أرشيف المقالات

التمزق المذهبي وتدهور الحضارة الإسلامية

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
مارس التمزق المذهبي وما تمخض عنه من صراع حاد على مستوى العقيدة والشريعة والسلوك، وعبر قنوات الجدل أو القتال، دورًا خطيرًا في تفتيت قدرات الأمة واستنزافها، وإعاقتها بالتالي عن مواصلة مهماتها الحضارية.
وبنظرة سريعة على كتب الفِرَق الإسلامية يمكن أن نضع أيدينا على صورة مخيفة لتَشَظِّي الأمة المذهبي، والعدد الأسطوري للفِرَق التي كانت الواحدة منها تتشرذم بدورها إلى فرقٍ شتَّى، ويكفي أن نطالع في كتاب "الفَرْق بين الفِرَق" لعبد القاهر البغدادي (ت ٤٢٩هـ) ما يزيد على المائة فِرْقة شهدها تاريخ المسلمين حتى عصره.
ولم يقف الأمر عند حدود الجدل، ولكنه تجاوزه في كثير من الأحيان صوب اعتماد القسر المذهبي، والعنف، ورفع السيف قبالة (الآخر) لمجرد اختلاف في الرأي، أو تغايُر في الموقف بالنسبة لهذه القضية أو تلك.
ويكفي أن نتذكر مسلسل الثورات الخارجية وما استنزفته من دماء الأمة وإمكاناتها العمرانية، ونتذكر معه الفتنة الحادة التي أثارها المعتزلة ضد الحنابلة بعد تبني السلطة العباسية للمذهب الاعتزالي منذ زمن المأمون، وصيغ القسر المذهبي، والاضطهاد والتصفية التي شهدها العصر العباسي الأول زمن المأمون والمعتصم والواثق (١٩٨-٢٣٢هـ/ ٨١٣-٨٤٧م).
ويمكن أن نتذكر كذلك مسلسل الفتن الطائفية بين السُّنة والشيعة في العصور العباسية التالية، تلك التي شهدتها أحياء بغداد وأسواقها بين الحين والحين، وذهب ضحيته المئات والألوف فيما حدثنا عنه ابن الجوزي في "المنتظم" وغيره من المؤرخين.
لقد كانت الظاهرة الفِرَقية بحقٍّ واحدة من أكثر عوامل الإعاقة الحضارية خطورةً في تاريخ المسلمين، فإن ما تمخض عنها من استنزاف فكري عبر سِنِي الجدل المُلِحّ الذي لم يُخْلِف وراءه سوى المزيد من العزلة والتشبث بالرؤية الأُحادية، وما رافقها من اضطهاد وتصفية وقتال أتى على زهرة أبناء الأمة وقدراتها المادية، وما ترتَّب عليها مِن تفكُّك المجتمع الإسلامي إلى فصائل وشراذم متناحرة متباغضة.
هذا كله يبين لنا لماذا أَوْلَى الرسولُ اهتمامًا بالغًا بهذه الحالة السلبية، وحذَّرنا منها، وضرب بصددها الأمثال من أجل أن يُجَنِّب أمته دخول الدوامة التي ساقها إلى التشرذم في عشرات الفِرَق ومئاتها.
كما أشار في حديثه المعروف إلى ذلك اليوم الذي ستفترق فيه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، ليس ثمة فيها إلا فرقة ناجية واحدة؛ إذ قال فيما رواه أبو هريرة: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» (رواه الترمذي [2640]، وصححه الألباني ).
ولقد كان لهذا دلالته بِغَضِّ النظر عن تاريخية الرقم الذي يمكن أن يُحمَل على محمل المجاز، وتؤول دلالته على تشرذم الأمة إلى العديد من الطوائف والفِرَق، وأن التشبث بكتاب الله وسُنَّة رسوله، والتزام الجماعة، ورفض الانزلاق باتجاه دعاة الفُرْقة هي الموقف الوحيد الذي يرضي الله ورسوله؛ لأنه في جوهره حماية لوحدة الأُمَّة التي أُريد لها أن تكون شاهدة على الأمم، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
وبمقدور المرء وهو يتابع النزيف العقلي والجسدي، والتفتُّت الاجتماعي الذي تمخض عن الظاهرة الفِرَقية أن يخمن حجم الهدر في الطاقة الإسلامية، ذلك الذي شهدته الأمة عبر تاريخها الطويل، وكيف أن هذه الطاقة التي أُهْدرت كان يمكن أن تسهم إيجابًا في الإنجاز الحضاري، وإعانة الأمة على صعود المنحنى، وتنمية المعطيات الإبداعية، بدلًا من أن تتحول إلى سيف مُصْلَت أَجْهَز على القدرات الإسلامية، وصرفها عن مجالها الحقيقي، وكفّها في نهاية الأمر عن العطاء والإبداع.
 
عماد الدين خليل.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