فتاوى المنار
مدة
قراءة المادة :
24 دقائق
.
أسئلة في طبع مصحف شريف بالرسم العرفي والترقيم الحديث
(س4) من صاحب الإمضاء في الزقازيق
حضرة صاحب الفضيلة صاحب مجلة المنار الغراء، الأمل إفادتنا عن رأيكم
فيما يأتي: هل هناك مانع شرعًا من طبع المصحف الشريف بالكيفية الآتية:
(1) أن يكون بالهجاء الحديث المتبع بالأزهر الشريف، وفروعه، وجميع
معاهد العلم بالديار المصرية، وبغيرها من البلاد العربية، وغير العربية.
(2) أن توضع علامات الترقيم الحديثة بين الكلمات، بدلاً من وضعها فوق
الكتابة بحروف وكلمات غير مفهومة لكثير من البعيدين عن تعليم الأزهر وملحقاته،
وكثير ما هم.
(3) أن يوجد بهامش هذا المصحف تفسير عصري مختصر مفيد بمعرفة
لجنة من كبار العلماء، وكل هذا يراد به فائدة من يطلع على هذا المصحف من
عامة الناس وخاصتهم، ومنعهم من الخطأ في التلاوة بسبب تعقيد الكتابة طبقًا
لقواعد مضى عليها كثير القرون، وأصبحت غير معمول بها في جميع الأحوال
ولصون الناس عامة من الفهم الخطأ لما يتلونه من آيات الذكر الحكيم، وذلك تنفيذًا
لقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر: 17) .
هذا ولا يخفى على فضيلتكم أن هذا القرآن إنما هو رسالة الله إلى الناس كافة.
ونرجو نشر الرد بمجلتكم الغراء والإفادة، ولكم الشكر من المخلص.
... ...
...
...
...
...
...
...
...
محمود عفيفي ...
...
...
...
...
...
...
...
...
المحامي بالزقازيق (ج) من المسائل المتفق عليها بين العلماء أو الإجماعية أن خط المصحف الشريف (أي: رسمه) سماعي توقيفي يجب فيه اتباع الكِتبة الأولى (بالكسر: أي هيئة الكتابة) التي أجمع عليها الصحابة رضي الله عنهم، ونشروها بالمصاحف الرسمية التي يعبر عن أصلها (بالمصحف الإمام) ولهذا الاتباع فوائد ودلائل مبسوطة في محلها، أولها: أن كتاب الله عندنا منقول بالتواتر بلفظه وقراءاته ولهجاته ورسم خطه، وإنه بهذا كله حُفِظَ من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان حتى إن حروفه قد عدت بهذا الرسم، ودوّن عددها في الكتب، ومن فروع ذلك أن لأكثر ما خالف به رسمه الرسم العرفي أسبابًا تتعلق بقراءته، ويدخل في هذا ترك نقطه، وشرح ذلك كله يطول. وكان المسلمون يعتمدون في تعلم القرآن وتلاوته على التلقين والرواية والحفظ من الألواح التي يكتبونها، ثم يمحونها بعد حفظ ما فيها ليكتبوا غيره فيها، ثم رأوا أن التلاوة في المصاحف غير المنقوطة يكثر فيها الخطأ لغير الحافظ؛ فاستحدثوا النقط لمنع ذلك، ثم استحدثوا الشكل لضبط الإعراب وصحة النقط، ثم وضعوا علامات الوقف للحاجة إليها، وكون معرفة ما يحسن الوقف عليه منوطًا بالفهم، وما كل قارئ يفهم، وجعلوا لهذه العلامات أشكالاً بحسب درجاتها، ثم وضعوا لضبط التلاوة وتجويدها فنًّا، وللوقف والابتداء فنًّا، أفردوا كلاًّ منهما بالتدوين، وجروا عليهما في التلقين، وفي كتابة المصاحف، فالغرض من كل هذه المستحدثات ضبط تلاوة القرآن، واتقاء الخطأ فيها. ولكن لا يزال فيه كلم كثير يخطئ في النطق به من لم يلقنه بالحفظ من زيادة حروف ونقص أخرى، وقد صرنا في زمان يقل فيه من القارئين من