الرجعيون (1)
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
الرجعيون (1)بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وبعد:
فلا يَخفَى على متأمِّل ما حَلَّ بشعوب المسلمين مِن ويلاتٍ جَرَّاءَ الدعوات الرجعيَّة المنتشرة في طول العالم الإسلامي وعرضه، حتى تفرَّق المسلمون أحزابًا يُناحِر بعضُها بعضًا، ويبغي بعضُها على بعض و﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون: 53].
ولا غَرْوَ أن تلك الدعوات المتخلِّفة قد حازت القدح المعلَّى مِن علل ذلك التفرُّق والتناحُر وأسبابه، ولم يَبْقَ مِن مُتَّكَأ يتَّكئ عليه دُعاتها بعد انكشاف سوءاتهم، وظهور سخيمة صدورِهم، وبُدُوِّها للعيان دونما سِتر يستترون خلْفه، أو أوراق توتٍ يَخصفون بها على أنفسهم صيانة لها من الفضيحة.
وقد يبدو لأولِ وَهْلة لمُطالِع المقال أن كاتبه علماني التوجُّه، أو متشرِّبٌ ببعض سموم القوم، عافانا الله تعالى والقرَّاءَ مِن ذلك.
وباعث انقداح ذلك الظن في نفس القارئ، والله أعلم؛ أن المصطلحات آنفة الذكر قد دأب على تردادها اللادينيُّون المسمَّون بالعلمانيين على اختلاف مسمياتهم، وتنوُّع لبُوسهم، أعاذ الله المسلمين مِن خبثهم وخبائثهم.
بيد أن البون شاسع جدًّا بين مراد الكاتب من تلك المصطلحات، ومدلولاتها عند اللادينيِّين؛ فالمذكورون - قطع الله من بلاد المسلمين ذكْرَهم - يصِفون الرجوع إلى دين الله تعالى بالرجعية، لا سيما إذا اقترَن بفهم أصحاب القرون الأولى من الصحابة، والتابعين، وأتباع التابعين، ومَن سار على دربهم، وتشبَّث بأهدابهم، فهذا سقف الرجعية عندهم، والمتلبِّسون به هم المستقدمون، السابقون من أهلها في تقييمهم.
ولهذا ينبزون الداعين إلى العودة إلى منابع الإسلام الصافية، وأصوله النقيَّة المتمثلة في الكتاب والسُّنَّة بفهم خير قرون الأمَّة بالأصوليين، وهو وسام شرف إنْ تعاملْنا مع المصطلح بدلالته اللغوية، ولم نُعَرِّج على تاريخ استخدامه، ومَنْ أولئك الذين وُسموا به، ولا يحسُن بنا أن نفعل ذلك؛ نظرًا لخطورة شأن المصطلح، وسوء عاقبة التهاوُن في استخدام الدخيل منه[1].
فأخبِروني بربكم: متى كان الرجوع إلى الينابيع الأولى بُغية استقاء الفهم الصحيح للشرع شيئا يُعاب به المرء، حاشا عند السائرين على مذهب قوم لوط في ذمِّ أهلِ الطهر بطهرهم؟
إذا مَحاسِنيَ اللاتي أُدِلُّ بها
كانت ذنوبي فقل لي: كيف أعتذر؟
وعلى الضدِّ مِن مراد أولئك المغالطين يأتي مرادنا مِن المصطلح محلِّ البحث؛ إذ نقصد بالرجعيين: أولئك الذين يريدون أن يعودوا بالمسلمين إلى عصور الجاهلية التي سبقتْ بزوغَ شمس هذا الدِّين علي يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الميامين الذين بذَلوا الغالي والنفيس، وأنفقوا الطارف والتلاد، وكابدوا كل مشقة، وركبوا كل صعب، وعايشوا كل محنة؛ لينعم الناس بالحياة في ظلال النور المبين، المنزل مِن لَدُنْ رب العالمين، هدى وشفاء، ورحمة ونعمة.
فأي رجعية فوق تلك الرجعية؟
وأي تخلف عن ركب الحضارة والرقي الإنساني فوق ذلك التخلف؟
أَبَعْدَ أن أنعم الله علينا برابطة العقيدة نتمزَّق كل ممزَّق تحت دعاوى الوطنية؟
أبعْد أن مَنِّ سبحانه علينا بوشيجة الإيمان نقطع أوصالها باسم قومية عربية، أو طورانية، أو كردية، أو بربرية، أو فارسية؟
أفيُذهِب اللهُ تعالى عنَّا رجس الوثنية الفرعونية، والفينيقية، والبابلية، وغيرها، وتَحِنُّ قلوب بني علمان ممن يتكلمون بألسنتنا إليها، فيؤزُّون الناشئة أزًّا على التفاخر بها، والانتساب إليها؟
لقد صنعتْ دعوةُ الشعوبيِّين مِن الأعاجم، وعلى رأسهم الفرس، التي بدأت إرهاصاتها في أواخر العصر الأموي، وبدتْ للعيان في العصر العباسي الأول في نسيج الأمَّة الإسلامية ما لم تفعلْه جيوشُ الأمم المتاخمة لأمَّة الإسلام، والتي كانت تتربَّص بها الدوائر؛ إذ كان لخلخلة النسيج الداخلي بفعْل تلك الدعوة القومية البغيضة من المردود ما لم يكن لهجمات الخَزَر، والدَّيْلَم، والروم، والأرمن، وغيرهم نظيره، كما كان لاستِعلاء بعضِ العرب على العجم الأثر البالغ في إذكاء تلك النزعة، ومزيد تفتيتِ وحدةِ الأمَّة الإسلامية الواحدة ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 92].
