أرشيف المقالات

إنا لله وإنا إليه راجعون ملاذ ذوي المصائب

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
إنا لله وإنا إليه راجعون ملاذ ذوي المصائب

والمصيبة هي النكبة التي تقع للإنسان وإن كانت صغيرة، وهى المكروه أيضا، وهى كل ما يؤذى المؤمن.
‏‎‎يقول تعالى ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157]، كلمات الاسترجاع في هذه الآية هى: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، هذه الكلمات هى ملجأ‎‎ وملاذ ذوى المصائب " فلا يتسلط الشيطان عليهم ولا يوسوس لهم بما يزيد من شدة مصائبهم.
وهى من أبلغ علاج ‎‎المصائب وأنفعها للإنسان، وهى جامعات لمعاني الخير والبركة، فقول المصاب "إنا لله" توحيد وإقرار بالعبودية والملك، ‏وقوله: "وإنا إليه راجعون" إيمان بالبعث بعد الموت وإيمان أيضا بأن الله له الحكم في الأولى وله المرجع في الآخرة، فهى ‏كلمات تعنى اليقين بأن الأمر كله لله وأنه لا ملجأ منه إلا إليه.

‏ وتتضمن هذه الكلمات كما يقول العلماء أصلين عظيمين إذا عرفهما المصاب خففت عنه شدة ما أصيب به:
الأول: أن يعرف المصاب ويوقن بأن نفسه وأهله وماله وولده ملك لله تعالى حقيقة، وأن الله تعالى قد أعارها إياه وجعلها ‏‎‎عنده، فإذا أخذها الله منه فإنه يكون قد استرد ما أعاره إياه، وأن تملك الإنسان لما أعير إنما كان لفترة يسيرة من الزمن ‏‎‎ليستمتع بها.
وإذا كان الإنسان قبل أن يولد عدما، وبعد أن يموت سيكون عدما، وإذا كان الله تعالى هو الذي أوجده من عدم، ‏فكل ما يملكه ليس ملكه حقيقة وليس له فيه تأثير، وإنما ملك من أوجده من هذا العدم.‏
‏ والإنسان يتصرف فيه ليس تصرف المالك وإنما تصرف العبد المأمور بالفعل والمنهى عن آخر، ولهذا لا يباح له ‎‎التصرف ‏إلا وفق أوامر ونواهى المالك الحقيقي وهو الله عز وجل، فكيف يأسى على فقد شيء لا يملكه أصلا.‏
الثاني: أن مصير الإنسان ومرجعه هو إلى الله تعالى، وأنه ولابد أن يترك الدنيا وراء ظهره، ويأتي ربه يوم القيامة فردا‏، كما خلقه أول مرة، بلا أهل ولا مال ولا ولد، ولكن يأتيه بالحسنات والسيئات فقط، فإذا كانت هذه بداية العبد ونهايته،‎‎فكيف يفرح بولد أو مال أو غير ذلك من متاع الدنيا، وكيف يأسى على عزيز فقده، أو مال خسره.‏
‏ إن في كل قرية و في كل مدينة بل وفي كل بيت من أصابته مصيبة، فمنهم من أصيب مرة و منهم من أصيب مرارا و لا ‏ينقطع هذا حتى يأتي على جميع أهل البيت حتى نفس المصاب فيصاب أسوة بأمثاله ممن تقدمه فإنه إن نظر يمنة فلا يرى ‏إلا محنة وإن نظر يسرة فلا يرى إلا حسرة.‏
وذكر العلماء: أن ذا القرنين لما رجع من مشارق الأرض و مغاربها وبلغ أرض بابل مرض مرضا شديدا فلما شعر بدنو ‏أجله كتب إلى أمه: يا أماه اصنعي طعاما واجمعي من قدرت عليه و لا يأكل طعامك من أصيب بمصيبة واعلمي هل ‏وجدت لشيء قرارا باقيا و خيالا دائما؟! إني قد علمت يقينا أن الذي أذهب إليه خير من مكاني، فلما وصل كتابه إلى أمه ‏صنعت طعاما و جمعت الناس و قالت: لا يأكل هذا من أصيب بمصيبة فلم يأكل أحد من هذا الطعام، فأدركت ماذا كان ‏يقصد ولدها، فقالت: من يبلغك عني أنك و عظتني فاتعظت وعزيتني فتعزيت فعليك السلام حيا وميتا.‏
ولو فتش المصاب العالم فلن ير فيه إلا مبتلى إما بفوات محبوب أو حصول مكروه، فسرور الدنيا كما يقول العلماء أحلام ‏نوم أو كظل زائل، إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا وإن سرت يوما ساءت دهرا وإن متعت قليلا منعت طويلا وما جلبت ‏للشخص في يوم سرورا إلا خبأت له في يوم آخر شرورا.
وقال العلماء أيضا: ما كان ضحك قط إلا كان بعده بكاء.‏

