القيم العليا؛ لماذا؟
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
لقد بيّنا في مقالاتٍ سابقة، مفهوم القيم، وكيف يتشرّب الإنسان قيمه، من وسائل متعددة تحيط به منذ نعومة أظافره، ونحن الآن في حاجةٍ إلى أن نتعرف على أهمية القيم العليا، سواءً على مستوى الفرد أو المجتمع ككل، حتى يُقدِم المربون على غرس القيم وهم واعون تماماً لأهمية القيم وخطورتها في حياة الطفل، ولنبدأ ببان الدور الخطير الذي تلعبه القيم على مستوى الفرد والمجتمع:
أولًا: على مستوى الأفراد:
تلعب القيم دوراً هاماً في تشكيل الشخصية الفردية، وتحديد أهدافها في إطار معياري صحيح.
يمكن التنبؤ بسلوك الفرد إذا عُرف ما لديه من قيم وأخلاقيات في المواقف المختلفة؛ وبالتالي يكون التعامل معه في ضوء التنبؤ بسلوكه.
تعمل على إصلاح الفرد نفسيّاً وخُلقيّاً، وضبط شهواته ومطامعه؛ كي لا تتغلب على عمله، وتوجهه نحو الخير والإحسان والواجب.
تعطي الفرد إمكانية أداء ما هو مطلوب منه، وتمنحه القدرة على التكيف والتوافق الإيجابيين وتحقيق الرضا عن نفسه.
تحقق للفرد الإحساس بالأمان، فهو يستعين بالقيم على مواجهة ضعف نفسه والتحديات التي تصادفه في حياته (القيم الإسلامية والتربية، علي خليل أبو العينين، ص: [35]).
تعطي للفرد الفرصة للتعبير عن نفسه، وتدفعه لتحسين إدراكه ومعتقداته لتتضح الرؤيا أمامه؛ وبالتالي تساعده على فهم العالم من حوله.
تدفع الفرد إلى العمل وتوجه نشاطه، وتعمل على حفظ نشاطات الأفراد وبقائها موحدة ومتناسقة، وصيانتها من التناقض والاضطراب (إدراك طالبات الصف الثالث الثانوي بالمدينة المنورة للقيم الإسلامية في المواقف الاجتماعية، نجاة أحمد رضوان، ص: [31]).
"والقيم لها دور كبير في مجال العلاج النفسي، وإصلاح نتائج التربية الأولى التي مرَّ بها أي إنسان؛ لهذا فإن أي عملية تهدف إلى تعديل السلوك ينبغي أن تضع في الاعتبار جميع جوانب الشخصية بما في ذلك القيم؛ وذلك لما لها من أهمية في مجال التوافق النفسي والاجتماعي، هذا إلى جانب الدور الذي تلعبه القيم في عملية العلاج النفسي، فالصراع بين قيم الفرد قد يترتب عليه حدوث اضطراب سلوكي" (القيم السائدة والقيم المرغوبة في سلوك الشباب ...
بحث ميداني في البيئتين المصرية والسعودية المؤتمر الأول لعلم النفس ، زهران حامد عبد السلام وسري إجلال محمد، ص: [73-113]).
القيم هي مركز الإنسان كما قرّر علماء النفس، وكلٌّ منا له قيمه الخاصة، التي تسير حياته وتنطبع سلوكياته بها، فإذا استطاعت التربية القيمية أن تحل مكان القيم الخبيثة قيمًا عليا؛ سيتغير الفرد بصورة قوية، وسيتجاوز محنه ومشكلاته، وستجده إنسانًا منتجًا فاعلًا في حياته، "فمعرفتنا بنسق قيم الأفراد في المراحل العمرية المبكرة، وكيف ترتقِ هذه القيم، والأبعاد التي تنتظم من خلالها؛ يمكِّننا من توجيه طموحاتهم، وتنمية قيمهم نحو المزيد من الفاعلية والإيجابية" (مستفاد من: كيف تغرس القيم في طفلك؟ د.
محمد صديق، بتصرُّف).
ثانيًا: على مستوى المجتمع:
أما على مستوى المجتمع فالقيم تلعب دورًا خطيرًا، حيث أنها:
1- تحفظ على المجتمع تماسكه، فتحدد له أهدافه ومثله العليا ومبادئه المستقرة.
2- تربط أجزاء ثقافة المجتمع بعضها ببعض؛ حتى تبدو متناسقة، وتعطيها أساسًا علميًّا يستقر في أذهان أفراده.
3- تقي المجتمع من الأنانية المفرطة، والنزوات والشهوات الطائشة، حيث أنها تحمل الأفراد على التفكير في أعمالهم على أنها وسائل للوصول إلى غايات سامية، وليست مجرد أعمال لإشباع الرغبات والشهوات (الأصول الفلسفية للتربية؛ قراءات ودراسات، علي خليل أبو العينين وآخرون).