وقد أذكى الاستعمار الغربي الذي تقاسم بلاد المسلمين تلك الدعوات الشعوبية، ونفخ في نارها، بل أجَّجها وسَعَّرها، كل ذلك بغية الإجهاز على الجسد الواحد؛ ليسْهُل التهامُه على المفترس المتزيِّي بزيِّ التمدُّن والرقي زورًا وبهتانًا.
ومَن يقرأ في كتابات المستشرقين المُنَظِّرين للمستعمر، كمؤلفي كتاب (إلى أين يتَّجه الإسلام؟)، يَعلم حرْصَهم الشديد على تأهيل الأوضاع في العالم الإسلامي قبل خروج قواتهم العسكرية منه؛ لأن جيوشهم لم تكُن لتتحمَّل دفْع فاتورة الخسائر أكثر مِن فترة معيَّنة، حتى وإن استعانوا بأبناء الأمم المُسْتَعْمَرة، وجعلوهم لهم أجنادا[2]، وحتى يَستَمتعوا بالغنيمة الباردة عقب عودتهم لبلادهم بعد أن تركوا مَن يَنُوب عنهم في القيام بما يريدون، وهذا ما وقع بقدَر الله تعالى عقوبة للمسلمين، وإمهالا للكافرين، والأيام دُول.
[1] الأصولية مصطلح غربي مترجم عن كلمة الراديكالية Radicalism، وأصلها كلمة Radical التي تعني بالعربية: أصل، أو جذر، وقد عرَّفها قاموس لاروس بأنها: موقف جمود وتصلُّب معارض لكل نموٍّ ولكل تطوُّر، في حين عرَّفها بعض الأكاديميين الفرنسيين بأنها: موقف بعض الكاثوليكيين الذين يرفضون كل تطور عندما يعلنون انتسابهم إلى التراث، ومنهم مَن عرَّف الأصولية بكونها: فرقة بروتستانتية تؤمن بالعصمة لأفرادها الذين يدَّعون تلقِّيهم عن الله مباشرة، ويُعادون العقل، والفكر العلمي، ويميلون إلى استخدام القوة والعنف في سبيل هذا المعتقد الفاسد.
وقد حاول الغربيون وأذنابهم نعت دعاة الإسلام بهذا المصطلح من باب الذمِّ، يقول المستشرق البريطاني هومي بابا (أستاذ الأدب في إحدى الجامعات البريطانية): الأصولية كلمة ذات دلالات سلبية تلصق بالعالم العربي، مع أن الظاهرة عالمية لا تقتصر على ما كان يسمَّى دول العالم الثالث مثل الهند ومصر، بل وَجدتْ طريقها إلى العالم الأول حيث الأصولية الإنجيلية على أشدها في الولايات المتحدة مثلًا.
فمصطلح الأصولية الغربي المساوي للراديكالية معاكس تمامًا لمعنى الأصولية في اللغة العربية، لأنه بدل أن يخلع على الحركات الإسلامية معاني الشرف والالتزام والأصالة في الفكر والرأي يلبسها ثوب الجمود والانغلاق ورفض التكيف،انتهى مقتبسا من مقال لمحمد خلف الرشدان بعنوان الأصولية والراديكالية، مع اقتباس أحد التعريفات من معجم المناهي اللفظية (ص 102 ـ 107) للعلَّامة بكر أبي زيد رحمه الله تعالى، وفيه بيان موقف الشرع من هذا المصطلح وأمثاله، وخطورة التهاون في شأن المصطلحات.
وقد نبَّه الأستاذ عبد الوهاب الكيالي رحمه الله تعالى في الموسوعة السياسية (2/ 784) أن هذا التعبير يختلف من بلد إلى بلد، ومن عصر إلى عصر، ومن وضع إلى وضع، مستندًا إلى كون دلالة المصطلح في القرن التاسع عشر تختلف عن دلالته اليوم؛ إذ كان مصطلح الراديكالية الفلسفية يُطلَق على نظرية فلسفية أسَّسها واعتنقها جون ستيوارت ميل، وجيمس بيل، وغيرهما، وكان من أشكالها الحرية في كل أشكالها، وخصوصًا الحرية التجارية والفردية والإيمان بالعقل والمنفعة الأخلاقية، ثم تغير مدلول اللفظ ليعبر عن المتطرفين اليساريين بعد أن كان يطلق على الليبراليين اليمنيين.
[2] من المؤسف حقًّا أن كثيرًا من المعارك الفاصلة في الحروب العالمية كان وقودها من أبناء المستعمرات، سواء تم تجنيدهم إجباريًّا أو اختياريًّا، بل كان بعض هؤلاء بمثابة القوة الضاربة في جيوش المستعمرين لتمتُّعهم بشجاعة يعجز عنها الغربيون، كما كان الحال في المعارك الفاصلة في مستعمرات الهند الشرقية.