دروس من إيجابية الخليل عليه السلام

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
دروس من إيجابية الخليل عليه السلام

حين نسعى لتحديد أهدافنا في ميدان الدعوة والحضارة والنهوض بأمَّتنا، فسنجد في سيرة الخليل عليه السلام المفاتيحَ والمنطلقاتِ التي يمكن أن ننطلق منها، وننجح في رسالتنا وأهدافنا وتوجُّهات نهضتنا في المستقبل، فإبراهيم الخليل عليه السلام مِن أُولي العزم مِن الرسل، وقد أعطاه الله عز وجل الصبرَ في مواجهة الجبابرة، وكان هدفُه إخراجَ مجتمعه مِن ظلمات الشرك إلى نور العبودية والتوحيد؛ ولذا فإن في سيرته عليه السلام دروسًا رائعة من الإيجابية الدعوية، التي تُعلِّمنا كيف نوظِّف طاقاتِنا الدعوية توظيفًا إصلاحيًّا واعيًا؛ قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90].
 
لم يقف الخليل عليه السلام موقفًا سلبيًّا أمام الباطل الذي كان مستفحلًا في عصره، فلقد بدأ عليه السلام حياته باحتقار عبادةِ الأصنام، وبيان سخف عبادتها، ثم تحطيمها وتنبيه عُبَّادها إلى ضلالهم وانحرافهم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنبياء: 51 - 54].
 
حاول إبراهيم الخليل عليه السلام أن يُوقظ عقولَ القوم، ويَرُدَّهم إلى الإيمان والاعتقاد الصحيح، ويُنقذهم من الشِّرْك والضلال الذي أمات الفطرة السليمة في أعماقهم، فأعماهم عن رؤية الحق المبين، وصدَّهم عن العمل للآخرة، وأبعَدَهم عن روح الحياة الحقيقية؛ ﴿ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ﴾ [الأنبياء: 66].
 
لقد كانت هناك عوائقُ في طريق تحقيق أهدافه الدعوية؛ لكنَّ إيجابيته النابضة بالإيمان الخالص- وهو النبي الذي هداه الله؛ ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ﴾ [الأنعام: 90] - جعلتْه يواجه هذه العوائقَ بنفسٍ صابرة، وروحٍ عالية، لا تعرف التكاسل أو السلبية، فواجه التحدِّي باقتِناع تامٍّ، غيرَ عابئٍ بالنتائج؛ لأن النتائج كلها بيد الرحمن الرحيم.
 
لقد اهتمَّ الخليل عليه السلام بالتأمُّل في ملكوت السماوات والأرض، والبحث الذي دلَّه على جلال الرب وكمال صفاته، وتنزُّه ذاته عن كل صفة مِن صفات الحدوث وعوارض النقص، كما توجَّه إلى الله فاطر السماوات والأرض مُتَبَرِّئًا مما يُشرك المشركون: ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 79].
 
فالدعاة إلى الله مُطالَبون بإيقاظ الفطرة الإنسانية للتأمُّل، الذي يَهدي الإنسانَ لمعرفة أسرار الله عز وجل في الكون، الذي يحيط بنا، وفي أنفسنا؛ لتعود الفطرة إلى أصالتها وعقلانيَّتها، وإيمانها بأن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا.
 
ومِن محاجَّته لقومه بالبراهين والأدلة المقْنعة والملزمة، وثباته في محاجَّة مَن آتاه اللهُ الملْك في البلاد - يَبرز الإيمانُ الصادق، واليقين الجازم بأن الله هو الذي يميت ويحيي، ويُطعم ويسقي، ويمرض ويَشفي، وبيده كل شيء؛ ﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾ [الشعراء: 78 - 82].
 
يقول صاحب "الظلال": "ونستشعِر مِن صفة إبراهيم لربه، واسترساله في تصوير صِلته به، أنه يعيش بكيانه كله مع ربه، وأنه يتطلع إليه في ثقة، ويتوجَّه إليه في حب، وأنه يصِفه كأنه يراه، ويحسُّ وقعَ إنعامِه وإفضاله عليه بقلبه، ومشاعره، وجوارحه".
 
وبعد أن تعرَّض للعذاب بإيقاد النار له، وصبره وثباته، وثقته بالله عز وجل ونجاته مِن هذه المحنة؛ ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69] - عزم على التخطيط لمرحلة جديدة مِن التحرُّك الدعوي الإيجابي، فعزم على الهجرة مِن أرض الشرك، وآمَن به لوط وهاجر معه، فزار مكة، وأَسْكَنَ في واديها بعضَ ذريته، ورفع قواعد البيت الحرام، وعهد الله له ولولده إسماعيل أن يطهِّرا البيت للطائفين والعاكفين والرُّكَّع السجود، كما أمَرَه اللهُ أن يؤذِّن في الناس بالحج، وهذه كلها مجموعة مِن التكاليف الربانيَّة التي توظف إيجابية الخليل عليه السلام ومَن معه مِن المؤمنين في جهاد وعمل متواصل، وتخطيط وتربية ودعوة؛ مِن أجْل تبليغ الحق، وربْط الناس برب السماء، فلا يعبدون إلا إياه مخلصين له الدين، وتمتدُّ رسالةُ الحق في الأرض، إلى أن يرثها الله عز وجل ومَن عليها.
 
وفي طلب إبراهيم عليه السلام مِن ابنه رفعَ قواعد البيت معه تنميةٌ لروح الإيجابية بين الوالد وولده، والتي تقوم على التعاون الجماعي مِن أجل الوحدة والإنجاز.
 
وبعقلانية واعية، وبحسٍّ إيماني غيور على النفس البشرية، جادل الخليلُ عليه السلام الملائكةَ المرسَلين لإهلاك قوم لوط؛ لعل الله عز وجل أنْ يدرأ عنهم؛ وذلك طمعًا في أن يَهتدوا ويَستقيموا، إلا أن الله عز وجل أعْلمه قائلًا: ﴿ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ﴾ [هود: 76].
 
لقد أعطى الله عز وجل إبراهيم عليه السلام قوةَ الثبات، والحماس العالي في الدعوة، ومعالجة أمراض المجتمع وسلبياته، ومواجهة الانحراف الفكري والعقدي والنفسي الذي يُهلك الإنسانَ، ويُبعده عن الطريق الصحيح.
 
إن الإيجابية سِمَة مِن سِمَات الشخصية الربانية، التي تُدرك هدفَها الدعوي وتطبقه بإخلاص، ولا تنتظر أجرًا مِن أحد، فالخليل عليه السلام يُعلِّمنا العملَ بما نؤمن به، والإيمان بما نعمل؛ كي ننجو مِن اضطراب الشخصية وضياع الأهداف، ولكي ننجح في دعوتِنا ينبغي أن نكون إيجابيِّين في انطلاقتِنا وتحرُّكاتنا ونهضتِنا؛ لِنُواجِه انحرافَ الفطرة بالثبات، واليقين، والتأمُّل، والحجَّج المقْنعة الهادية؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].
 
وتبرُز مِن خلال سيرة الخليل عليه السلام معالمُ الإيجابية في حياة الدعوة والداعية، فإذا كُنَّا على استعدادٍ دائم لتلبية نداء الفطرة، والقيامِ بالحق الذي سنُحاسَب على حمْل مسؤوليَّته دون تقصير في ذلك، فإن الله عز وجل سيُعِينُنا ويقوِّينا، ويقرِّب وُدَّه وفَرَجَه ونصْره منا، فنستغني به وحْده، مهما تكُن التحديات والمعوقات؛ فالشخصُ الإيجابي يخلص لهدفه في كل أحواله، ويتصدَّى لِشُبهات المتربصين بدعوته، ويعمل بكل طاقاته للقيام بواجبه؛ ليستمرَّ عطاءُ الفطرة ولا يتوقف، وهو في كل أحواله يتوكَّل على الله وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان؛ ﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 81].
 
كما أن سيرة إبراهيم عليه السلام تُبرز معالمَ الإيجابيةِ الرحيمة الواثقة بالله، والتي تسعَى لإرضاء الوالدين، وبذْل الخير للناس لإسعادهم، وحُبِّ الخير لهم، وهو الذي يقول عليه السلام: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 41].
 
ومَن لم يكُن له مِن هذه الإيجابية نصيب، فإنه يَضُرُّ ولا ينفع، ويخسر نفسَه، وينحرف بأهدافه؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [البقرة: 130].

شارك المقال

المرئيات-١