قصة ماريا الحرة
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
من ربوع الشام الناضرة، وعبق ياسمين دمشق العطرة، وحارات حي الميدان المؤنسة، تطل علينا وردة جميلة، تفوح بطيبها ونسيمها المنعش، تسرد قصتها بعفوية وبساطة، ونعومة وألم.. فلنستمع لما قالت..
أنا ماريا من أجمل بلد في الدنيا "سورية"، عمري ثلاث عشرة سنة، من مدينة دمشق الجميلة، أسكن في حي الميدان المشهور، أحب بلادي وأعشق هواها، أتغنى بربوعها وسماها، حماها ربي ورعاها، وسلّم أهلها وحيّاها.
أحب المدرسة كثيراً، فأنا متفوقة في دراستي، ومعلماتي وصديقاتي يحبونني جميعاً، أحلُم دائماً بأن أكون طبيبة أطفال ، ولكن لا أعرف كيف؟! فالحروب في بلدي سدت طريقي، فقد مضت سنتان وأنا في البيت دون دراسة، فأنا حزينة جداً لذلك، فالدمعة لا تغادر عيني عندما أرى التلاميذ في التلفاز يذهبون إلى مدارسهم في البلدان المجاورة، فالمدارس في بلدي الحبيب لم تعد مدارس تنتج العلماء وتصنع الأدباء وتُخرّج الشعراء، فأكثر طلابها لاجئون وهاربون من الموت وشهداء.
وبعضها تحول إلى مأوى لمن خسروا بيوتهم في دمشق وريفها حيث قصفت منازلهم الطائرات، وبعضها الآخر تحوّل إلى ثكنات للجيش ولأشخاص ينادونهم "الشبّيحة" عذراً منكم لا أعرف معنى هذه الكلمة، ولكنهم كالوحوش رأيتهم كثيراً وهم يصرخون على الرجال والشيوخ والنساء، ومرة ضربوا طفلاً لأنه كان ينظر إليهم بكُره، فاتخذوا من مدارسنا الحبيبة، قواعد للصواريخ، ومبيتاً للجنود ومستودعات للأسلحة، بل وأكثر من ذلك، سجوناً ومعتقلات لشباب حيّنا الأبرياء.
أطلب العفو منكم، لعلكم تخافون من كلامي عن الأسلحة فو الله ما كنت أعرف أسماءها أبداً ولكن الآن صرنا نعرف كل شيء، ونحن لا نحبها ونكره كل هذه الأسلحة القاتلة.. وأحمد الله على كل حال، وأَملي بربي أن تعود بلدي أفضل مما كانت عليه.
أما والدي فهو أبٌ عظيم وكريم وقوي، يعمل نجّاراً، يصنع الأبواب والنوافذ والخزائن والأَسِرّة ومقاعد الدراسة للطلاب، ولكن من سنة أو أكثر لم يعد يصنع السرير للعروس، ولا الخزانة لمن أراد الزواج ، فلم تعد عندنا أفراح وأعراس، فلا يفكر شبابنا وفتياتنا بفرحة وبهجة العرس، لانتشار الخوف بيننا، والشتات والتشرد بين الأهالي وذويهم، فقد أصابنا ما أهمنا، وشغلتنا أحزاننا ومصائبنا وآلامنا عن الفرح والسرور والابتهاج، كم أشتاق أن أغني وأرقص وألعب في الأعراس مع صديقاتي، وآكل الحلوى اللذيذة والمثلجات في حفلات العرس! فرّج الله عنّا وعن جميع المسلمين.
وأصبح والدي يمضي يومه في إصلاح الأبواب التي حطمها رجال الأمن (على فكرة، لقد قال لنا أستاذنا في المدرسة: أن كلمة الأمن تعني السكينة والآمان والاستقرار، ورجال الأمن هم من ينشرون الهدوء والطمأنينة في البلاد، ولكن ما أراه من هؤلاء الرجال هو الرعب والخوف، حتى أنهم لا يضحكون، ويتكلمون بصوت عال ويصرخون على كل أصدقائي، ويحملون السلاح المخيف، وينظرون إلى كأنهم يريدون أكلي، فهل هؤلاء رجال الأمن؟ أم أن الأستاذ كان يكذب علينا؟!) الذين يداهمون البيوت بحثاً عن مال يسرقونه، وأغراض ينهبونها، وشباب يعتقلونهم ويعذبونهم أو يقتلونهم.