4- تساعد المجتمع على مواجهة التغيرات التي تحدث فيه، بتحديدها الاختيارات الصحيحة التي تسهل على الناس حمايتها، وتحفظ للمجتمع استقراره وكيانه في إطار موحد (التربية وقضايا المجتمع المعاصر، قباس عجرم وحافظ فرج أحمد).
نماذج من القرآن:
ولنأخذ مثالًا من كتاب الله تعالى على قيمة من القيم، التي غرسها القرآن في نفوس الصحابة الكرام، فتربوا عليها وصاغوا أنفسهم من خلالها، إنها قيمة الإنفاق في سبيل الله، والتي تخالف فطرة الإنسان في حب المال، وكيف تؤثِّر تلك القيمة في نفس الفرد والمجتمع على حدٍ سواء؟
قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177].
يقول سيد قطب متحدثًا عن تلك الآية العظيمة: "وما قيمة إيتاء المال -على حبه والاعتزاز به- لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب؟ إن قيمته هي الانعتاق من ربقة الحرص والشح والضعف والأثرة، انعتاق الروح من حب المال الذي يقبض الأيدي عن الإنفاق، ويقبض النفوس عن الأريحية، ويقبض الأرواح عن الانطلاق.
فهي قيمة روحية يشير إليها ذلك النص على حب المال، وقيمة شعورية أن يبسط الإنسان يده وروحه فيما يحب من مال، لا في الرخيص منه ولا الخبيث؛ فيتحرر من عبودية المال، هذه العبودية التي تستذل النفوس، وتنكس الرءوس، ويتحرر من الحرص، والحرص يذل أعناق الرجال.
وهي قيمة إنسانية كبرى في حساب الإسلام، الذي يحاول دائمًا تحرير الإنسان من وساوس نفسه وحرصها وضعفها، قبل أن يحاول تحريره من الخارج في محيط الجماعة وارتباطاتها، يقينًا منه بأن عبيد أنفسهم هم عبيد الناس؛ وأن أحرار النفوس من الشهوات هم أحرار الرءوس في المجتمعات!
ثم إنها بعد ذلك كله قيمة إنسانية في محيط الجماعة.
هذه الصلة لذوي القربى فيها تحقيق لمروءة النفس، وكرامة الأسرة، ووشائج القربى، والأسرة هي النواة الأولى للجماعة؛ ومن ثَم هذه العناية بها وهذا التقديم.
وهي لليتامى تكافل بين الكبار والصغار في الجماعة، وبين الأقوياء فيها والضعفاء، وتعويض لهؤلاء الصغار عن فقدان الحماية والرعاية الأبويتين؛ وحماية للأمة من تشرد صغارها، وتعرضهم للفساد، وللنقمة على المجتمع الذي لم يقدم لهم برًّا ولا رعاية" (في ظلال القرآن، سيد قطب، [1/131]).
النبي وغرس القيم:
ولنختم سويًّا بذلك النموذج البرَّاق من حياة خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف استطاع بالتربية القيمية أن يغير من مجتمع الصحابة، ليزيل من نفوسهم بعض ما علق بها أدران الشهوات؟
(لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء؛ وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم -أي شعروا بالضيق- حتى كثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه.
فدخل عليه سعد بن عبادة رضي الله عنه، فقال: "يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار وجدوا عليك في أنفسهم؛ لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسَّمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء".
قال: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟»
قال: "يا رسول الله، ما أنا إلا امرؤ من قومي، وما أنا من ذلك".
قال: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة».
قال: "فجاء رجل من المهاجرين فتركهم، وجاء آخرون فردَّهم، فلما اجتمعوا أتاه سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار".
قال: "فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل، ثم قال: «يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم؟ ووجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألَّف بين قلوبكم؟»
قالوا: "بل الله ورسوله أمنُّ وأفضل".
قال: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟»
قالوا: "وبماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المنُّ والفضل؟"
قال: «أما والله لو شئتم لقلتم؛ فلصَدَقتم ولصُدِّقتم، أتيتنا مُكَذَّبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فآسيناك، أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا ؟ تألفتُ قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم.
ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده، إنه لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا؛ لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار».
قال: "فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم"، وقالوا: "رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسمًا وحظًّا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا" (رواه أحمد وصححه الألباني ).
فتأمّل كيف لمس النبي صلى الله عليه وسلم قيمة أكبر من قيمة المال عند الأنصار؟ وهي قيمة حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت هذه القيمة هي القادرة على تجاوز ما ألمَّ بهم من تعلق بمتاع الدنيا الزائل" (كيف تغرس القيم في طفلك؛ د.
محمد صديق).
عمر السبع