يتلقى التجويد وعلامات الوقف على حفاظ المقرئين، فكثر الخطأ في القراءة، وفي الوقف والابتداء، واشتهر في الخط وصناعة الطبع ترقيم جديد فيه علامات للوقف وللاستفهام والتعجب ألفها الناس بدون حاجة إلى التلقين، فاستغني بها عن علامات الوقف الكثيرة في المصاحف من الحروف المفردة والمركبة التي صارت منتقدة لعدم فهم الجمهور لها، ولاستغناء الحفاظ عنها؛ ولأن منها كلمات قد يظن الجاهلون بالقرآن أنها منه ككلمتي صلي وقلي، فإنني أستنكر وضعها في المصاحف أشد الاستنكار. ويرى السائل وغيره أنني جريت في تفسيري للقرآن الحكيم المعروف بتفسير المنار على التزام رسم المصحف الإمام في الآيات المضبوطة بالشكل التام مع علامات الترقيم العصرية، ثم رسم الآيات في أثناء تفسيرها بالرسم العرفي الذي يعرفه جميع المتعلمين مع الترقيم فيها وفي تفسيرها، وأخالف الطريقة المتبعة في وزارة المعارف والأزهر في الياء المتطرفة، فألتزم نقط ما ينطق بها ياء دون ما كانت ألفًا منقلبة عنها لكثرة ما يقع من الاشتباه فيهما كالفعل الماضي من الرواية في بنائه للمعلوم والمجهول. فعُلم بهذا أنني لا أرى مانعًا شرعًا يمنع مما سأل عنه السائل، بل أرى أنه واجب؛ ولهذا جريت عليه بالفعل منذ أكثر من ثلث قرن، فإن الخط والطبع صناعتان يقصد بهما أداء الكلام أداءً صحيحًا، وتصحيح أداء القرآن واجب شرعًا، وتحريفه بالنطق محرم شرعًا، وقد جرى جميع علماء المسلمين في تفاسيرهم على كتابة القرآن بالرسم العرفي، وهم آمنون على حفظ رسمه الأصلي الذي كتبه به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الخلفاء الراشدين لكثرة المصاحف فيه، بل خالفوا رسم المصحف الإمام في كثير من الكلمات التي يشتبه في قراءتها الجمهور منذ قرون لم أقف على تاريخها، وهذا ليس بحجة؛ وإنما الحجة وجوب صيانة القرآن من الخطأ في قراءته، وهي مقدمة على حفظ رسم السلف لو تعذر الجمع بينهما، ولا تعذر. وأما تيسير فهمه على الناس كافة بتفسير سهل العبارة، مناسب لحاجة العصر فهو واجب لا معارض له، وقد طبع بعض الناس تفسير البيضاوي على حواشي المصحف، وهو تفسير دقيق وجيز وُضِع لتذكير العلماء بخلاصة ما في أشهر التفاسير، وبعضهم طبع الجلالين وهو مختصر مخلٍ قلما يستفيد منه الدهماء، وقد تحريت السهولة واجتناب الاصطلاحات الفنية والعلمية في تفسير المنار، ولكنه مطول، وقد كثر اقتراح الناس عليَّ أن أختصره أو أكتب تفسيرًا مختصرًا، فشرعت وعلى الله توكلت. *** أسئلة في أهل السنة (س5-8) من صاحب الإمضاء من علماء الشيعة في جبل عامل (سورية) حضرة الأستاذ العلامة الجليل السيد رشيد رضا وفقه الله لما يرضيه آمين. سلام عليك ورحمة الله وبركاته، إنني أرجو من واسع فضلك، وزخار علمك أن تذكر لنا في مجلتك الغراء رأيك في الجواب عن هذه المسائل مع ذكر الدليل. 1- ما تعريف الحديث الصحيح الذي تثبت به الحجة، وينقطع العذر عند علماء السنة؟ 2- ما تعريف الصحابي؟ 3- هل الصحابة كلهم عدول أم لا؟ 4- ما العدالة عند علماء السنة؟ وبالختام أسأل الله سبحانه لك حسن الختام، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. ...