 
ورغم ذلك كله، فإن في قصة أم سلمة رضى الله عنها بشارات مضيئة لذوى المصائب، قالت أم سلمة: " معت رسول الله ‏صلى الله عليه و سلم يقول: ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: (إنا لله  إنا إليه راجعون) اللهم اؤجرني في مصيبتي و ‏أخلف لي خيرا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها" قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت: من خير من أبي سلمة ‏صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ قالت: ثم عزم لي فقلتها، فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 
المقصود هنا: أن هذا تنبيه على قوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155] بأنه تعالى يخلف المصاب كما أخلف لأم سلمة بدل زوجها ‏أبي سلمة رسول الله صلى الله عليه و سلم حين اتبعت السنة و قالت ما أمرت به ممتثلة طائعة موقنة بأن البر والخير فيما ‏قاله الله ورسوله وأن الضلال و الشقاء في مخالفة الله و رسوله فلما علمت - رضي الله عنها - أن كل خير في الوجود إما ‏عام و إما خاص فهو من جهة الله و رسوله و أن كل شر في العالم أو كل شر مختص بالعبد فسببه مخالفة الله ورسوله، ‏وقالت هذه الكلمات حصل لها مرافقة الرسول في الدنيا و الآخرة.‏و قد يتحقق للإنسان بكلمات الاسترجاع منزلة عالية و ثوابا جزيلا، فإن الله تعالى يقول لملائكته: "ماذا قال عبدي (أي ‏عند المصيبة)؟ فيقولون: حمدك و استرجع فيقول الله تبارك وتعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة و سموه بيت الحمد".‏
والذي يسترجع عند المصيبة: عليه صلوات من ربه (أولا)، ورحمة (ثانيا)، وهو من المهتدين (ثالثا)، كما جاء في ‏قوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].
وقال عمر في ذلك: نعم العدلان و نعمت العلاوة فأراد بالعدلين الصلوات و الرحمة و‏‎‎بالعلاوة الهداية وقيل فيها أيضا: المراد استحقاق الثواب وتسهيل المصاب و تخفيف الحزن (أولئك عليهم صلوات من ‏ربهم) فالصلاة من الله الرحمة و من الملائكة الاستغفار و من الآدمي التضرع و الدعاء) وقال العلماء: صلاة الله ثناؤه ‏عليه عند الملائكة و صلاة الملائكة الدعاء.‏
ومن أعظم البشارات كذلك: أن من أصيب بمصيبة ثم تذكرها بعد مدة طويلة فجدد لها استرجاعا و صبرا كان له عند الله من ‏الأجر كلما ذكرها و استرجع.‏
قال الإمام أحمد في مسنده: - عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ما من مسلم و لا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها و إن ‏طال عهدها - قال عباد: قدم عهدها - فيحدث لذلك استرجاعا إلا جدد الله له عنه ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها.

وقال سعيد بن جبير: ما أعطي أحد في المصيبة ما أعطي هذه الأمة - يعني (إنا لله وإنا إليه راجعون) - و لو أعطي أحد ‏لأعطي نبي الله يعقوب عليه السلام ألم تسمع إلى قوله في فقد يوسف: ﴿ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ﴾ [يوسف: 84] أولئك - أصحاب هذه ‏الصفة - ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 157].

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