وكثيرة هي الأيام التي لا يخرج أبي فيها للعمل، خوفاً من الحواجز اللعينة في حيّنا التي تعتقل المدنيين الآمنين الذين لا علاقة لهم بالحرب.
أحب أسرتي كثيراً فوالدي يحبني ويعاملني على أنني صغيرة، ويُدللني دائماً، وهذا الأمر يعجبني، فأشعر بالقرب منه عند مداعبته لي واهتمامه بي وخوفه علي.
أما أمي فهي أم عظيمة رحيمة، هي قدوتي في الحياة، تقوم برعايتي وتربيتي، وتعليمي وتهذيبي، فتختار لي الأفضل في كل شيء، من الأفكار السليمة، والألفاظ الصحيحة، والأخلاق الحسنة، والمعاملة الطيبة، فترشدني للأنفع دائماً في كل شيء، وطريقتها بالتربية سهلة ممتعة، وكلامها لطيف رائع، يرافقه ابتسامة جميلة، وكثيراً ما تتبعه بقُبلة وضَمّة لصدرها الدافئ برفق وحنان، اللهم احفظها ورضِّها عنّي وارزقني برّها وبرّ والدي الحبيب.
أما فراس..
أخي الكبير، يَكبروني سنتين تقريباً، هو في الصف التاسع في نهاية المرحلة الإعدادية الشرعيّة، يدرس في مجمع الشيخ بدر الدين الحسني ويبيت فيه، مجتهد في دراسته، يحافظ على دروس القرآن الكريم في المسجد، مُطيع لوالديه بارّ بهما، وهو رفيق والدي أين ما ذَهَب يأخذه معه ويفتخر به.
وهو أخ طيب ومهذب قليل الكلام، يُحبني كثيراً ويهتم بي، في كل عطلة يأتيني بهدية جديدة إما حلوى أو لباس أو لعبة أو قصة أستأنس بها، فأقوم بشكره وأقبله من جبينه، وأفرح عندما أراه قادماً وأنتظره إذا تأخر...
رعاه الله وحماه ووفقه لما يحب ويرضى.
وأما معاوية فهو أخي الأصغر، بيني وبينه ثلاث سنوات، ولد مشاغب في البيت، هو أصل الحركة والفوضى في المنزل، كلامه كثير ومُملّ في أغلب الأحيان، ومُتعب بالنسبة لي.
ومع ذلك ذكي ونشيط، تعجبني فيه محافظته على الصلوات كاملة، فهو يوقظنا في كثير من الأحيان على صلاة الفجر ، حتى أنه أيقظنا مرة وقال لوالدي: أذن الفجر ولم ينتبه والدي للساعة، وصلينا فإذا بالفجر يؤذن ونحن نذكر أذكار الصباح، فضحكنا جميعاً وأعدنا الصلاة ثانية.
أستاذه في المسجد يقول له دائماً: يا معاوية لك مستقبل طيب وزاهر بإذن الله يا بني.
أعجب من صبر أبويَّ عليه!! وأدعو الله دائماً له الهداية والمثابرة في نشاطه وهمته.
جرت معي قصة
بينما نتناول الطعام مع الأهل في البيت، قلت لوالدي: يا والدي إن جيراننا لا يوجد طعام عندهم من ثلاثة أيام، فرجال الأمن اعتقلوا جارنا أبا سعيد، وفرّ ولداه من البيت، فأحدهما يقاتل مع الأبطال في الغوطة، والثاني مُلاحَق ومطلوب لدى عناصر الشبيحة، ولا يثبت بمكان خوفاً من الاعتقال، وجارتنا أم سعيد وحدها مع ولديها الصغيرين، ولا معين لهم إلا الله، وأظنهم بحاجة للطعام والشراب وكثير من الأشياء..