...
...
...
...
...
...
...
...
صاحب الكلمات ...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
عبد الحسين نور الدين (جواب المنار) (5) الحديث الصحيح: الحديث الصحيح عندهم ما كان متصل الإسناد من أوله إلى آخره بنقل العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة. (6) العدالة في الرواية والشهادة: العدالة مَلَكَة تحمل صاحبها على التقوى بأداء الواجبات، واجتناب كبائر المعاصي، وصغائر الخسة، وزاد بعضهم الرذائل المخلة بالمروءة. (7) الصحابي في عرف المحدثين: الصحابي من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا، واشترط بعضهم طول الاجتماع به، والرواية عنه، وبعضهم أحدهما، وقال بعضهم: هم كغيرهم من الناس. (8) عدالة الصحابة عندهم: أكثر أهل السنة على أن الصحابة كلهم عدول في الرواية، وقال بعضهم: إنما كانت العدالة عامة قبل حدوث الفتن من قتل عثمان رضي الله عنه وما بعده، واستثنى بعضهم من قاتل عليًّا كرم الله وجهه. والذي أراه أن القول بعدالة جميع الصحابة على اصطلاح من لا يشترط في الصحبة طول العشرة، وتلقي العلم والتربية النبوية إفراط يقابله في الطرف المقابل له تفريط الشيعة في تعديل نفر قليل منهم ولا سيما السائل، وطعنه على السواد الأعظم من جماعة نزل فيهم قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 110) الآية، وقوله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (التوبة: 100) وغير ذلك من الآيات، وورد من الأحاديث النبوية في تعديلهم والثناء عليهم، والنهي عن سبهم، وحظر بعضهم ما لا محل لذكر شيء منه في هذا الجواب الوجيز ثم كان من سيرتهم المتواترة في نشر الإسلام في العالم، وإصلاح البشر به ما هو أكبر حجة علمية تاريخية على تفضيل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على جميع أصحاب الأنبياء والمرسلين، وتفضيل أمته على جميع الأمم، وهذا لا يمنع ارتكاب أفراد منهم لبعض الكبائر أو الإصرار على بعض الصغائر، الذي يسلب صاحبه وصف العدالة، ولا يقول منصف أن مثل بشر بن أرطاة الذي رأى النبي طفلاً عدل أو مجتهد متأول فيما فعله من استباحة دماء من كانوا خيرًا منه، وهذا لا يبيح هتك حرمة أولئك الأخيار في جملتهم، كما فعل الأستاذ السائل في كتابه الكلمات الذي يُعَرِّف به نفسه حتى في إمضائه، والظاهر أنه يريد فتح باب هذه الفتنة بهذه الأسئلة الآن، كما طرقه منذ سنتين باقتراح المناظرة التي لم ينسها قراء المنار، وأنه بناها على زعمه أن كلاًّ من أهل السنة والشيعة يعتقد في الآخر أنه غير متبع سبيل المؤمنين! ! فأقسم عليك يا عبد الحسين بالله عز وجل، وبحق رسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم وآله عليهم السلام عليك من الاتباع والأسوة الحسنة، أن تكف عن إثارة الشقاق بين عباد الله من هذه الأمة، فكفاها ما هي مبتلاة به من مهاجمة المستعمرين والملحدين لها في دينها ودنياها، وأسال الله تعالى لي ولك التوفيق لجمع الكلمة على ما أجمع عليه سلفها في خير عصورها، وجعل مسائل الخلاف مما يعذر فيه العلماء بعضهم بعضًا بالاجتهاد، وأن يجعل خير أعمالنا كلها خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائه، وما كان ينبغي لك أن تدعو لي وحدي بحسن الخاتمة، كأنك مستغنٍ عن الدعاء بها لنفسك، والسلام على من اتبع الهدى. *** أسئلة عن بدع طالما كُرِّرت بسم الله الرحمن الرحيم (س 9 - 13) من محمد محمد فاضل إلى السيد محمد رشيد رضا، حفظه الله للإسلام والمسلمين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (أما بعد) فنعرض على فضيلتكم ما يأتي لتفتونا فيه بالحق الذي تودون أن يدين الله به المسلمون. (1) ما حكم صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة إذا تعددت المساجد؟ وهل هي واجبة أو سنة أو مستحبة؟ وهل قولهم (الجمعة لمن سبق) حديث صحيح يجب على المسلمين العمل به؟ (2) ما حكم صلاة ركعتين بنية سنة الجمعة القبلية؟ وهل فعلها النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر بها؟ وهل يقال في فعل لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمر به أنه سنة؟ وعلام يعتمد من يقول ذلك؟ (3) ما حكم الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان جهرًا بالكيفية المعروفة؟ وهل هي سنة أم بدعة؟ ومن أول مَنْ أحدثها من المسلمين؟ (4) ما حكم الذكر برفع الصوت في تشييع الجنازة؟ وهل هو سنة أم بدعة؟ (5) ما حكم قراءة سورة الكهف برفع الصوت في المساجد يوم الجمعة بالكيفية المعروفة؟ وأملنا في فضيلة السيد أن يبين لنا الحق في هذه المسائل بما آتاه الله من العلم النافع، والاطلاع الواسع، هدى الله بكم المسلمين للحق آمين. ...
...
...
...
...
...
...
...
...
محمد محمد فاضل (المنار) سبق لنا بيان هذه المسائل مرارًا تارة بالتطويل، وتارة بالاختصار، والسائل يعلم هذا، وإنما أعاد السؤال؛ لأنه يريد إقناع بعض المخالفين في هذه الأيام، فنعيد الجواب عن كل منها. (9) صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة: الذي أعتقده أن ما يفعله من يسمون أنفسهم شافعية من صلاة الجمعة في مساجد الأمصار، وإتباعها فيها بصلاة الظهر يقيمونها جماعة بعدها زاعمين أن الله أوجب عليهم في هذا اليوم فريضتين في وقت واحد - هو بدعة - وقولهم: الجمعة لمن سبق.
ليس بحديث نبوي يجب العمل به؛ وإنما هو عبارة اجتهادية من فقه الشافعية مبنية على عدم جواز تعدد الجمعة إذا أمكن التجميع في مسجد واحد، فإن خالفوا وعددوا صحت جمعة من سبق منهم، وكانت جمعة الآخرين باطلة، فإن جهل السابق وجب على جميع المسلمين صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة، وهذا ما يفعلونه الآن في جميع مساجد مصر وغيرها، معتقدين أن هذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله، وأن الواجب على كل من يوصف بأنه شافعي أن يفعله، وإلا كان عاصيًا لله تعالى، وإن هذا لحواب كبير لو كان الشافعي حيًّا لأنكره وتبرأ منه، وإن كان يعتقد أن التجميع في مسجد واحد واجب، فهذا الاعتقاد لا يستلزم ما ذُكِرَ. وفي هذه المسألة مباحث اجتهادية (منها) أنه لا يقوم دليل شرعي