قيام الليل في رمضان
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
قيام الليل في رمضانإن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونُثني عليه الخير كله، ونصلي ونسلم على خير البرية وأزكى البشرية وعلى آله وصحبه.
وبعد:
إن قيام الليل هو شرَف المؤمن؛ حيث تنزل أمين السماء جبريل على أمين الأرض محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا محمد، اعمَل ما شئت فإنك مجزيٌّ عليه، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعِزه استغناؤه عن الناس)؛ حسنه الألباني.
وقيام رمضان شرف على شرف، وذلك لشرف الزمان مع شرف العمل، وهو دأب الصالحين العابدين، فمُقل ومُستكثر، وحول صلاة القيام وعظيم أجرها، أهمس لك أخي الكريم بخمس عشرة همسة، لعلها تكون موقظة لي ولك إلى مزيد من الخير والحرص.
الهمسة الأولى: إن كان قيام الليل عمل فاضل وصالح في كل زمان، وهو في شهر رمضان أعظم أجرًا وأكثر تقربًا؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه)؛ رواه البخاري.
ففي الحديث عملٌ وشرطٌ ونتيجة، فالعمل هو قيام رمضان، والشرط هو (إيمانًا واحتسابًا)، بحيث يكون العمل خالصًا لله تعالى وموافقًا للشرع، والنتيجة مغفرة ما تقدم من الذنوب، فما أيسر العمل وأعظم الأجر لمن وفَّقه الله تعالى إليه.
الهمسة الثانية: إن شرعية قيام رمضان بدأت حين قام النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه بعض الليالي، ثم ترك ذلك إشفاقًا عليهم من أن تُفرض عليهم، ولما تُوفي النبي صلى الله عليه وسلم، أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُبَي بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما بالناس في شهر رمضان، فقيامه سنة مُتبعة.
الهمسة الثالثة: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام مع الإمام حتى ينصرف، كُتب له قيام ليلة)؛ رواه مسلم.
فهذا عمل يسير وثواب عظيم، فلربما ساعة ونحوُها تقومها مع الإمام حتى ينتهي من صلاته، يُكتب لك أجر الليل كله وكأنك راكع أو ساجد، فاحرِص ألا تنصرف من الصلاة حتى ينتهي الإمام؛ ليُكتب لك ذلك الفضل العظيم، وقد يُذكرك الشيطان لبعض شؤونك، فاصبر على صلاتك فهو خير كله، وسيتيسر أمرك بعد ذلك بإذن الله تبارك وتعالى.
الهمسة الرابعة: كن حريصًا على حضور القلب في صلاتك متدبرًا ما يقرؤه إمامك، وما يلفظه لسانك، فإن ذلك الحضور هو لُبُّ الصلاة وروحها، فجاهِد نفسك، فهو يحتاج إلى جهاد ومجاهدة.
الهمسة الخامسة: إن أمكن أن تقرأ تفسير ما سيقرؤه إمامك، فهذا خير عظيم؛ لتجمع بين العلم والعمل، ولو كانت القراءة مُجملة، وأيضًا في المختصرات؛ مثل كتاب: (زبدة التفسير) للشيخ الأشقر ونحوه، فهي طريقة جرَّبها الكثير وهي ناجحة ورائعة لمن جرَّبها، ولها أثر كبير على سلوك الإنسان، ويكون هذا برنامجًا له في رمضان، فيكون قرأ تفسير القرآن كله في شهر رمضان، فهذا مُخرَج جميل لهذا الشهر المبارك.
الهمسة السادسة: حال قراءة إمامك، اسأل عند آية الوعد، واستعِذ عند آية الوعيد عند سكتات الإمام، وكذلك حال قراءتك لنفسك داخل القيام أو خارجه، واجعل ذلك سجيةً لك، فما تعلم متى تكون الاستجابة.
الهمسة السابعة: خلال العشرين الأُوَل من الشهر، اجعل لك نصيبًا من آخر الليل تناجي به ربك وتسأله وتستغفره، فهي لحظات عظيمة تَطرَب النفس لذةً بها، كيف لا وهي تناجي خالقها وفاطرها ومن بيده الأمر كله، كيف لا وهذا العمل هو من سبب نجاتها بإذن الله تعالى.
فيا أخي الكريم، اجعل لك ولأسرتك من هذا نصيبًا ولو كان يسيرًا، فما أجمل أن يكون أهل البيت صغارًا وكبارًا في ذلك الوقت قيامًا وركوعًا وسجودًا داعين ومبتهلين، إن في هذا حياة القلوب وثباتها على دين الله تبارك وتعالى.
الهمسة الثامنة: سلْ نفسك: أين أنت من ثلث الليل الآخر، فإن الناس يتفاوتون في عزمهم واهتماماتهم، فقد يكون البعض مستثمرًا لهذا الوقت الفاضل الجليل بأعمال تُقربه إلى الله تعالى من صلاة ودعاء واستغفار، ونحو ذلك؛ لأن هذا الوقت هو لهذه الأعمال الصالحة، مؤجلًا الأعمال الأخرى لوقتها الذي هو لها، في نهاره أو في أول الليل ونحو ذلك، وقد يكون البعض ضيَّع تلك اللحظات الجوهرية الذهبية الغالية بأحاديث جانبية أو تصفُّحٍ لوسائل تواصل، وما أشبه ذلك، علمًا بأنه يستطيع تأجيل ذلك إلى وقت مفضول، لكنه لم يُوفق كما وُفق الأول، فمن أي الفريقين أنت؟ إنك في ثلث الليل الآخر تُنادى: هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ فأين الصنف الثاني من هذه النداءات، ولكنه التوفيق والحرمان، أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياك من الموفقين.
الهمسة التاسعة: احذر أن تقيدك خطاياك عن قيام الليل، فإن الذنوب قيود لصاحبها، فالانشغال قيد، والتسويف قيد، والتساهل قيد، وضَعفُ العزيمة قيد، وهكذا تتابع القيود على بعض الناس فلا يبرح أن قام الناس وهو لم يقُم، فاحذر تلك القيود واطلب ما يطلبه الحريصون، فالجميع بحاجة ماسة وضرورة.
الهمسة العاشرة: إن اللذة التي يجدها القائم بين يدي الله تعالى - خصوصًا في ثلث الليل الآخر - هي لذة عظيمة لا يُعادلها لذة من ملذات الدنيا، كيف لا وهي لقاء برب العالمين؟ كيف لا وهي مناجاة ودعاء من بيده مقاليد الأمور؟
حقًّا إنها لذة تصغُر وتتحطم عندها جميع الملذات، يعرف مَن تذوَّقها ذلك، فلنكن نحن جميعًا كذلك!
الهمسة الحادية عشرة: كيف كانت بيوت السلف في رمضان وغيره في ليلها ونهارها؟ إنه يُسمع لهم آثارٌ في التلاوة والعبادة، ويظهر ذلك على سلوكهم وأخلاقهم وورعهم وزهدهم ووجوههم؛ حيث إنهم تواصوا على ذلك، وما زالت بيوتٌ في زماننا ولله الحمد شبيهةً بذلك؛ حيث نزل عليهم توفيق الله تبارك وتعالى، ورزَقهم من حيث لم يحتسبوا، فابذل الأسباب في اللحاق بهم، فإن المجال مُتاح والأسباب قد تتهيَّأ إذا صدق الإنسان في عزيمته، فإن الله تعالى يُعينه ويُسدده!
الهمسة الثانية عشرة: على الوالدين الكريمين تشجيع الأولاد جميعًا على القيام وتحفيزهم ببيان الأجور لهم، وصُحبتهم إلى المساجد، وتربيتهم على صلاة النافلة في البيت، فإن هذا خيرٌ عظيم لهم جميعًا، مع الدعاء لهم بذلك، ومع الأحاديث الثنائية معهم حِيال القيام، فإنهم بذلك ينشؤون نشأة صالحة تكون سياجًا لهم عن كثير من الشرور!
الهمسة الثالثة عشرة: حاول واعزم أنك بعد رمضان ستستمر على شيء من قيام الليل، سواء في أوله أو وسطه أو آخره، فاجعل شهر رمضان انطلاقةً لك، فإن عمل الحسنة بعد الحسنة من علامات القبول؛ قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى ﴾ [محمد: 17]، وحيث إنك صليتَ إحدى عشرة ركعة طوال الشهر، وزدتَ ما كتب الله لك في العشر الأخيرة، فهذه توجد عندك العزيمة على الاستمرار في شيء من قيام الليل، فهو دأب الصالحين، وأرجو أن نكون جميعًا منهم.
الهمسة الرابعة عشرة: هل تعلم ماذا تفعل عشر دقائق قبل الفجر؟ إن فيها خيرًا كثيرًا، فيها الدعاء في ساعة الإجابة، وفيها ركعتان في ظُلمة الليل، وفيها الاستغفار، فتكون من المستغفرين بالأسحار، وغيرها كثير، وأحب العمل إلى الله تعالى أدومه وإن قلَّ، ولعل هذا القليل يكثُر مع مزاولته، فإن الحسنة تَجُر الحسنة الأخرى!
الهمسة الخامسة عشرة: يُشرع في صلاة الليل الجهر في القراءة ما لم يؤذِ أحدًا، ويكون جهرُه منشطًا له وطاردًا للسآمة والملل والمشقة، وداعيًا للتدبر والتأمل، وله أن يُراوح بين الجهر والإسرار حسب ما يكون مُلائمًا لقلبه.
وأخيرًا: إن قيام الليل من الأعمال الصالحة التي تحتاج إلى دُربة، ولكنه يسهُل مع التدريج والعمل، فحاول اللحاق بركب الصالحين، فهم ينادونك بقولهم: اركب معنا، فإن قيام الليل من دأبهم، فكن أحدهم.
وفَّقنا الله إلى كل خيرٍ، وزادنا جميعًا من فضله ورحمته، وإلى حلقة أخرى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.