فإذا بوالدي تقطر عيناه بالدمع ويقول منفعلاً: لماذالم تخبروني إلى الآن؟
هل يجوز هذا؟ نحن نأكل ونشرب وجيراننا يموتون من الجوع..
قالت أمي: يا أبا فراس والله حسبت أنك على علم بقصتهم فلم أخبرك سامحني يا زوجي..
فقال والدي: وهل يسامحنا الله عز وجل؟ ألم تسمعوا قول رسول الله صلي الله عليه وسلم: «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به»؟! (السلسلة الصحيحة: 1/279)
وقام ولم يكمل طعامه، وأخذ يجمع ما تبقى عندنا من الأرز والسكر والعدس والبرغل والسمن (مع أن حالنا ليس بأفضل حال منهم) وأمي تساعده وهما يستغفران الله على هذا الإهمال.
واصطحبت والدي إلى بيت جارنا وهو يحمل على ظهره أكياس المؤونة، فاستقبلتنا جارتنا بلهفة تقول: جزاكم الله خيراً جزاكم الله خيراً، فنعم الجوار أنتم! انظر يا أخي أبا فراس والله لقد جاء جارنا أبو أحمد وأعطاني هذا الصندوق من المواد الغذائية، وجاء جارنا أبو يحيى أعطاني مبلغاً من المال، وجاءت جارتنا خديجة "الأرملة" التي استشهد زوجها الشهر الماضي وأعطتني هذا الكيس من الطعام، أشكركم جميعاً على ما بذلّتم وقدمتم، أخلف الله عليكم وعوضه لكم أضعافاً مضاعفة، وسلامي لأختي أم فراس والأولاد.
وعدنا إلى البيت والفرحة والسرور تملأ قلوبنا بما قدمنا من طاعة، فهي قربة لله عز وجل وتوسعة وفرجة لعباده.
وكانت المفاجأة عند عودتنا للمنزل..
فاستقبلته أمي قائلة: يا أبا فراس لقد جمعنا كلَ ما عندنا من الطعام والمؤونة وأرسلناه لجارتنا أم سعيد، ونسينا أنفسنا من الادخار فلا يوجد عندنا ما نسدّ به حاجتنا ليوم غدٍ، فإذا بنا نضحك جميعاً ولا نعلم لماذا نضحك فقالت والدتي: مع كل ذلك، الحمد لله والشكر له..
كم أنا مسرورة بأن فرّجنا عن جارتنا في محنتها..
أقسمُ بأنّ الله سيعوضنا خيراً ولن يتركنا، وبتنا ليلتنا على قليل من الخبز واللبن مع الشاي والحمد لله.
وفي الصباح التالي استيقظنا على صوت الباب يطرق بقوة، خرج والدي وفتح الباب فإذا بعمتي عائشة ومعها سيارة شاحنة صغيرة وفيها الكثير من الأغراض والحقائب والأكياس، صاح والدي خيراً إن شاء الله..
ما بك يا عائشة؟ قالت (وهي تبكي): سنسافر الآن إلى لبنان يا أخي، فجيش الظالم دخل البلدة وهو يداهم البيوت، ويسرق كل شيء، فحطّم وكسّر كل ما كان في طريقه، وقد أحرق عدة بيوت في أول البلدة، ويُحَمِّل ما سرقه من الأهالي بسيارات الجيش الكبيرة الخضراء، أما نحن فقد حملنا ما نستطيع حمله من الحقائب والأغراض الخفيفة، ونجونا بأرواحنا، وهذه الأكياس فيها مؤونة وطعام كثير هو لكم، أنتم أولى به من غيركم، تصرفوا فيه كما شئتم، وعذراً يا أخي لا أريد التأخر فزوجي ينتظرني ادع لي..