على أن التجميع في مسجد واحد شرط لصحة الجمعة، قل الناس أو كثروا، وإن عسر ذلك عليهم بأن كانوا في مدينة كالقاهرة يزيد أهلها على ألف ألف نسمة ومساحتها عدة أميال، وأما تجميع المسلمين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم معه فقد كان واجبًا قطعًا، بحيث تعد جمعة من خالفه باطلة من أصلها لا يجوز الشروع فيها مطلقًا، فقد كانت جمعته صلى الله عليه وسلم بمن معه هي الصحيحة وحدها، وإن فرضنا أنها تأخرت، وكذلك حكم التجميع مع خلفائه وغيرهم من أئمة المسلمين، فإذا جمع الإمام بالمسلمين في مسجد واحد لإمكان ذلك بدون عسر ولا مشقة شديدة، وجب اتباعه والتجميع معه، وحرم مخالفته بالتجميع في مسجد آخر بدون إذنه؛ لأنه شقاق بين المسلمين ومعصية للإمام الواجب اتباعه في الطاعة. وأما إذا كبرت الأمصار، وأذن الأئمة بتعدد المساجد، وتعدد التجميع فيها فلا يُعَدّ المعددون مشاقين، ولا مفرقين بين المسلمين، ولا عاصين لأئمتهم، بل متبعين لهم في مسألة اجتهادية تجب طاعتهم فيها؛ إذ لا دليل قطعيًّا على أن التجميع في مسجد واحد فرض مطلوب لذاته، وأنه شرط لانعقاد صلاة الجمعة، والشرط أخص من الواجب المطلق، فلا يثبت إلا بدليل خاص. (ومنها) أن اليسر في الدين ورفع الحرج منه قاعدتان أساسيتان من قواعده ثابتتان بنص القرآن القطعي، فلا مجال فيها لاجتهاد أحد، وهي تقتضي وجوب تعدد الجمعة لا جوازه فقط، ومن المأثور عن الإمام الشافعي قوله بناء على هذه القاعدة: (إذا ضاق الأمر اتسع) (ومنها) أن من شروط صحة الصلاة صحة النية، ومن شروطها الجزم بالمنوي، فمن كان يشك في صحة جمعته لا تنعقد بإحرامه بها، ويكون عاصيًا لله تعالى بشروعه فيها؛ لأنها عبادة فاسدة، فإن قيل: إن الأصل عند أهل كل مسجد من مساجد الجمعة أن جمعتهم صحيحة لعدم علمهم بسبق أحد لهم في جمعتهم؛ وإنما تجب صلاة الظهر بعدها احتياطًا لاحتمال سبق غيرهم لهم.
قلنا: إن احتمال سبق غيرهم كافٍ في حصول الشك المبطل لصحة النية، وقد يرتقي في بعض المساجد إلى الظن الراجح لأهلها بسبق غيرهم، فقد علم بالاختبار والتجارب أن بعض أئمة الجمعة يطيلون الخطبة، وبعضهم يقصرونها حتى إن أهل هذه ينصرفون من صلاتهم، ويمرون بالأخرى؛ فيرون أنهم لم يشرعوا فيها بالصلاة أو لم ينتهوا منها، ومن المصلين من يتحرى هذه، ومنهم من يتحرى تلك. (ومنها) أن من علم أنه يمكنه السبق والحال ما ذكر وجب عليه، وذلك بأن يؤذن المؤذن عند الزوال بدون تطويل، ويلقي الإمام خطبة مختصرة يقتصر فيها على الأركان الواجبة من حمد الله تعالى، والشهادتين، والأمر بالتقوى وقراءة آية أو آيتين كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} (الأحزاب: 70) وما بعدها، والدعاء للمؤمنين في الثانية بالمغفرة، ثم يصلي فيقرأ في الركعة الأولى سورة العصر أو الكوثر، وفي الثانية الإخلاص، ولم يقل أحد بوجوب مثل هذا ولا فعله أحد. (ومنها) أن الاحتياط في مسألة اجتهادية كهذه لا يصح أن يكون بإيجاب الجمع بين فريضتين من شعائر الإسلام جهرًا في المساجد بصفة دائمة، فإن مثل هذا لا يثبت في