الفوز المبين والأكبر والأعظم
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
الفوز المبين والأكبر والأعظمالحمد لله الذي تفرد بالجلال والعظمة، والعز والكبرياء والجمال، وأشكره شكر عبدٍ معترف بالتقصير عن شكر بعضِ ما أولِيَه من الإنعام والإفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيقول الله عز وجل: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185].
ما أعظمَها مِن موعظة بليغة تهتزُّ منها القلوب، وتدمع لها العيون؛ وهي والله شافيةٌ وكافية لاتِّعاظِ مَن يريد الاتعاظ، وأن ينتفع بما فيها، وهذا لا يكون إلا لمن وُفِّقَ؛ نسأل الله عز وجل أن نكون منهم.
وإن في هذا الأسلوب البديع الماتع، والفاضل النافع - تصويرًا لهذا الموقف بهذه الصورة المنقطعة النظير، التي يَظهر فيها حقيقة الحضِّ والحث والترغيب، على طريقة القرآن الجميلة اللطيفة؛ لتفتح بعد هذا البابَ على مصراعيه أمام كلِّ صاحب نفس؛ ليختار من جهة، وليتنافس فيه مع المتنافسين من جهة أخرى، ناهيك أيضًا عما فيها - أعني هذه الآيةَ - من حِكَم وأمور نافعة، يأتي الإشارة إلى شيء منها.
فهو عز وجل يخبر في هذه الآية "إخبارًا عامًّا يعم جميع الخليقة؛ بأن كل نفس ذائقة الموت، وأنه سيدركها الموتُ لا محالة، والله تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت، والمنفرد بالدَّيمومة والبقاء، فيكون آخرًا كما كان أولاً، وهذه الآية فيها تعزيةٌ لجميع الناس؛ فإنه لا يَبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت، فإذا انقضت المدَّة، وفرَغَت النطفة التي قدَّر الله وجودها في صلب آدم وانتهَت البرية، أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها؛ جليلِها وحقيرها، كثيرها وقليلها، كبيرها وصغيرها، فلا يَظلم أحدًا مثقالَ ذرة؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾"[1].
الفوز المبين:
إذًا فالناس سيُحاسَبون على أعمالهم يوم القيامة؛ فمن كانت نتيجةُ حسابه الإبعادَ عن النار، والنجاةَ مِن سعيرها، والفوزَ بالجنة والنَّيلَ لنعيمها، فقد فاز فوزًا مبينًا واضحًا، كبيرًا عظيمًا، وأدرك بُغْيتَه التي ليس بعدَها بُغية؛ وما ذلك إلا لأنَّه ظَفِر بالخير، ونجا من الشَّر؛ ظَفِر بما يَرجو ونجا مما يخاف، ظفر بحاجته وعظيم الكرامة، وحصَل له الفوزُ العظيم من العذاب الأليم، والوصولُ إلى جنات النعيم، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ وهذا هو المقصَد والمقصود.
يقول الرازي في مفاتيح الغيب (9/ 102): "اعلم أنه لا مقصودَ للإنسان وراء هذين الأمرين: الخلاص عن العذاب، والوصول إلى الثواب، فبين تعالى أن من وصل إلى هذين المطلوبين فقد فاز بالمقصد الأقصى، والغاية التي لا مطلوب بعدها".
إذًا فهذا هو الفوز المبين الواضح، وهو الأكبر والأعظم عند الله عز وجل؛ لأن الفوز الأكبر والأعظم هو الذي يُتحصَّل منه على الرِّبح، وتَنتفي معه الخسارة، وأي ربحٍ بيِّن أعظمُ من أن يكون صاحبه قد فاز ونجا من النار، وزُفَّ وأدخل الجنة؟! إنه بهذا قد تحصل - دون أدنى شك - على الفوز المبين الأكبر والأعظم، فكيف بالله بمن يَدخل الجنة مع السابقين؟! إن هذا هو أعظم الفوز وأكبره، وأبينُه وأوضحه عند رب العالمين.
كما أن مفهوم الآية أن كل مَن لم يُزحزَح عن النار ويدخل الجنة؛ فإنه لم يفز، بل العكس من ذلك تمامًا؛ فإنه قد شقي الشقاء الأبدي، وابتلي بالعذاب السرمدي؛ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 159).
وتأمَّل قوله عز وجل: ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ ﴾؛ فإن الزحزحة كما يقول الرازي في مفاتيح الغيب (9/ 102): "التنحية والإبعاد، وهو تكرير الزَّح، والزح: هو الجذب بعجَلة، وهذا تنبيه على أن الإنسان حينما كان في الدنيا كأنه كان في النار، وما ذاك إلا لكثرةِ آفاتها وشدة بلياتها؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((الدنيا سجن المؤمن [وجنة الكافر]))[2]".
ومما في هذه الآية:
إضافة إلى أن في هذه الآية - على ما تقدَّم - زيادةَ تأكيدِ التسلية والمبالغة في إزالة الحزن عن قلبه؛ لأنَّ مَن علم أنَّ عاقبته الموت زالت عن قلبه الغمومُ والأحزان؛ ولأن بعدَ هذه الدار دارًا يتميز فيها المحسنُ من المسيء، [والمحقُّ من المبطل]؛ كما قال أبو حفص الدمشقي في "اللباب في علوم الكتاب" (6/ 97).
كما أن في قوله: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ أنَّ الدنيا - كما يقول القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (4/ 302) -: "تغرُّ المؤمنَ وتخدعه، فيظنُّ طول البقاء وهي فانية"؛ ولذلك قال مَن قال مِن السلف - كما في محاسن التأويل لجمال الدين القاسمي -: "الدنيا متاعٌ مَتروك، يوشك أن يضمحلَّ ويزول"، وعلَّق جمال الدين القاسمي فقال: "فخذوا من هذا المتاع، واعمَلوا فيه بطاعة الله ما استطعتم".
وقد أكد السعدي هذا - في تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 159) - فقال: "هذه الآية الكريمة فيها التَّزهيد في الدنيا بفنائها وعدم بقائها، وأنها متاع الغرور، تَفتن بزخرفها، وتخدع بغرورها، وتغرُّ بمحاسنها، ثم هي منتقِلة، ومنتقَلٌ عنها إلى دار القرار، التي توفَّى فيها النفوس ما عملَت في هذه الدار؛ من خير وشر".
ولقد أحسن من قال[3]:
هي الدارُ دار الأذى والقَذى
ودار الفَناءِ ودار الغِيَرْ
فلو نِلتَها بحَذافيرها
لَمتَّ ولم تقضِ منها الوطَرْ
أيا مَن يؤمِّل طول الخلودِ
وطولُ الخلودِ عليه ضَررْ
إذا أنتَ شِبتَ وبانَ الشبابُ
فلا خيرَ في العيش بعد الكِبَر
كما أنَّ فيها - كما قال السعدي في تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 159) -: "إشارة لطيفة إلى نعيم البرزخ وعذابه، وأن العاملين يُجزَون فيه بعضَ الجزاء مما عملوه، ويقدم لهم أنموذجًا مما أسلفوه، يُفهَم هذا من قوله: ﴿ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾؛ أي: توفية الأعمال التامة إنما يكون يوم القيامة، وأما ما دون ذلك فيكون في البرزخ، بل قد يَكون قبل ذلك في الدنيا؛ كقوله تعالى: ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [السجدة: 21]".
وختامًا:
ما بالُ دينِك تَرضى أن تُدنِّسَه
وثوبُك الدَّهرَ مغسولٌ مِن الدنَسِ
ترجو النجاةَ ولم تَسلك مَسالكها
إنَّ السفينة لا تَجري على اليبَسِ
[1] تفسير القرآن العظيم (1/ 535) بتصرف يسير.
[2] أخرجه مسلم رقم: (2956) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] الجامع لأحكام القرآن (4/ 302).