السلام عليكم جميعاً سنبقى على تواصل بإذن الله، وسلمتْ علينا وذهبت بسرعة وهي تبتعد عنا وتمسح دموعها بكمها وتنظر إلينا بحرقة حتى اختفت، والجميع يبكي لفراقها ولحال أهلنا من المأساة والآلام، فهي ليست الوحيدة التي شُردتْ وتَركتْ بيتها وسُرقت أغراضها، بل هناك آلاف ذاقوا مثلما ذاقت عمتي بل أمرَّ من ذلك، فرج الله عنا جميعاً ويسّر الله دربكِ يا عمّتي.
وبعد بضع دقائق أخذنا نتأمل بحزن واستغراب وجوه بعضنا، والأكياس التي تركتها عمتي وقصتنا البارحة مع جارتنا، وكلمة أمي أن الله سيعوضنا خيراً، ثم خرجت ابتسامة طفيفة من بين ركام الأحزان، فقال والدي: صدقت يا أم فراس فالله عوضنا أضعافاً كثيرة مما بذلناه البارحة والحمد لله على نجاة أختي وعائلتها.
نعم..
هذه قصتي وهذه أيامنا التي نعيشها، فحالنا لا يختلف عن حال جيراننا وأهلينا، فكل فرد من أبناء سوريا عنده قصة بل قصص مأساوية تُسطّر بالدم والدمع.
وفي الختام أرجو الله أن يفرج عن أهل بلدي، فتعود البسمة إلى وجوهنا، وتولد الحرية (التي مَنحنا ربُنا إياها فحرمنا منها طاغيتنا الظالم) من جديد بعد فراق خمسين سنة.
وأرجو أن أعود لمدرستي ومعلماتي وصديقاتي، وأن أعود للدراسة والكتاب والعلم، فلن يخيفني بعد ذلك صوت المدافع والقذائف والقنابل والرصاص، ولن تأرقني رؤية الجنود المجرمين وهم يعتقلون أبناء حيّي من رجال ونساء، ولن توقفني دموع الأمهات التي فقدت أولادها واليتامى والأرامل عن بلوغ هدفي.
وأخيراً يا من تقرأ قصتي وتعيش كلماتي فيبتهج قلبك أحياناَ، ويسودك التعجب أحياناً أخرى، ويمتلكك الحزن والأسى في كثير من مشاهدها، ويرقّ قلبك ويرتجف صوتك وتدمع عينك..
فهل علمت ما يجري ببلدي الحبيب سوريا؟
وهل أدركت حجم الكآبة والمأساة التي يعيشها أهل الشام المسلمون المسالمون؟
هل وصلت رسالتي لقلبك وفكرك ودينك؟
وهل مازلت في شك وتردد فيما يدور بساحتنا؟
سأترك هذه الأسئلة أمانة عندك تدور بخلدك، وتشغل فكرك، فلا تغيب أحداثها عن مخيلتك، وإياك أن تجعل هذه الأمانة في غيابت الكتب والورق، بل قمْ بعَيشِ واقعها، وفكّرْ بما تستطيع فعله "ولو كان قليلاً" وأجب عن تلك الأسئلة، وحاول الشعور بما يحسّ به الفرد المسلم في سوريا..
وقد سمعت من أستاذ مادة التربية الإسلامية يقول: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم «مثل المؤمن كمثل الجسد، إذا اشتكى الرجل رأسه تداعى له سائر جسده» (صحيح ابن حبان: 297) وقال: «مثل المؤمن كمثل الجسد إذا أَلِمَ بعضه تداعى لذلك كله» (مجموع الفتاوى : 28/208).. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
هل علمتم يا أخوتي أن سوريا بلد تبحث عن الحرية والعدالة والإنسانية والعيش الكريم؟
سأترك الإجابة لكم فلا تتأخروا بالرد فأنا بانتظاركم..
أحبتي لا تنسونا من صالح دعائكم ولكافة المسلمين أجمعين..
التوقيع: ماريا الحرة..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الكاتب: فراس السقال