الدين إلا بنص قطعي الرواية والدلالة لا يصح فيه الخلاف بالاجتهاد، والمعروف عن جمهور من يسمون أنفسهم شافعية أنهم يعتقدون أن الله تعالى فرض عليهم يوم الجمعة في هذه الأمصار المتعددة المساجد أن يصلوا فيها فريضتين كل منهما صحيحة؛ لأنهم شافعية، أخشى أن يكون هذا من الافتراء على الله والقول عليه بغير علم؛ فإن المسائل الاجتهادية لا تسمى علمًا بإجماع المجتهدين. (ومنها) أن هؤلاء الذين يدعون التعبد بمذهب الإمام الشافعي قلما يوجد في دارسي كتب هذا المذهب منهم من يعرفه، وإنما هم عوام، والعامي لا مذهب له، وهم كغيرهم قلما يحفظون من فروع المذاهب إلا ما فيه الخلاف بينهم وتفريق كلمتهم، ولا شيء أضر على المسلمين بعد الكفر من الشقاق والتفرق، ولو كانت لهم دولة إسلامية لأزالت هذا الشقاق بما يجمع الكلمة، ولو في الشعائر الظاهرة فقط، وأرى أن إزالة هذا التفرق ممكن بسرعة إذا اقتنع به جمهور علماء الشافعية، على أنه سيزول بانتشار أنصار السنة والدعوة إليها بالحكمة والموعظة الحسنة، وهم فاعلون إن شاء الله تعالى. (10) دعوى سنة جمعة قبلية: لم يرو أحد من المحدثين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين قبل الجمعة، ولا أنه أمر بذلك بهذه الصفة؛ وإنما صح أنه أمر من دخل المسجد وجلس وهو يخطب أن يقوم فيصلي ركعتين، وهما تحية المسجد المستحبة لكل من يدخله قبل أن يجلس فيه، وقد بينا من قبل أنه لا يقوم دليل على سنية راتبة قبل صلاة الجمعة وبعد الأذان لها، وأن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخرج من بيته إلى صلاة الجمعة، فيبتدر المنبر، فيؤذن المؤذن، فيقوم صلى الله عليه وسلم، فيخطب خطبتيه، فينزل، فيصلي. وحكم صلاة الركعتين المسئول عنهما أنها صحيحة؛ وإنما الغلط فيها تسمتيها سنة راتبة مأثورة، وهذا يزول بالعلم، فمن علم معنى السنة حتى في عُرف المذاهب التي يقول مقلدوها بهذه الراتبة، وعلم أنه لم يصح فيهما ما يسوغ لهم أن يسموها سنة ترك ذلك، إلا إن يقول له علماء المذاهب المقلدون عنه: إنه ثبت عند أئمتنا أنها سنة، وصدقهم بغير استبانة. (11) زيادة بعض المؤذنين في بعض الأمصار: هذه الصلاة والسلام في آخر الآذان بدعة في شعيرة من شعائر الإسلام بيَّنا تاريخ حدوثها، واسم الجاهل الفاسق الذي أحدثها، وجهل من استحسنها من أنصار البدعة، وأعداء السنة في الفتاوى، ثم في مقال طويل فندنا فيه شبهات الشيخ يوسف الدجوي فيها؛ لأنه نشرها في مجلة الأزهر الرسمية، وقد نشر مقالنا في الرد عليها في بعض الجرائد اليومية، واقتنع به الناس، وفيه أن أول من ابتدعها محتسب القاهرة صلاح الدين عبد الله بن عبد الله البرلسي بعد سنة 760. (12) قراءة سورة الكهف يوم الجمعة في المسجد: أهل بلدنا (القلمون) كلهم شافعية، وقلما يوجد في الدنيا بلد يقام مذهب الشافعي في مسجده كبلدنا، ولعلي لا أذكر أنني صليت فجر الجمعة فيه إلا والإمام يقرأ فيه سورتي: الم السجدة والإنسان، ولما اشتغلت بطلب العلم في مدينتنا (طرابلس الشام) رأيت الحنفية يقولون: إن المواظبة على قراءة هاتين السورتين