أرشيف المقالات

احذروا ... التكلس ... القاتل - خالد غريب

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .

إدارة الشعوب في الأزمات واحتواء الانفجار الجماهيري: 

نعم هناك آليات وأدوات للتوجيه الجماهيري في كل أحواله وحالاته المختلفة، فأصبحت تلك القضية علم بذاته يعلمه القليل من الخبراء والمتخصصين بل هو فعلًا علم معقد وكثير المتغيرات.
ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بمتغيرات الثقافة وتقلبات المجتمع وبالحالات المزاجية، فالآن السياسة ترتكز بشكل كبير على هذا القسم من العلوم الحديثة، ومنه تنطلق كافة العلوم المساندة الأخرى وعلى غير المفاهيم السائدة أن العلوم السياسية هي نظريات فلسفية قائمة بذاتها تعمل على إدارة شؤون الناس الحقيقي. 

بل إن المفهوم الجديد للسياسة تحول من إدارة شؤون الناس إلى إدارة الناس ذاتهم وترويض سلوكياتهم الجمعية، وصناعة مزاجهم الجمعي، وتفريغ حراكهم الجمعي والسيطرة عليه ثم إعادة التوجيه.

ساذكر في هذا المقال مثال واقعي لما أقوله وهي ما يسمى (التمسك بالشرعية)

فما حدث وبمراقبة التطورات منذ انقلاب 3 يوليو في مصر إلى الآن سنستقرئ ما قصدت تسليط الضوء عليه في تلك الكلمات السابقة.
فقبل 3 يوليو كانت النظرية السائدة والواقعة فعلًا وعليها وضعت كافة التحركات هي أن السياسة عبارة عن إدارة شؤون الناس.
أما بعد 3 يوليو تحولت السياسة بشكل ظاهر ومباشر من إدارة شؤونهم إلى إدارتهم هم أنفسهم

فبمزيد من التفصيل .....

قبل 3 يوليو اهتم القائمين على الحكم بشؤون الناس ظنًا منهم أن تحقيق الاستقرار للشعوب كفيل بضمان الهدوء ورفاهية العيش.
وبالتأكيد هذا كلام خاطئ أو بالأحرى كلام ناقص وينقصه الربط بين المتغيرات الثقافية والتقلبات الاجتماعية والبنية الإنسانية السائدة في أوساط هذه الشعوب ...

وفعلاً كان لابد من إدارة الشعوب ذاتهم الأول ثم إدارة شؤونهم أو بمعنى آخر إعداد أرضية مناسبة لتتقبل تلك الشعوب ولتفهم وتستقرئ واقعها مهما كلف الأمر حينها حتى ولو تأخر الاستقرار الحياتي قليلًا.

وهذا ما يفعله الانقلاب في مصر الآن ...بطريقته الخاصة، بل وتفعله الآن شتى حكومات ما بعد الثورات ...

وهو إدارة الناس كقطعان من الآدميين بشتى السبل مع إطلاق اليد في كل الوسائل المباحة والغير مباحة بل والتي تصل أحيانًا إلى الجرائم الجماعية. 

بالطبع أنا لا أوفق هذا ولكن فقط أسلط الضوء على الفلسفة وليس آليات تطبيقها، فبالتأكيد هناك من الوسائل المشروعة ما يمكنه أن يقوم بنفس الدور لولا أن القائمين على الانقلاب يفتقدون فعلًا لأي منهجية علمية في هذا الشأن مما دفعهم الى تطبيق النظرية الصحيحة بأساليب إجرامية. 

الشاهد هو أن الخطأ أظنه معروف الآن للجميع، لكن الذي هو لازال غير معروف ومذهل بالنسبة لي أنا! هو استمرار بعض الأخطاء الشبيهة من نواحي أخرى. 

التمسك بالشرعية؟؟

بالتأكيد هذا المصطلح مصطلح إيجابي وأنا أول ممن رفعه وتمسك به ولكن إلى حد معين وهذا الحد هو الضمانة من عدم الوقع في أحد أدوات إدارة الجموع البشرية وهو التكلس والسجن في الأطر والمصطلحات ....
والعمل على تقليم الأطراف وتفريغ المضامين.

أعطي مثالًا للتوضيح .....

إذا تمسك أحدهم وتعلق أعلى شجرة ما، لأنها ملكًا له هي وثمارها، وحاول شخص آخر إبعاده عن الشجرة ليسرق ثمارها فلم يستطيع هذا نظرًا للتمسك الشديد لصاحب تلك الشجرة بشجرته.

