تغير في المعادلة الإقليمية والدولية حتى تمكنت المقاومة من الحصول على أسلحة مناسبة -وإن كانت ليست الأمثل- لممارسة حقها في مقاومة الاحتلال الصهيوني؟ هناك أربعة عوامل أدت لتغيير المعادلة الإقليمية والدولية لصالح المقاومة الفلسطينية، ومن ثم حصولها على سلاح مناسب هي:

الأول- ظهور قوى إقليمية جديدة تميل لدعم المقاومة دون التقيد بالنظام الدولي والقانون الدولي، والمعاهدات والاتفاقات والضغوط الدولية والإقليمية وهي إيران -وحلفائها الإقليمين والدوليين- والسودان وقطر وتركيا أردوغان، صحيح أن لكل منها أهدافها من هذا، لكنها في التحليل النهائي تدعم بشكل ما وبدرجة ما المقاومة دون هذه القيود.

في الماضي كانت القوى الإقليمية إما متواطئة حقيقة مع الصهيونية العالمية، وإما تدعم المقاومة بقلبها فقط بينما ملتزمة بسيفها مع النظام الدولي والقانون الدولي والمعاهدات والاتفاقات والضغوط الدولية والإقليمية، وبالتالي فهي لا تخرج عن تعليمات أوروبا وأمريكا بشأن التعامل مع إسرائيل والمقاومة الفلسطينية.

الثاني- بروز فاعل جديد ومهم في النظام الدولي ومن ثم في النظام الإقليمي وهو المنظمات غير الحكومية -سواء مسلحة أو غير مسلحة وسواء إرهابية أو غير إرهابية-، والشركات عابرة القومية -سواء رسمية قانونية أو غير قانونية كشبكات تهريب الأموال والسلاح والتكنولوجيا-، فهؤلاء الفاعلين الجدد في النظام الإقليمي والدولي أتاحوا خيارات جديدة لإيصال المال والسلاح إلى المقاومة في ظل الحصار، فلم تعد الخيارات محصورة في دول قد تكون ملتزمة أو غير ملتزمة بمقتضيات النظام الدولي وقوانينه وقيوده ورغباته بل ونزواته.

الثالث- هو ثورة الاتصالات والمواصلات والمعلومات وفي قلب ذلك كله الإنترنت طبعًا فهذه الثورة أتاحت المعرفة السياسية والعسكرية والتكنولوجية، وكسرت الحصار الذي يفرضه النظام الدولي المعاصر على المعرفة الحديثة لمنع تقدم المسلمين والعرب، ومنع امتلاكهم أدوات القوة الشاملة (السياسية والاقتصادية والتكنولوجية) فأمكن عبر ثورة الاتصالات والمعلومات الحصول على كنوز من المعرفة لم يكن يمكن الوصول لها من قبل، كما أتاحت ثورة المواصلات خيارات أكثر لكسر الحصار ونقل المواد الخام والمعدات إلى أي مكان في الأرض مهما كان الحصار محكما عليها من قبل الفاعلين الدوليين والإقليمين.

الرابع- هو معرفة وإدراك المقاومة لهذه العوامل الثلاثة السابقة، وامتلاكها الإرادة والرغبة والعزيمة والشجاعة لاستغلال هذه العوامل من أجل القيام بدورها المقاوم بنجاح، وتحقيق الانتصار على الصهاينة، فلو لم تدرك المقاومة هذه العوامل الثلاثة وتعرفها معرفة وافية لما أدركت أنها مفيدة لها، وأنها يمكن أن تمكنها من تحقيق النصر ولو لم تمتلك المقاومة الإرادة والعزيمة لاستخدام هذه العوامل الثلاثة لما تمكنت من استخدامها، ولخافت من أن تغضب أوروبا والولايات المتحدة وحلفائهم في المنطقة العربية، ولخافت أن يصنفها النظام الدولي على أنها منظمة إرهابية..

ولخافت أن تغضب عليها آشتون أو أوباما أو الأمم المتحدة أو ينتقدها المستنيرون العرب بالتطرف أو الاستبداد أو مخالفة مقتضيات الديمقراطية أو يهاجمها الرأي العام الدولي لأنها لا تلتزم بالقانون والاتفاقات الدولية التي قضت بأن لا يكون السلاح إلا في يد قوات عباس، على أن يكون سلاحًا خفيفًا فقط، وبمنع دخول السلع والخامات إلى الأراضي المحتلة إلا عبر إسرائيل وبموافقتها، لكن المقاومة تعاملت مع ذلك كله بعزيمة وشجاعة فكان لها ما تريد بفضل الله تعالى وتوفيقه.

على الهامش:
(1) هذا التحليل لا يحلل كل أسباب نصر المقاومة، لكنه يحلل أحد أهم الأسباب فقط، ونسأله تعالى أن يوفقنا لتحليل باقي الجوانب والأسباب في مرات أخرى إن شاء الله.

(2) ذكرنا في التحليل أن من أدوات السياسة مساعدة "الصديق" ولفظ "الصديق" اخترناه بدقة لأن واقع الحركة الإسلامية المرير -خاصة هنا في مصر - يشهد مساعدة الأخ فقط وليس الصديق، أي أن الإخواني يساعد الإخواني فقط، والسلفي يساعد السلفي فقط، والجهادي يساعد الجهادي فقط، هكذا فينعدم الوعي السياسي الكامل ذلك الوعي الذي جعل الصحابة في العصر المكي يحزنون لهزيمة الروم وهم أهل كتاب على يد المجوس الوثنين، فنزل قوله تعالي: {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:2]، (إلى آخر الآيات) مؤيدًا للوعي السياسي الشامل لدى الصحابة، بينما ما زال التعصب المذهبي يعصف بنا الآن فيعمي عيوننا عن دعم من يمثل انتصاره -أو حتى نكايته في عدوه-، إضافة لنقاطنا في معادلة الصراع الشاملة.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١