int(192) array(0) { }

أرشيف المقالات

مكانة العلماء

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
مكانة العلماء
 
قَالَ ابن رجب: فالعلماء بما أنزل الله على رسوله هم الأدلاء والذين يُهتَدى بهم في ظلمات الجهل والشبهِ والضلالِ فإذا فُقدُوا ضَلَّ السالكُ.
 
وقد شُبِّهَ العلماءُ بالنجوم، والنجومُ فيها ثلاثٌ فوائد: يُهْتَدى بها في الظلمات، وهي زِينة للسماء، ورجومٌ للشياطين الذين يسترقون السمع منها.
 
والعلماءُ في الأرض يجتمع فيهم هِذِهِ الأَوْصافُ الثلاثةُ: بهم يُهْتَدى في الظلمات، وهُم زينةُ للأرض، وهم رجومٌ للشياطين الذين يخلطون الحق بالباطل ويُدْخِلونَ في الدين ما ليس منه مِن أهل الأهواء.
 
وما دام العلم باقيًا في الأرض فالناسُ في هُدَى.
وبقاءُ العلمِ بقاءُ حَمَلَتِهِ فإذا ذَهَبَ حَمَلتهُ ومَن يقوم به وقع الناسُ في الضلال كما في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صدور الرجال وَلَكِنْ يذهب الْعُلَمَاءِ فإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
 
شِعْرًا:






مَا أَكْثَرَ الْعِلْمِ وما أَوْسَعَهْ
مَنْ ذَا الذي يَقْدِرُ مِنْ الْخَلْقِ أَنْ يَجْمَعَهْ


إِنْ كُنْتَ لا بُدَّ لَهُ طَالِبَا
فَجِدَّ فِيهِ وَالتَمِسْ أَنْفَعَهْ






وخرج الترمذي مِنْ حَدِيث جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَال: «هَذَا أَوَانٌ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لاَ يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ».
 
فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ: يَا رَسُولَ اللهُ كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا الْعِلْم وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ؟ فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا.
 
فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِى عَنْهُمْ»؟.
 
قَالَ جُبَيْرٌ بِنْ نُفَيْرَ: فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَقُلْتُ أَلاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَبُو الدَّرْدَاءِ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ.
فقَالَ: صَدَقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَوْ شِئْتَ لأخَبَرْتُكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ: الْخُشُوعُ، يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْجَامع فَلاَ تَرَى فِيهِ خَاشِعًا.
وخرجه النسائي من حديث جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ عَوْفِ بنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بنحوه.
 
وفي حديثه (فذكر - صلى الله عليه وسلم - ضلالةَ اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب الله)، قَالَ جبيرُ بنُ نفيرُ: فلقيت شدادَ بن أوس فحدثتهُ بحديث عوفِ بن مالك فقَالَ: صَدَقَ، ألا أخبرك بأول ذلكَ؟ يُرْفَعُ الخشوعُ حتى لا تَرى خَاشِعًا.
 
وخرج الإمام أحمد من حديث زياد بنْ عن النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ ذَكَرَ شَيْئًا فَقَالَ: «ذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ».
فذكر الحديث وقَالَ فيه: «أَوَلَيْسَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَؤونَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ لَا يَعْمَلُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِمَا»؟ ولم يذكر ما بعدها.
 
ففي هذه الأحاديث أنِ ذَهَابَ الْعِلْمِ بذَهَابِ العمل وأن الصحابة فسروا ذلك بذَهَابِ الْعِلْمِ الباطن من القلوب وهو الخشوع.
كذا روي عن حذيفة: أن أول ما يرفع من العلم الخشوع.
 
فإن العِلْمَ كَمَا قَالَ الحسنُ عِلْمَان: عِلْمُ اللسانِ فذاك حَجُةُ اللهِ على ابن آدم، وعلْمُ في القلبِ فذَاك العِلْمُ النافِعُ.
وروي عن الحسن مرسلًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم.
 
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ وَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ».
 
فالعلمُ النافعُ هو ما بَاشرَ القلبَ فأوْقَرَ فيه معرفَة اللهِ وعظمته وخَشْيتهِ وإجلالَه وتَعْظِيمهُ ومحبته، ومتى سَكَنَتْ هذِه الأشياءُ في القلبَ خَشَعَ فَخَشَعَتَ الجوارُح تَبَعًا لَهُ.
وفي صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ».
 
وهذَا يَدُلُ على أن العلْمَ الذي لا يوِجِبُ الخشوعَ لِلْقَلْبِ فهو عِلْمٌ غَيْرُ نَافعٍ.
وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يَسْأَلُ الله علمًا نافعًا.
وفي حديث آخر: «سَلُوا الله علمًا نافعًا وتَعوذُوا باللهِ مِنْ علمٍ لا ينفع».
 
وأما العلمُ الذي على اللسان فهو حُجَّةُ اللهِ على ابنِ آدم كما قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «والقرآنُ حُجُّةٌ الله لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»، فإذا ذهبَ مِن الناسِ العلمُ الباطنُ بَقِيَ الظَّاهرُ على الألسنةِ حُجَّةً.
 
ثم يَذْهبُ الْعِلْمُ الذي هو حجةٌ بذَهَابِ حَملته ولا يَبْقَى مِن الدِّين إلا اسْمُهُ ولا مِن القرآن إلا رَسْمُهُ، فَيَبْقَى الْقرآنُ في المصاحفِ ثم يُسْرى به في آخر الزمان فلا يَبْقَى مِنْه في المصاحفِ ولا في القلوب شيء.
 
ومن هنا قَسَّم مَنْ قَسَّمَ مِن العلماء إلى باطنٍ وظاهر: فالباطن: ما باشَرَ القلوبَ فأثْمرَ لها الخشيةَ والخشوعَ والتعظيمَ والإِجلالَ والمحبةَ والأنْسَ والشوقَ.
والظاهرُ: ما كان على اللسانِ فَبِهِ تَقُومُ حُجَّةُ الله على ابن آدم.
 
وَكَتَبَ وَهْبُ بنُ مُنَبه إلى مكحول: إنكَ امرؤٌ قَدْ أصبْتَ بِما َظَهر مِن عِلْمِ الإِسْلام شَرفًا فَاطْلُبْ بِمَا بَطَنَ مِنْ عَلْمِ الإِسْلام مَحَبَّةً وَزُلْفىَ.
وفي رواية أنه كَتَبَ إليه: أنكَ قد بَلَغْتَ بظاهرِ عِلْمِكَ عِنْدَ النَّاس مَنْزلةً وَشَرفًا فَاطُلب بباطِنِ عِلمكَ عندَ الله منزلةً وزُلْفَى.
وَاعلم أَنَّ إِحْدَى الْمَنْزِلَتَيْنِ تَمنعُ مِن الأخُرْى.
 
فأشارَ وَهْبَ بِعلمِ الظاهرِ إلى علمِ الفَتَاوي والأَحْكَامِ، والحلالِ والحرام، والقصصِ والوعظِ وهو مَا يظهُر على اللسان، وهذا العلمُ يوجَبُ لِصَاحِبهِ مَحبة الناسِ لَهُ وَتَقَدُّمُه عندهم فَحَذَّرَهُ من الوقوفِ عندَ ذلكَ والركون إليهِ والالتفاتِ إلى تعظيمِ الناس ومحبتهم فإن مَن وَقَفَ مَعَ ذلك فقد انقطعَ عن الله وانْحَجَبَ بنظرهِ إلى الخلقِ عن الحق.
 
وأَشَاَر بعلمِ الباطنِ إلى العِلم الذي يُبَاشرُ الْقُلوبَ فيحدِثُ لها الخشيةَ والإجْلالَ والتعظيمَ، وأَمَرهُ أَن يَطْلُبِ بهذا المَحبةَ مِن الله والقربَ مِنهُ والزُلْفَى لَدَيه.
 
وكان كثيرٌ مِن السلفِ كَسُفْيَانِ الثوري وغيره يُقَسِّمُونَ العلماءَ ثلاثةَ أقسام: عالمٌ بالله وعالمٌ بأمرِ الله ويُشِيرُون بذلكَ إلى مَن جَمَعَ بَيْنَ هَذَين الْعَلْمَيْنِ الْمُشَارُ إليهما: الظاهر والباطنِ.
 
وهؤلاءُ أشرفُ العُلماء وهم المَمدُوحُونَ في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، وقَالَ: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ﴾ [الإسراء: 107] إلى قوله: ﴿ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾.
 
وقَالَ كثير من السلف: ليس العلم كثرةُ الرواية ولكن العلمُ الخشيةُ.
وقَالَ بعضهُم: كَفَى بِخَشَيةِ الله عِلْمًا وكفَى بالاغترار بالله جَهْلًا.
ويَقُولُون أيضًا: عالمٌ بالله ليس عالم بأمر الله وهُم أصْحَابُ العِلم الباطن الذين يَخْشَونَ الله ولَيْسَ لَهم اتِّساعٌ في العلم الظاهر.
 
ويَقُولَونَ: عالمٌ بَأمرِ الله ليسَ بِعَالِمٍ بالله، وهم أصحابُ العلم الظاهر الذينَ لا نَفَاذَ لهَمُ في العلمِ الباطنِ وليس لهم خَشْيَةٌ وَلا خُشُوعٌ، وهؤلاءِ مَذْمُومُونَ عِند السلفَ.
وكان بعضهُم يقول: هذا هو العلم الفَاجِرُ.
 
وهؤلاء الذينَ وَقَفُوا مَعَ ظاهرِ العِلمِ ولم يصل العلمُ النافعُ إلى قلوبهم ولا شَمُوا لَهُ رَائِحَتَهُ غَلَبَتْ عَلَيْهم الغفلةُ والقَسوةُ والأعراضُ عن الآخرة والتنافُسُ في الدنيا ومحبةُ العُلوِ فيها والتقدم بينَ أَهلها.
 
وقد مُنعوا إحْسَانَ الظن بِمَنْ وَصَلَ الْعِلمُ النَّافعُ إلى قلوبهم فلا يُحبونهم ولا يُجالِسونهم وربما ذَمُّوهُم وقَالَوا: ليسوا بعلماء، وهذا مِن خداع الشيطان وغرُورُه لِيَحْرِمَهم الوصولَ إلى العلم النافعِ الذي مدحه اللهُ ورسولهُ وسلفُ الأمة وأئمتها.
 
ولهذا كانَ علماءُ الدنيا يُبغضُون علماءَ الآخرة وَيَسْعَونَ في أذاهم جُهْدَهُم كما سَعَوا في أذَى سَعيدِ بن المسيب، والحسنِ، وسفيان الثوري، ومالك، وأحمد وغيرهم من العلماء الربانيين.
 
وذلك لأن علماءَ الآخرةِ خلفاءُ الرسل وعلماءَ السوءِ فيهم شبهٌ مِن اليهود وهم أعداءُ الرسلِ وقتلة الأنبياء ومَن يأمر بالقسطِ من الناس، وهم أشدُ الناس عَدَاوَةً وحسدًا للمؤمنين.
 
وَلِشِدَّةِ مَحبتهم للدنيا لا يُعظمُون علمًا ولا دِينًا وإنما يُعَظِمُونَ المالَ والجاهَ والتقدمَ عند الملوكَ.






إِذَا الْعِلْمُ لَمْ تَعَمَلْ به كان حُجَّةً
عَلَيْكَ وَلَمْ تُعْذَرْ بِمَا أَنْتَ حَامِلُ


فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَبْصَرْتَ هَذَا فَإِنَّمَا
يُصَدِّقُ قَوْلَ الْمَرْءِ مَا هُوَ فَاعِلُ






آخر:






قالوا فلانٌ عالمٌ فاضلٌ
فأكرمُوهُ مثلما يَرْتضي


فقلتَ لما لمْ يكنْ ذا تقىً
تَعَارَضَ المانعُ والمقتضي






اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ مَنَاهِج المتقِين وَخَصَّنَا بالتَّوفِيق المُبين واجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ مِنْ عِبَادِكَ المُخْلِصِين الذين لا خَوْفٌ عَلَيْهم ولا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

شارك المقال