ثم تبادرت إلى اللص فكرة شيطانية بأن يتخلص من صاحب الشجرة نفسه مستفيدًا بتعلقه بأعلاها، فأحضر فأسًا وظلّ يضرب الشجرة من أسفل لتسقط ويقتل معها صاحبها وبالمرة تقترب إليه ثمارها بعد سقوطها.
لكن صاحب الشجرة ظل يلقي على اللص من أعلى بما تطاله يده، أكانت ثمارًا أو أفرع أو ما شابه.
إلا أنها لم تنل من اللص ولكنها قد تسبب له بعض الأضرار البسيطة جدًا، الذي لازال يضرب بقوة أسفل الشجرة لاسقاطها وقتل صاحبها.

هنا أصبح التمسك بالشرعية يعني استمرار صاحب الشجرة في محاولاته بقذف اللص ببعض الثمار (طبعًا بتاعة صاحب الشجرة) مع استمرار اللص الذي يحمل الفأس في قطع أسفل الشجرة.

وهنا ينقلنا المشهد إلى ما يسمى بظاهرة التكلس السياسي!!

وهو الاكتفاء بنظريات معينة قد تكون حققت نجاحات ما ...
في زمن ما ...
في ظروف ما ...
في مكان ما ...

مثلًا كما حدث في الهند وفلسفة غاندي الذي تمسك بالشجرة وظل يحدف اللص بالورود والزهور وأوراق شجر الشاي الهندي، حتى رحل اللص وطبعًا كان رحيل اللص لأسباب أخرى تمامًا غير التي نسبت لغاندي الزعيم، وبالطبع ظاهرة التكلس السياسي تلك يتسبب فيها عدة عوامل هامة للغاية ولابد من تسليط الضوء عليها وهي:

1- بطئ استقراء المتغيرات وفقر في سرعة تدفق المعلومات وترتيبها وتحليلها.

2- اجتزاء الرؤية في بقعة صغيرة من المؤثرات كما ذكرنا في أكثر من تحليل، أي على المستوى المحلي وإبعادها عن السياق الإقليمي والدولي بل والتاريخي الحضاري.

3- بصراحة مطلقة ظهور قادة من المنتفعين من استمرار حالة التكلس وبناء مجال عمل وظيفي لهم تحت أو في ظل التكلس السياسي، ومن الممكن أن يكونوا في البداية مخلصين لقضيتهم لكن دفعوا إلى أماكن أصبحت أشبه إلى الوظيفة عنها من الرسالة الاخلاقية. 

4- اعتقال بعض الكوادر المعروف عنها سرعة التغيير التكتيكي والمرونة الميدانية السياسية وترك كوادر يعرف عنها الميل الى نظرية (عدم المخاطرة – واللي نعرفه أحسن من اللي منعرفوش).

5- إحداث زخم كبير وإشاعة معلومات غزيرة متناقضة ومربكة تعيق استخراج الحقائق ومن ثم تأجيل اتخاذ القرارات.

6- الركون الى الثقافات المعاصرة بمصطلحاتها الممنهجة وذات المداليل الفلسفية التي توجد مفاتيحها في الغرب المتورط دائمًا ضد رغبات شعوب المنطقة. 

7- اعتياد الألم وإيجاد مبرراته وتمريره بأشكال مختلفة وحتى إقناع الناس بألفة الموت والقتل وتوظيف المعاني الدينية التي تمتص ردود الأفعال حتى يصل الأمر إلى التأقلم الطبيعي مع أبشع الجرائم (حدث في فلسطين ).

8- عملية البسترة الفكرية وهي التسخين المفاجئ ثم التبريد المفاجئ: بمعنى تجديد الآمال كلما خفتت وبدء البحث عن طرق أخرى فيحدث حينها تسخين سريع ومفاجئ كما حدث في أحد الجمعات القريبة لتجديد الأمل وإعادة جمع الأطراف الشاردة إلى نفس النظرية المتكلس بها ولا أستبعد أن أعمال التسخين المفاجئ قد يقوم بها الخصوم أحيانًا ثم التبريد مرة أخرى وهكذا.

كل تلك العوامل وأكثر لا يسع المقال لشرحها يوضح أسباب ظاهرة التكلس السياسي الحركي، فما نعيشه الآن هو عين تلك الظاهرة.

فلازلنا متمسكين بالمركز بل أظن أن الخصوم أنفسهم يرغبون في استمرار هذا المركز مع قيامه بتقليم الأطراف حتى يصل هو إلى الوقت الذي يعزل منطقة المركز عن الأطراف تمامًا

ونفاجئ نحن أن ما لا يزال في أيدينا مجرد قطعة صغيرة جدًا من المركز تسمى باسم المشهد كله فقط (وهو التمسك بالشرعية).

وأخيرًا وحتى لا أطيل:

احذر احذر احذر من تلك الآلية المتبعة الآن وهي (ظاهرة التكلس)

وكنت ولازلت وسأظل أطالب بالتغير في الاستراتيجية من جذورها، وليس التكتيك والتغيير العميق هذا إذا كان لازال هناك من هو لم يصب بذلك المرض العضال وهو: التكلس.

والله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين.

 

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