في فجر الجمعة مكروهة، وعللوا هذا بأن فيه هجرًا للقرآن، فرأيته من أنكر ما يردون فيه السنة الصحيحة بالرأي، وبعد عشرات السنين طبعت كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي فرأيت فيه أن بعض السلف كانوا يتركون بعض السنن أحيانًا؛ لئلا يعتقد العوام فرضيتها إذا التزمت، وإن بعض العوام في الأندلس وقعوا في هذا حتى قال بعضهم: إن فرض الصبح في يوم الجمعة ثلاث ركعات، فظهر لي أن للحنفية وجهًا في الجملة، ولكن لا ينبغي أن يدخلوا السنة الصحيحة في حكم المكروه شرعًا، وإنما يقال: يحسن أن يُقرأ في فجر الجمعة في بعض الأيام غير هاتين السورتين، لئلا يظن بعض العامة فرضيتهما. ثم رأيت هذا المحقق قسم البدعة إلى حقيقية وإضافية، وعرَّف الإضافية بأنها الإتيان بعمل مشروع في أصله بصورة غير مشروعة من التزام زمان أو مكان أو صفة أو اجتماع، بحيث يعتقد العوام أن هذا القيد الملتزم مطلوب شرعًا، قال: ومنه اجتماع المصلين عقب الصلاة، وقراءتهم للأذكار المشروعة برفع الصوت ...
إلخ وقراءة الكهف في يوم الجمعة في المسجد من هذا القبيل، هو في أصله قراءة مشروعة؛ ولكن التزام قراءته في المسجد برفع الصوت قبل صلاة الجمعة غير مشروع، وورد حديث ضعيف في قراءتها يوم الجمعة رواه الحاكم، والبيهقي عن ابن مسعود بلفظ (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين السماء والأرض) وله عند الثاني لفظ آخر بقراءتها ليلة الجمعة، وبإضاءة النور له ما بينه وبين البيت العتيق وحسَّنه السيوطي. دع ما في قراءتها في المسجد برفع الصوت، والناس يصلون تحية المسجد وغيرها من فائتة ونافلة من التشويش المنهي عنه، وقد فصلت هذا من قبل تفصيلاً *** نصيحة لدعاة السنة وإنني أوصي نفسي وإخواني محبي السنة، ومنكري البدع أن يسلكوا طريق اللين واللطف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أمثال هذه المسائل التي يقلد فيها الجمهور علماءهم ظانين أنها من بقايا الدين، واتباع السلف الصالحين، ومذاهب الأئمة المجتهدين؛ فإن الغلظة في الأمر والنهي تزيد المقلد جمودًا على التقليد، فلا يصغي سمعه إلى قول محمد فاضل، ولا قول مفتيه محمد رشيد، ولا يغرنهم أنهم على حق، وأنهم يأمرون وينهون على علم، وليذكروا قول الله تعالى لمن شهد له بالخلق العظيم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) ، وقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (يسروا ولا تعسروا) متفق عليه. بهذه الآداب الإلهية تنتصرون أيها الإخوان على أعداء السنة وأنصار البدع من بقايا المتفقهة الجامدين، وشيوخ الطرائق المرتزقين، وسدنة الأضرحة الخرافيين، ولا يفوتكم أن تُذَكِّروا العامة بأنهم لا يفتونهم بالبدع، ويتأولونها لهم إلا لأجل أكل أموالهم بالباطل، وأنكم تدعونهم إلى الكتاب والسنة لوجه الله وابتغاء مرضاته، وأن حجتكم اتباع خير القرون بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين، وهي الحجة العملية التي لا تحتمل التحريف والتأويل {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .