نظرية "التَنــــَـــــــك" !!
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
1
نظرية "التَنَك" هي أحدث ما توصلت إليه النظريّات السياسيّة في
عالمنا العربي ، وهي في الأصل نظريّة أمريكيّة مستوردة حديثا ، ولها
نسخــة مصنوعة خصّيصا للمواصفات العربيّة ، في ضوء معظم الأنظمة
الحاليـّـة ، وهذا شرح النظريـّة مع تبسيط شديد :
هي مشتقة من " التنك " ، بالتحريــك ، وهي علبة من معدن خفيف
لاتصلح للأشياء الثقيلة ولا الأمــور المهمـّـة بلاريب .
وإذا كانت فارغة فأتى عليها ضربٌ خفيف تصدر اصواتا هائلة ،
لاتعكس حقيقة ما وراء الصوت ، بل أكبــر منها .
كما أنها يسهل "بعجها" وإعادة تشكيلها .
وفي اللهجة الخليجية تُضرب مثلا للشخص الأبله الذي يصدق كل ما
يُقال له ، ويمكن توجيهه بسهوله ، وخفيف العقل ، ويردد كالببغاء ما
يقوله غيره بلا وعي ، ولايكتشف أنه قـد خُدع إلا بعد فوات الأوان ،
فيقــال : " فلان إتْـنِكـَه" !
وملخّص نظرية التنك السياسية هذه ، أن تقتصـــر مهــمّة النظام
السياسي فــي هذه الخطــوات :
الخطوة الأولى : ـ
مواصلة التعبئة في الوعي واللاوعي للشعوب العربية والإسلامية ،
أنها مجرد قطعــــان سائرة وراء الغرب المتطوّر ــ أو لنقــل : قطع "
تنك "بأعداد كبيرة جدا ! ــ وذلك بواسطة الإتهام المتكرر لتراثها ،
وتاريخها ، وثقافتها ، وشخصيّتها الحضاريّة ، بــل نفس تركيبة العقل
العربي والمسلم ، بأنّ ذلك كلّه من شأنه أن يولّد الإرهاب ، والتطرف ،
والتشدد ، والتخلف ، لاسيما القرآن العظــيم ـ تعالى الله عما يقول
الكافرون علوا كبيرا ـ ومنابر الجمعة ، والمساجد ، وكتب الفقه ، وكتب
التاريخ العربي والإسلامي ، وكــلّ ما له علاقة بالإسلام هو السبب
الرئيس في تخلف الشعوب ، حتى الحجاب ، واللحية ، وكليات الشريعة ..
إلخ !!
وفي هذه الخطوة يتـــــم رفع الشعـــــــوب العربيّة إلى المستوى
الأوّل مــــن حالة " التنكية" ، وبلاريب يجب أن يكون هذا تحت الإشراف
الأمريكي .
الخطوة الثانيــــة :
توجيه وسائل الإعلام توجيها منهجيا ، لتفريغ العقول من القضايا
المهمّة التي تحتاجها الأمّة اليوم وهـــــي خمســة قضايا :
أولا :إعادة الإعتزاز بالإنتماء إلى الإسلام على أنه المكوّن
الحضاري الأساس للأمّة ، على مستوى العقيدة ، والتشريع ، والقيم
الروحيّة ، والاخلاقيّة .
ثانيا : تحويل طاقات الأمّة من هذا الاعتزاز الذاتي بالهويّة
والثقافة ، إلى تحمّل مسؤولية نشر الإسلام عالميا متحديا برسالته
العلوية السماوية ، كلّ المناهج الأرضيّة الوضعيّة ، متحولا من موقع
الدفاع إلى الهجوم .
ثالثا : تحقيق الوحدة التكامليّة للشعوب في نظام سياسي موحّـد ،
يستــرد بلادها المحتلة ، ويخرج كل قواعد الإحتلال وملحقاته منها ،
ويعزز شخصيّتها الحضاريـّة عالميــّا ، ويحقّق استقلال القرار السياسي
للأمـّة ، والتكامل الإقتصادي ، والقوة العسكرية .
رابعا : توفير حقوق الشعوب العربيّـة والإسلاميّة كاملة ، وحفظ
كرامة الفرد ، وضمان بقاء النظم السياسية خادمة للشعوب أمينة على حفظ
دينها ، وكرامتها وحقوقها ، مرهون بقاؤها بهذا الحفظ فحسب ، لا
بأطماعها الشخصية ، ولا بتدخلات خارجــية .
خامسا : تطوير العلوم اللاّزمة للنهضة الشاملــة العلمية ،
والسياسية ، والإدارية على مختلف الأصعدة ، تطوير هذه العلوم ، وليس
تخريب ( وليس هــو تطوير ) مناهج تعليم الشريعة واللغـة العربية
!!
تفريغ عقول الأمّة من هذه القضايا ، إلى إشغالهــا بثلاث قضايا
تركّز عليها وسائل الإعلام :
ولاحظوا أن واقع وسائل الإعلام ، ومناهج الثقافة ، والمؤتمرات ،
وحتى شيوخ الدين المزيفيّن أو الذي تم تحويلهم إلى " تنك " بواسطة هذه
النظرية الخطيــرة ، يجب أن يركزوا عليها دائمـا !!
وهي :
1ـ مكافحة وهم "الإرهاب" ، وإشغال الدولة في ملاحقة شبحه ، من
تغيير المناهج ، وتفتيش المساجد ، وتنبيش عقول الشباب ، إلى البحث تحت
الثياب ، ووراء النقاب.. إلــخ . وعلى شيوخ الفتوى أن يتفرّغُوا لتوعية الشعوب من هذا الخطر الداهم ، ويجب تأجيل كلّ القضايا الأخرى إلى أجل غيـر مسمّى ، فلاشيء أخطر على الأمّة اليوم ، من الإرهاب المختفي وراء النقاب ، وتقصير الثياب ، ووراء الحديث عن توحيد الأمّة ، و الجهاد ، والتحذير من مكايد اليهود والنصارى ، في المواقع الإلكترونية ، وزوايا المساجــد !! في لهــث مستمر ، وحثيث ، ومجنون ، الهدف منه إبقاء الأمّة في حالة شعور بالذنب ، والتخلف ، والبحث عن الذات ، والدفاع عن النفس ، وتغييبها عما يحاك ضدها ، بل تحويلها إلى وقود في المشروع الذي يهدف إلى إخضاعها ! 2ـ الحديث المتواصل عن الإصلاح الأمريكي الجــديـد ، وخطوات الإستجابة له في كلّ بــلد ، وإلى أيّ مدى وصلت ، والتبشيــر بالمشروع الأمريكي الحالم ، الذي يرفع شعار الديمقراطية والحرية وحقوق الإنســان ، بينما يخفــــــــي ثلاثة أمور : أـ تجزئة وتفريق الامّة سياسيــّا ، وتخريب ثقافتها ، وأخلاقها . ب ـ تفريغ المنطقة من احتمال بــروز أي لاعب استراتيجي فيها غير الهيمنة الأمريكية ، حتى إنه يستعمل " لفظ الخوارج " ، لمن يفكّر بالخروج عن هذه الهيمنة إن كان في إطار الثقافة الإسلامية ، والدول المارقة ، التي خرجت عن المجتمع الدولي ، أو التيارات الراديكالية ، إن كان غير ذلك !! ج ـ "تسليــعْ" كل شيء فيها للأسواق الأمريكية. 3ـ التركيز على قضية المرأة العربية المظلومة المسكينة التي تعاني من اضطهاد الرجل العربي ، وامتدت إليها اليد الحانية الامريكية لتنقذها من بؤسها وشقاءها ! وبهذا يكتمل المستوى الثاني من الحالة " التنكية " !! الخطوة الثالثة : تهيئة الشعوب للحالة "التنكيّة" الكاملة ، وهنا يحصل شيء لايمكن تصديقه ، فيتم تخديــر العقول إلى أن تصدق بما يلي : 1ـ أنّ المحتل المغتصب الذي قتل من أمتنا الآلاف واغتصب وانتهك كل الحقوق ، ما هو إلا محسنٌ ومتفضل على الشعوب : إن أعطاها بعض القطع من أرضها ، ومكّنها من التصرف في بعض إدارة شئونها ، أو حرّر المرأة فيها ـ بينما هو يستعبد الدولة نفسها وتمتلأ سجون إحتلاله من أبناءهـا يسمومهم سوء العذاب جهرا لاســرّا !! ـ كما يحدث في فلسطين ، والعراق ، وأفغانستان على سبيل المثال . 2ـ أنّ الغازي المحتــلّ ، إنمــا هــو عاقل ، وحكيم ، وكبير في سموه ، وأخلاقه ، لأنّـه جــاء ليعلــّم الشعوب الإسلامية كيف تفهم القرآن فهما صحيحا ، وتنظر إلى الشريعة الإسلامية نظرة معتدلة وسطية ، بحيث ترى مشروع الإصلاح الأمريكي هو "المسيح المخلّص" ، وأما المقاومون فهم المفســدون في الأرض ، يجب استئصالهم ، أو إيداعهم السجـــــــون !! 3ـ أن الأنظمة العربيّة عندما تسير وراء المشروع الأمريكي ، إنما ـ منطلقة من حرصها الكبير والحنون على مصلحة شعوبها والذي طالما اتصفــت به ـ تريد أن تحقق الرفاه ، والحرية ، وترتقي بحال شعوبها إلى ما كانت تصبوا إليه دائما ، من حياة كريمة ، يجد فيه الفرد لقمة العيش الشريفة ، ويأمن على نفسه من قبضة الإستخبارات ، ووسائل التجسس ، وبطش البوليس السري ، وتكميم الأفواه ، وإغلاق العقول ، ولهذا فإن طاعة هذه الأنظمة وهي تسير وراء المشروع الأمريكي : هو مقتضى : الشرع ، والعقل ، والإتزان ، والحكـــمة ، والمصلحــة !! ونضرب هنا مثالا حيا على حالة " تنكية كاملة ونموذجية " : فعلى الفرد من الشعوب العربية أن يصدّق ، أن أمريكا لاتريد إخراج سوريا من لبنان من أجل حماية الصهاينة ، وطرد الفصائل الفلسطينية من دمشق في إطــار المؤامرة لتقويض الإنتفاضــة ، ولأجــل منع وجود أيّ لاعب خارج الهيمنة الأمريكية في المنطقة ، بل من أجل تحرير لبنان ، ومنع الإستبداد ، وعدم السماح بوجود جيش دولة في حدود دولة أخرى ، وعلى الفرد أن يصدق أيضا أن وجود الجيش الأمريكي في العراق ، مع المخابرات والموساد الصهيوني ، وما ترتب عليه من دماء وانتهاكات لايمكن إحصاؤهــا ، مع استعمال كل وسائل الإستبداد العسكري ، والاستخباراتي ، والسياسـي هناك ، والعبث بكل مقدرات العراق ، لايتناقض أبدا مع المطالب الأمريكية لسوريا ، لأنّ ما تفعله أمريكا يختلف دائما ، وحتى لو لم تـر ـ أيهــا الفـرد العــربي ـ الفــرق ، فاتهّم عقلك ولا تتّهم السياسـة الأمريكيّة !! وإذا انتهت هذه الخطــوة الثالثة والأخيرة من نظرية " التَنَك " يتحقق نجاح المشروع الأمريكي . ويتضح ذلك جليّا إذا تجوّل الأمريكي في بلادنا ، فنظر إلى الناس ، فـرآهم "علبا" من "تنك" تتحرك : تضربــها وسائل الاعلام التي هي اأبواق للمشروع الأمريكي فتردد الضرب بأعلى منها كالببغاء لكن بحماس أكبر ! ، ويشكلّهــا هذا المشروع كما يشاء أن يشكلّها ، ثـــمّ هـي ـ كالتنك ـ لاتستحق أن تتحمّــل إلا أتفـه القضايا ، وأخسّ الهمم ، فيعلم حينئذ أن هذه النظريّة قــد تم تطبيقها بأمـــــانة تامة في بلادنا العــربــيّة !