أرشيف المقالات

يا رب آمنت، يا رب أسلمت!

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
يا ربِّ آمنت، يا ربِّ أسلمت!

ليس من العقل أن يتضح للسائر طريق النجاة وهو يعرض عنه إلى غيره، ويُدعى إليه ويرغَّب في سلوكه فيعصى داعيه؛ كبراً وغروراً، أو حسداً وحقداً.
فالاستمرار على طريق الهلكة حمقٌ يؤدي إلى نهايات الندامة التي قد لا تنفع صاحبها بعد فوات الأوان.
ويتوجه الذم الشديد أكثر إلى من يعرف استقامة ذلك الطريق الذي يُدعى إليه، ويدري عقوبة العدول عنه، فليس ذم العالم بالشيء كذم الجاهل به.
 
لقد كان أهل الكتاب ينتظرون مبعث نبي آخر الزمان حتى يتبعوه وينصروه، ولكن لما خرجت النبوة عن بني إسرائيل وبُعث نبي آخر الزمان من العرب شرقوا بذلك، فعادوه وحسدوه وعاندوه وحاربوه، ولم يتبعه إلا القليل في حياته عليه الصلاة والسلام، مع أنهم لما رأوه بصفاته عرفوا أنه النبي المنتظر الذي بشرت به كتبهم، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146].
فمن أهل الكتاب من أسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما رآه فعرفه؛ كعبد الله بن سلام، ومنهم من تأخر إسلامه فلم يسلم إلا بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام؛ ككعب الأحبار.
 
فمن هو كعب الأحبار، وما قصة إسلامه، وما هي الآية التي سمعها فأثرت عليه حتى كانت سببًا من أسباب إسلامه؟
كعب الأحبار هو: كعب بن ماتع الحميري اليماني أبو إسحاق، من آل ذي رعين أو من ذي الكلاع، العلامة الحبر، الذي كان يهوديًا فأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر رضي الله عنه، وكان حسن الإسلام، متين الديانة، من نبلاء العلماء.
وكان خبيراً بكتب اليهود، له ذوق في معرفة صحيحها من باطلها في الجملة.
ذكر أبو الدرداء كعبًا فقال: "إن عند ابن الحميرية لعلمًا كثيراً".
سكن بالشام في حمص بأخرة، وكان يغزو مع الصحابة.
قال ابن حبان في الثقات: مات سنة: أربع وثلاثين، وقيل سنة اثنتين، وقد بلغ مائة وأربع سنين، وقال ابن سعد: مات سنة اثنتين وثلاثين بحمص[1].
 
من أقول كعب: "من تضعضع لصاحب الدنيا والمال تضعضع دينه، والتمس الفضل عند غير المفضِّل، ولم يصب من الدنيا إلا ما كتب الله له، وإن الله تعالى يبغض كل جمَّاع للمال منَّاع للخير مستكبر"[2].
وقال أيضًا: "واعلموا أن كلمة الحكمة ضالة المسلم، فعليكم بالعلم قبل أن يُرفع، ورفعه أن تذهب رواته"[3].
 
وأما قصة إسلامه فرواها الطبري في تفسيره بسنده فقال: " حدثنا أبو كريب، حدثنا جابر بن نوح، عن عيسى بن المغيرة قال: تذاكرنا عند إبراهيم إسلامَ كعبٍ، فقال: أسلم كعب في زمان عمر، أقبل وهو يريد بيت المقدس، فمرّ على المدينة، فخرج إليه عمر فقال: يا كعب، أسلم! قال: ألستم تقرؤون في كتابكم: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ [الجمعة: 5]؟ وأنا قد حملت التوراة! قال: فتركه.
ثم خرج حتى انتهى إلى حمص، قال: فسمع رجلاً من أهلها حزينًا وهو يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [النساء: 47].
فقال كعب: يا رب آمنت، يا رب أسلمت! مخافة أن تصيبه الآية، ثم رجع فأتى أهله باليمن، ثم جاء بهم مسلمين"[4].
 
فهذا النداء الخاص الذي يخاطب أهل الكتاب قد حمل معه التخويف الذي هز كعبًا حتى أخذ بيديه فأدخله الإسلام.
وحقًا إن الوعيد في الآية لشديد؛ إذ معناها:" يا أهل الكتاب، صدِّقوا واعملوا بما نزَّلنا من القرآن، مصدقًا لما معكم من الكتب من قبل أن نأخذكم بسوء صنيعكم، فنمحو الوجوه ونحولها قِبَلَ الظهور، أو نلعن هؤلاء المفسدين بمسخهم قردة وخنازير، كما لعنَّا اليهود مِن أصحاب السبت، الذين نُهوا عن الصيد فيه فلم ينتهوا، فغضب الله عليهم، وطردهم من رحمته، وكان أمر الله نافذًا في كل حال"[5].
 


دروس من قصة الهداية: 1- الحرص على ترغيب الكافرين بالإسلام ، وتحذيرهم مما هم عليه من الكفر.
2- بيان أهمية القرآن في الدعوة إلى الطاعة، وظهور ثمرة القراءة الحسنة على القلوب، وتأثيرها عليها.
3- بيان أثر آيات الوعيد في سَوق الضالين إلى ربهم وردِّهم إلى بابه.
4- على العالم الانقياد للحق، وأن لا يمنعه الكبر والغرور من قبوله.
 
على المسلم المهتدي أن يجدَّ في دعوة الناس إلى الهدى خصوصًا أهله وأقاربه.
 

[1] تنظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء، الذهبي (3/ 489) وما بعدها، الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر (5/ 647) وما بعدها.

[2] حلية الأولياء، أبو نعيم الأصبهاني (5/ 365).

[3] المصدر السابق (5/ 367).

[4] تفسير الطبري (8/ 446).
[5] التفسير الميسر، إعداد نخبة من العلماء (2/ 47).

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير