الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الإفراط والتفريط
مدة
قراءة المادة :
63 دقائق
.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الإفراط والتفريطبسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرَفِ الأنبياء والمرسَلين، نبيِّنا محمد، وعلى آله وصَحبه أجمعين.
أمَّا بعدُ:
فنتوجَّه بالشُّكر لله عزَّ وجلَّ الذي جمَعَنا في هذا المكان الطيِّب للمُذاكرة فيما يجبُ على المسلم أنْ يقومَ به إزاءَ دِينه، ونشكُر للجمعيَّة (جمعية إحياء التراث) التي تقومُ بهذا العمل منذ سَنواتٍ عديدة، وتُنظِّم هذه المحاضرات في شتَّى أنواع العلوم التي تفيدُ المسلمَ في عَقيدته، وفي عِبادته، وفي شُؤونه الاجتماعيَّة، وتنويعها لهذه المحاضرات التي تشتَمِلُ على هذه الموضوعات التي تُبيِّن لطُلاَّب العِلم ضرورةَ اتِّباع المنهج السلفي، والاقتداء بنبيِّهم صلَّى الله عليه وسلَّم وبِمَن اقتَدَى بهدْيه واستَنَّ بسُنَّته؛ لأنهم متَّبِعون يعمَلُون بما جاء في كِتاب الله وفي سُنَّة رسُوله صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك أنَّ هذا الدِّين شاملٌ للحياة كلها؛ عقيدةً وعبادة، ومعاملات وأخلاقًا، ونحبُّ أنْ نوضِّح نقطةً مهمَّة وهي أنَّ بعضَ الناس يقول: إنَّ مَن يدْعون للمنهج السلفي والعقيدة الصحيحة السليمة لا يَعرِفون من الأحكام الشرعيَّة، ولا يهمُّهم من أمر المسلمين وواقعهم إلا جُزئيَّة واحدة وهي العقيدة، بل أيضًا يَقصُرونها على الثُّلث من العقيدة؛ لأنَّ التوحيد كما نعلَمُ توحيد الربوبيَّة وتوحيد الألوهيَّة، وتوحيد الأسماء والصفات، فهم يقولون: إنَّ هؤلاء لا يتحدثون إلا عن الأسماء والصِّفات فقط، وهذا الكلام يُخالِفُ الواقعَ؛ فهذه الجمعيَّة التي قامَتْ على هذا المنهج السلفي عمَلُها.
ومن الواضح أنَّ منهج السلف الصالح ومَن ينهج منهجهم واتَّبع سبيلهم لا يَترُك شيئًا من أمور الدِّين، بل أعمالهم شاملةٌ للعقيدة والعبادة والرِّعاية الاجتماعيَّة والمصالح العامَّة.
وندخُل في موضوعنا فأقول:
هذه المحاضرة - أو قد أقولُ: مُذاكرة بيني وبينكم - عُنوانها الذي طُلِبَ منِّي أنْ أتحدَّث فيه هو: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الإفراط والتفريط).
هكذا طُلِبَ منِّي حينما قُدِّمتْ لي الورقة لطلب المشاركة؛ ولهذا أردت أنْ أحصر الحديث في هذا العنوان في فِقراتٍ مُحدَّدة ليستَوعِب السامع بعض الحديث، أو بعض ما يُقال في هذه الفقرات التي يشمَلُها عُنوان المحاضرة: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الإفراط والتفريط".
والحديث عن هذا الموضوع يبدَأ بالحديث عن وُجوبه.
هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبٌ؟ وإذا كان واجبًا فعلى مَن يجب؟ وما دليل ذلك؟
الفقرة الثانية: الحديث عن العِلم، وذلك بأنْ يكون المتصدِّي لهذه المهمَّة العظيمة التي هي وظيفةُ الرُّسُلِ - عليهم الصلاة والسلام - على علمٍ وبصيرة بما يدعو إليه، متَّبِعًا في ذلك سبيلَ المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم وأتْباعه في منهج دَعوته أمرًا ونهيًا.
الفقرة الثالثة: ذكْر بعض وسائل الدعوة بالأمر المعروف والنهي عن المنكر.
الفقرة الرابعة: وسطيَّة هذه الأمَّة في جميع أمورها بين الأمم السابقة، ووسطيَّة أهل السُّنَّة والجماعة من سلَف هذه الأمَّة في الفِرَقِ الإسلاميَّة بين الإفراط والتفريط، وهو الشطر الثاني من عُنوان المحاضرة، وبيان أنَّ سِيرة السلف (أهل السُّنَّة والجماعة) كانوا على هُدًى قاصد وصراط مستقيم.
ونبدأ بالحديث عن الفقرة الأولى، وهي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى مَن يجب.
إنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمرٌ واجبٌ على هذه الأمَّة، كلٌّ حسَب طاقته وقُدرته؛ إذ لا يُكلِّف الله نفسًا إلا وُسعَها، وقد اختار الله عزَّ وجلَّ هذه الأمَّة وأخرَجَها لهذه المهمَّة بعدَ الإيمان به؛ فقد جاء وَصْفُ هذه الأمَّة المحمديَّة بالخيريَّة المطلقة؛ لقِيامها بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والإيمان به؛ كما قال - تعالى -: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]، مع أنَّ لهذه الجماعة خِلالاً وأمورًا أخرى أهَّلَتْها لأنْ تكون خيرَ أمَّة، ولكنَّ هذه الثلاث المسائل هي أعظَمُها، وهي الإيمان بالله - وإنْ جاء مُتأخِّرًا في ترتيب الآية - والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مُكوَّن من مسألتين:
المسألة الأولى: هل وصْف هذه الأمَّة بالإيمان بالله عزَّ وجلَّ هو خاصٌّ بها مع أنَّ الأمم السابقة شاركَتْها في ذلك فما من أمَّةٍ بُعِثَ فيها رسولٌ إلا وُجِدَ في تلك الأمَّة مَن يؤمن به ويتَّبعه، فهل الإيمان الذي وُصِفَتْ به هذه الأمة خاصٌّ بها دون الأمم السابقة؟
المسألة الثانية من السؤال: لماذا قُدِّمَ الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر مع أنَّ الأصل هو الإيمان بالله - عزَّ وجلَّ؟
أجيبُ عن المسألة الأولى: بأنَّ إيمان هذه الأمَّة يتميَّز عن إيمان الأمم السابقة كلها؛ لأنَّ هذه الأمَّة آمَنتْ بجميع الرُّسل الذين أرسلَهُم الله عزَّ وجلَّ وآمَنتْ بالكتب التي أُنزِلتْ على أولئك الرُّسل، فإيمانها شاملٌ عام، أشمل من إيمان تلك الأمم بأنبيائها؛ لأنَّ أولئك كذَّبُوا بعض الرُّسل، فالله - تبارك وتعالى - قال عن هذه الأمَّة: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾ [البقرة: 285]، فهذه الأمَّة لم تُفرِّق بين الرُّسل بل آمَنت بهم جميعًا، مَن جاء مسمًّى في القُرآن ومَن لم يُسَمَّ؛ لأنَّ الله - تبارك وتعالى - أخبر وقال: ﴿ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ﴾ [غافر: 78].
فهذه الأمَّة تؤمنُ بالرسل جميعًا؛ لأنها تصدق بما جاء في كتاب الله عزَّ وجلَّ وبما جاء في حديث جبريل المشهور في حَدِّ الإيمان، حينما سأل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ما الإيمان؟ قال: ((أنْ تؤمن بالله ومَلائكته وكتبه ورسله واليوم الآخِر وتؤمن بالقدر خيره وشره))، ويُوضِّح هذا الإيمان الشامل وأنَّ هذه الأمَّة استحقَّتْ وصْف الخيريَّة لتميُّزها فيه؛ لأنَّ كثيرًا من الأمم التي قبْلها لم تؤمن بما كان قبلَها من الرسل، والكتب التي أُنزِلتْ، بل كذبوا أو كفروا بهم؛ كما قال تعالى - عنهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ [النساء: 150-151].
قال الإمام ابن جرير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: ﴿ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ﴾ [النساء: 150]؛ يعني: أنهم يقولون: نُصدِّق بهذا، ونُكذِّب بهذا، كما فعلت اليهود في تكذيبهم عيسى ومحمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم وتصديقهم بموسى وسائر الأنبياء قبلَه - بزعْمهم - وهم لم يُصدِّقوا بذلك، وكما فعلت النصارى من تكذيبهم محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم وتصديقهم بعيسى وسائر الأنبياء قبلَه - بزعْمهم.
هذا كلامُ ابن جرير، ثم يقول في معنى قوله عزَّ وجلَّ: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ﴾ يقول: أيُّها الناس، هؤلاء الذين وصَفتُ لكم صفتَهم هم أهلُ الكفر بي، المستحقُّون عَذابي، والخالدون في ناري حقًّا، فاستَيْقِنوا بذلك، ولا يُشكِّكنَّكم في أمرهم انتحالهم الكذب، ودَعواهم أنهم يُقِرُّون بما زعَمُوا أنهم به مُقِرُّون من الكتب والرسل فإنهم في دَعواهم ما ادَّعوا من ذلك كَذَبَةٌ؛ وذلك أنَّ المؤمن بالكتب والرُّسل هو المُصدِّق بجميع ما في الكتاب الذي يَزعُم أنَّه به مُصدِّق، وبما جاء به الرسول الذي يَزعُم أنَّه به مؤمن ("تفسير ابن جرير" 6 /5).
ونقرأ في كتاب الله أنَّ وصْف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جاء في تلك الكتب في التوراة والإنجيل، وأنَّ أهْل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ولكنَّهم كفروا به حَسَدًا وبغيًا؛ إذ هم يُكذِّبون بما في كتاب الله، ويُكذِّبون بأنَّ محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم رسولُ الله، وهم يعرفونه حقَّ المعرفة كما يعرفُ المرء ابنه، لا يَشُكُّون فيه؛ لأنَّ الإنسان لا يشكُّ في معرفته لولده.
المسألة الثانية: وأمَّا تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله فهو لمعنًى اختَلَف المفسِّرون في تحديده، فمنهم مَن قال: لأنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سِياج الإيمان، وبهما يستمرُّ نقاؤه وصَفاؤه وتوهُّجه، بل استمراره، وكلَّما ضعُف الإيمان أو كلَّما ضعُف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضعُف الإيمان، ودخلت عليه البِدَع والمعاصي التي تَحُول دون تمامه وقوَّته[1]، إلا أنَّه باتِّفاق الجميع أنَّ الإيمان هو الأساس الذي يُبنَى عليه الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المتكر، وإذا لم يكنْ ثمَّة إيمانٌ على أساسه يُتَصوَّر المعروف فيُؤمَر به، والمنكرُ فيُنهَى عنه - فليس هناك أمرٌ بالمعروف ولا نهيٌ عن المنكر بالمعنى الشرعي؛ وعلى هذا فإنَّ خيريَّة هذه الأمة بعد الإيمان بالله تظهَرُ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من أعظم ما به كانت هذه الأمَّة خيرَ أمَّة أُخرِجتْ للناس فهو من أظهر خَصائصها وأبرز مميزاتها عن سائر الأمم؛ ولذلك قدَّمَه الله عزَّ وجلَّ في الذِّكر على الإيمان به - تعالى - مع كونه - أي: الإيمان - مُتقدِّمًا عليهما في الوجود والرُّتبة فقال: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].
أمَّا أدلَّة وُجوبه على كلِّ فردٍ من أفراد الأمَّة المكلَّفين من ذَكَرٍ أو أُنثى، فنجدُ ذلك في كتاب الله الكريم، وسُنَّة رسوله الأمين صلَّى الله عليه وسلَّم فالله عزَّ وجلَّ قد أمَر هذه الأمَّة بأنْ تأمُر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأن يكون في الأمَّة جماعةٌ تقومُ بذلك؛ فقال - تعالى -: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].
يقول الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: والمقصود من هذه الآية أنْ تكون فرقةٌ من الأمَّة مُتصدِّية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبًا على كلِّ فردٍ من الأمَّة كلٌّ بحسبه، ثم ذكَر الأدلَّة من السُّنَّة فقال: كما ثبت في "صحيح مسلم" من حديث أبي سعيدٍ الخدري - رضِي الله عنه، الذي نجدُه في ابن كثير قال: من حديث أبي هريرة، والرواية من حديث أبي سعيد - قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((مَن رأى منكم مُنكرًا فليُغيِّره بيده، فإنْ لم يستطعْ فبلسانه، فإنْ لم يستطعْ فبقلبه، وذلك أضعَفُ الإيمان)).
وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه" في (كتاب الإيمان) باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، قال الإمام النووي - رحمه الله - في شرح هذا الحديث: وأمَّا قوله صلَّى الله عليه وسلَّم ((فليُغيِّره)) فهو أمرُ إيجابٍ بإجماع الأمَّة، وقد تطابَق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتابُ والسُّنَّة وإجماعُ الأمَّة، وهو أيضًا من النصيحة التي هي الدِّين، ولم يخالفْ في ذلك إلا بعضُ الرافضة، ولا يُعتَدُّ بخِلافهم، ثم إنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضُ كفايةٍ إذا قام به بعضُ الناس سقَط الحرج عن الباقين، وإذا ترَكَه الجميع أَثِمَ كُلُّ مَن تمكَّن منه بلا عُذرٍ ولا خوفٍ، ولنا وقفةٌ مع هذا الحديث في قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((فليُغيِّره بيده، فإنْ لم يستطعْ فبلسانه))، فلمَن يكونُ التغيير باليد؟
أولاً: الخطاب مُوجَّه للأمَّة جميعًا ((مَن رأى منكم مُنكرًا فليُغيِّره بيده))، وقوله: ((منكم)) يشمَلُ الذكور والإناث، وهو يشمَلُ كلَّ مكلَّف، ولكن قال: ((فليُغيِّره بيده)).
التغيير باليد: أولاً لكلِّ مسلم في بيته بين أُسرته وأولاده ومَن هم تحتَ يده، إذا ارتَكب أحدُهم منكرًا يحتاجُ إلى التغيير باليد، فيُغيِّره، ولكن قد يأتي أيضًا في وقتٍ من الأوقات أنَّ الأب في البيت لا يستطيعُ أنْ يُغيِّر مع أولاده المنكرَ الذي يرتكبونه، وهذا واقعٌ، والناس يعرفونه، قد يأتي في وقتٍ من الأوقات لا يستطيع أنْ يُغيِّر بيده مع الأولاد أنفُسِهم، فينتقل في هذه الحالة إلى التغيير بلسانه، أمَّا مع الآخَرين الذين هم ليسوا تحت سُلطَتِه ولا تحتَ يده، فالأمر في التغيير باليد راجعٌ إلى المسؤول، إلى الجهة المكلَّفة بالحِسبة؛ لأنَّه لو ذهَب الإنسان بنفسه، وأراد أنْ يُغيِّر فقد يترتَّبُ على هذا العمل مَفسَدةٌ أعظمُ من المصلحة، فإذا جئتَ للإنسان وهو في السُّوق أو في أيِّ مَكان كان مرتكبًا لمنكرٍ من المنكرات، وجئتَ ومددت يدك للتغيير، فقد يمدُّ يده، وتأتي المسألة والنتيجة بأكبر ممَّا أردت أنْ تُغيِّره؛ لأنَّ التغيير أو الأمر بالمعروف ينبغي أنْ يكون بالمعروف، وتغيير المنكر ينبغي أنْ يكون بغير منكر؛ إذ التغيير باليد لكلِّ مَن يستطيعُه، فإذا لم يستطع الإنسان ذلك فإنَّه ينتقل إلى المرحلة الأخرى، وهي التغيير باللسان، والرسولُ - عليه الصلاة والسلام - لا ينطق عن الهوى وهو يُبيِّن أنَّه سيأتي في وقتٍ من الأوقات لا يستطيعُ الإنسان أنْ يُغيِّر حتى بلسانه، فإذا تكلمت بلسانك في تغيير هذا المنكر فسيتوجَّه إليك الضَّرر بصورةٍ أكثر، بل إنَّك تُلقِي بنفسك في التَّهلُكة، وتترتَّب على أعمالك مضرَّة، فإذا وصل الأمر إلى هذه الحالة فعليك أنْ تنتقل إلى المرحلة الأخرى وهي أنْ تكرَهَ هذا المنكر بقلبك، ولكن إذا اندمجت مع المجتمع، ولم يتحرَّك حتى قلبك لكَراهة هذا المنكر وتغييره، فقد جاء في هذا الحديث: ((وليس وراء ذلك مثقالُ ذرَّةٍ من إيمان)).
إذًا يجبُ علينا أنْ نعلم وأنْ نفقَهَ في الدِّين بأنَّ التغيير باليد هو لِمَن يستطيعه، وإذا لم يستَطِعِ المسلم التغيير باليد فينتقل إلى التغيير باللسان، فإذا عجز عن ذلك فيكرَهُ ذلك المنكر بقَلبِه، وهذا الذي يجبُ عليه؛ لأنَّ الله لا يُكلِّف نفسًا إلا وُسعها، ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد بيَّن لنا هذا المنهج، فعلينا أنْ نتَّبعه لأنَّنا إذا خالَفْناه وقَعْنا في أمورٍ أعظم ممَّا نريد أنْ نعمل فيه الإصلاح، ولَمَّا كان الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر بهذه الدرجة؛ أي: إنَّه واجبٌ على كلِّ واحدٍ من أفراد هذه الأمَّة، عدَّهما كثيرٌ من السَّلَفِ شرطًا في استحقاق الخيريَّة المشار إليها في هذه الآية، فقد روى ابن جريرٍ - رحمه الله - بسنده عن عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - أنَّه في حجَّةٍ حجَّها قرَأ هذه الآية: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110]، ثم قال: يا أيها الناس، مَن سرَّه أنْ يكون من تلك الأمَّة فليُؤدِّ شرطَ الله فيها وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولقد كانت هذه الأمَّة أكثرَ الأمم قيامًا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل لم يكن في أمَّةٍ من الأمم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلما هو في هذه الأمَّة، ولقد كانت أعظم الأمم التي قبلنا - وهم بنو إسرائيل - مُفرِّطين فيهما غير قائمين بهما كما قصَّ الله عزَّ وجلَّ علينا تقصيرهم فقال: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾ [المائدة: 78- 79].
فلمَّا قامت هذه الأمَّة بهذا الأمر مع تقصير غيرها من الأمم وتفريطها فيه، كانت جديرةً بما أثبَتَه الله ورسوله لها من الخيريَّة؛ إذ خيرُ الناس آمَرُهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، كما جاء عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فيما رواه الإمام أحمد في "مسنده" عن درة بنت أبي لهب، قالت: قام رجلٌ إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وهو على المنبر فقال: يا رسول الله، أيُّ الناس خيرٌ؟ فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((خيرُ الناس أقرَؤُهم وأتْقاهم، وآمَرُهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرَّحِم)).
وبعدَ إيراد هذه الجمل المختصرة على الفقرة الأولى، وهي وجوبُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبَيان مَن يجبُ عليه، كلٌّ حسَب طاقته، وأدلَّة ذلك من الكتاب والسُّنَّة، ننتقل للحديث عن الفقرة الثانية، وهي العلم بما يدعو إليه؛ أي: علم الآمِر بالمعروف والناهي عن المنكر بما يدعو إليه، مُتَّبِعًا سبيل المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم في منهج دَعوته أمرًا ونهيًا، قال الله عزَّ وجلَّ لنبيِّه محمد صلَّى الله عليه وسلَّم: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].
فالبصيرةُ هي العِلم الشرعي، والعلم بما يدعو إليه، وقد بيَّن العلماء أنَّه إنما يأمُر وينهى مَن كان عالمًا بما يأمُر به وبما ينهي عنه، كما بيَّنوا أنَّ ذلك يختلفُ باختلاف الشيء المأمور به والمنهي عنه، فإنْ كان من الواجبات الظاهرة والمحرَّمات المشهورة؛ كالصلاة والصيام، وكالزنا وكشرب الخمر، ونحو ذلك، فيكون كلُّ المسلمين عُلَماء بذلك؛ يعني: كل واحد يعلم أنَّ ترك الصلاة وترك الصيام والتهاون في هذه الأمور المتَّفَق عليها عمل منكر، وكل واحد من المسلمين يعلم أنَّ شُرب الخمر حرامٌ، وأنَّ الزنا حرام، وأنَّ السرقة حرام، وأنَّ الكذب حرام، والغيبة والنميمة، هذه كلُّها معروفةٌ ومشهورةٌ، فكلُّ واحدٍ يجبُ عليه أنْ ينكر ذلك المنكر: أنْ يأمر بالمعروف، وأنْ ينهى عن المنكر، ولكن بالأسلوب الذي سبَق ذِكرُه، وهو أنْ يكون بالشيء الذي يستطيعه أمَّا الشيء الذي لا يستطيعه فإنَّه ينتقلُ إلى المرحلة التي تَلِيه كما ورد في الحديث الشريف: إمَّا باليد، وإمَّا باللسان، وإمَّا بالقلب.
فمَن تكاسَل بأداء هذه الواجبات المفروضة الظاهرة، أو ارتكب تلك المحرَّمات المشهورة، فلكلِّ مسلمٍ أنْ يستنكر ذلك على فاعِلِه، وهو معنى قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن رأى منكم))؛ لأنَّ هذا الخطاب مُوجَّه للأمَّة كلها، ((مَن رأى منكم مُنكرًا فليُغيِّره بيده...)) الحديث.
ويكون تغييره بالأسلوب المناسب كما في نصِّ الحديث، باليد للمستطيع؛ كالرَّجُل في بيته مع من هم تحت يده، وقد يأتي وقتٌ لا يستطيع أنْ يغير بيده كما قُلنا، أمَّا إذا كان الأمر المدعو له، أو المنهي عنه من دَقائق الأفعال والأقوال، وممَّا يتعلَّق بالاجتهاد لم يكنْ للعوام وأشباههم مدخلٌ فيه، ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء؛ يعني: الأمور الدقيقة التي لا يفهَمُها إلا العلماء أهلُ الاجتهاد، فهم الذين يتدخَّلون في هذا الموضوع، وأمَّا العامَّة وأشباههم فليس لهم ذلك.
ولو نظَرْنا في المجتمع الإسلامي عُمومًا وفي طلاب العلم المبتدِئين فإنَّنا لن نجدَ منهم مَن يتوفَّر فيه ذلك؛ لأنَّ عَواطِفهم الدينيَّة تطغَى على معرفتهم العلميَّة، أمَّا العلماء البارزون المعروفون الذين أمضَوْا أعمارهم في طلب العلم وتحصيله، وفي النظر في مصالح المسلمين، وفيما ينبغي أنْ يعمل أمرًا ونهيًا، فلهم ذلك؛ لأنهم أهلٌ له، أمَّا نحن فإنَّه لا ينبغي لكلِّ واحدٍ منَّا أنْ يَدخُل في تلك الأمور الصَّعبة التي لا يُدرِكها، ولا يُدرِك عَواقبها، وما يترتَّب عليها - إلا العلماء المجربون، علماء الشرع الذين يفهَمون واقع الأمَّة، وليس معنى ذلك أنَّ العلماء الذين أفنوا أعمارهم في تحصيل العلم وطلبه، وفي قضاء حوائج الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أنهم لا يفهمون الواقع؛ فهذا نبزٌ لهم، وإنما هم يفهمون واقع الأمَّة، ويفهَمون الأمور التي ينبغي أنْ نعمَل لتصلحها، والأمور الأخرى التي ينبغي أنْ تُتجنَّب حتى لا تترتَّب عليها المفاسد التي هي أعظم من المصالح التي يُفكِّر فيها.
ثم العلماء قد أعطَوْا هذا الباب العِناية وألفوا كتبًا في ذلك، ومن أحسن الكتب في هذا الموضوع الكتاب الصغير في الحجم العظيم في النفع، وهو كتاب: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"؛ لشيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - ومَن رجَع لسِيرة سَلفنا الصالح يجد أنهم قاموا بتبليغ الرسالة المحمديَّة خيرَ قيام، سالكين خير الطرق وأزكاها، ممتَثِلين أمر ربهم خالِقهم ومولاهم؛ حيث قال عزَّ وجلَّ لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم وأمَّته تبعٌ له في ذلك؛ قال - تعالى -: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، وقال - سبحانه -: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ﴾ [هود: 112]، وأثنى الله على الدعاة وأشاد بصَنِيعهم؛ فقال - تعالى -: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]، ورغَّب في الدعوة وحذَّر من تركها؛ إذ هي رسالةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وفريضة أمَّته؛ فقال عزَّ وجلَّ: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين ﴾ [يوسف: 108].
وهذه النُّصوص من الكتاب والسُّنَّة وما كان عليه سلَف الأمَّة تُبيِّن للمسلم أنَّ الدعوة إلى الله تكونُ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وينبغي أنْ نعلم أيها الإخوة أنَّه لا فرقَ بين الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما الدعوة إلى الله، ونحن نقولُ في تعريف الدعوة هي: امتِثالُ ما أمَر الله به واجتنابُ ما نهى عنه.
فالأمر بالمعروف هو الحثُّ على العمَل بما أمَر الله به عزَّ وجلَّ والنهي عن المنكر هو الانتهاء عمَّا نهى الله عنه، فلا فرْق فيما يُسمَّى بالدعوة إلى الله، وفيما يُسمَّى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكلاهما واحدٌ، وهذه النُّصوص من الكتاب والسُّنَّة وما قام به سلف هذه الأمَّة، تُبيِّن للمسلم أنَّ الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي كلَّف الله عزَّ وجلَّ بها رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم هي دعوةٌ عالميَّة، وواجبٌ عظيم كلَّف الله به جميعَ المسلمين والمسلمات، كلٌّ حسَب قُدرته وفي حُدود مَسؤوليَّاته، وهما فرضُ كفايةٍ - كما سبق الحديث عن ذلك - إذا قام به البعض سقَط عن الآخَرين، ولكنْ إذا ترَكُوه جميعًا أَثِمُوا، ويَأثَمُ الذي يستطيعُ أنْ يُغيِّر المنكر ولا يفعل ذلك دون أنْ يكون له عُذرٌ شرعي في التَّرك، وعلى قدْر الإيمان بفرضيَّة الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والالتزام بأدائهما وبذْل الجهْد في تبليغهما يكونُ العبد من أتْباع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم حقيقةً لا ادِّعاء، وذلك على المنهج الذي سلَكَه نبيُّ الهدى صلَّى الله عليه وسلَّم المنصوص عليه في كتاب الله عزَّ وجلَّ والثابت في سنَّته وفي سِيرته العطرة قولاً وفعلاً وتقريرًا.
الفقرة الثالثة: وهي ذِكر بعض الوسائل الدعويَّة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكما تكونُ الدعوة إلى الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكلمة الطيِّبة والقول الحسن؛ لأنَّ مبنى الشريعة الإسلاميَّة، وتطبيق أحكامها في العقائد والعبادات والمعاملات أوامرُ من الله عزَّ وجلَّ ونَواهٍ كما سبق الحديث عن ذلك، كما نقولُ في التَّقوى أنها امتثالُ الأوامر واجتناب النَّواهي، فكما يكونُ ذلك بالكلمة الطيِّبة والقول الحسن فإنَّه يكونُ كذلك بوسائل أخرى من كتابةٍ وخطابةٍ وتوجيه وتنبيه، وهذا كلُّه من وَسائل الدعوة.
الكتابة في الصحف، الوعظ والإرشاد، تحقيق كتب السَّلَفِ التي تُبيِّن المنهجَ الصحيح والعقيدةَ السَّليمة، نشْر المقالات الحديثة في الوسائل التي يسَّرَها الله عزَّ وجلَّ لعباده؛ سواء في الإنترنت، أو في التليفزيون، أو كما سمعنا البارحة ونحن في هذه الدِّيار البعيدة عن الرياض كان المفتي يُحاضِرُ ونحن نسمَعُ كلامَه أوضح ممَّا تسمَعُون كلامي، فهذه الوسائلُ كلها يسَّرها الله عزَّ وجلَّ وينبغي للدعاة وللآمِرين بالمعروف والناهين عن المنكر أنْ يستعملوها وأنْ يستفيدوا منها في تبليغ الدعوة، وتوجيه الناس إلى ما ينفَعُهم في أمر دِينهم ودُنياهم، والكلام في الدعوة إلى الله سَواء كان عن طريق الخطابة، أو في المقالات المنشورة، أو في الكتاب المؤلَّف يحسُن أنْ يكون مُشتَمِلاً على الترغيب فيما عند الله من الجَزاء الحسن والثواب الجزيل، والترهيب من عِقابه لِمَن خالَف أوامِرَه وارتكب نواهيَه، وقد يكونُ ذلك بالفِعل الجميل؛ يعني: كما يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكلمة الطيِّبة المسموعة، وبالكلمة المنشورة، وبالحديث الذي يُسمَع من إذاعةٍ أو من تلفازٍ، فإنه كذلك يكونُ بالسيرة الحسنة، وبالفعل الجميل، وبالسُّلوك الفاضل، والخُلُقِ الرفيع؛ قال الله - تعالى - لنبيه محمد صلَّى الله عليه وسلَّم: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159]، ولأتْباعه المُقتَدِين بهدْيه أسوة حسَنة في رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
جَرِّبْ أيُّها المسلم في بيتك، وبين أُسرتك حين يرتَكِب أحدهم خطأ، جَرِّبْ معه الكلمة الطيِّبة، وجَرِّبْ معه العُنف وانظُر أيهما أحسن وأفضل، وكذلك مع الآخَرين.
أنت تحبُّ للمسلم ما تحبُّه لنفسك، وتحبُّ لنفسك ما تحبُّ لأخيك المؤمن، أو تحبُّ لأخيك ما تحبُّ لنفسك، فأنت تريدُ أنْ تُقدِّم له الخير، فإذا جِئتَه وقد ارتكب خَطأ، وأردت أنْ تُنبِّهه على ذلك الخطأ، وأنْ تدلَّه على الخير، فعليك أنْ تُقدِّم له ذلك الخيرَ بالكلمة الطيِّبة وبالقول الحسن، لا بالكلمة الفظَّة الغليظة؛ لأنَّه لا يقبَلُ منك، وقد يردُّ عليك بمثْل ما قلت له، ويجبُ على الداعي أنْ يتَّبِعَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في رفقه وحِلمه وشَفقته على المدعوِّ وإنْ أساءَ إلينا.
الاقتداء والاتِّباع العلمي من الآمِر بالمعروف والناهي عن المنكر لكلِّ ما جاء به إمامُ الدعوة محمد صلَّى الله عليه وسلَّم قولاً وعملاً في امتِثال الأوامر، واجتناب النَّواهِي، والقيام بجميع فرائض الله، والوقوف عند حُدوده مع الخلق الحسن، والنيَّة الصالحة الخالصة، يكونُ الداعي بهذا الفعل ترجمة حيَّة لما يقولُ، وقدوة حسَنة للخَلْقِ أجمعين.
إنَّ القُدوة الحسَنة لها تأثيرُها البالغ في المدعوِّين، فإذا فُقِدت القدوة الصالحة الرشيدة من الداعية إلى الله، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، بحيث يقولُ ما لا يفعل، فيقول قولاً ويدعو إليه الناس وهو لا يفعله، ويدعو إلى صالح العمل وهو لا يعمَله، فقد خسر وضاع جهده، وعرَّض نفسه للذمِّ والتوبيخ المنصوص عليه في قوله - تبارك وتعالى -: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44]، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2].
فكيف يكونُ المتصدِّي للأمر بالمعروف حين يأمُر غيره بالصدق والأمانة وحسن الجوار وهو لا يعمل من ذلك شيئًا، وحين ينهي عن الغش والكذب والغيبة والنميمة ثم هو يمارسها؟! إنَّه يكون بعمله هذا مخالفًا لما ينبغي أنْ يعمله، وداخلاً تحت الآيتين الكريمتين وهو بعمله هذا ممَّن يَنهَى عن الأخلاق الذميمة ثم يأتيها، والشاعر يقول:
لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ♦♦♦ عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
بل يخشى عليه من الرِّياء والعُجب، وابتِغاء الشُّهرة، وهي مقاصدُ دَنِيئة ينبغي للمسلم - ولا سيَّما الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر - الابتعادُ عنها؛ لأنَّها مقاصدُ تُنبِئ عن مرَض القلب وعدم الإيمان بالله الذي بيده الموت والحياة، والثواب والعقاب، والمرجع والمآب إليه، ومجازاة كلٍّ بعمله، فالله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
الفقرة الرابعة: وسَطيَّة هذه الأمَّة بين الأمم في جميع أُمورها، ووسطيَّة أهل السُّنَّة والجماعة من سَلَف هذه الأمَّة في الفِرَق الإسلاميَّة في الإفراط والتفريط؛ فالإفراط هو الغلوُّ، والتفريط هو التقصيرُ، وهو الجزء الثاني من عنوان المحاضرة.
أيُّها الإخوة الكرام، قال - تعالى -: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143]، وهو خِطابٌ لهذه الأمَّة، فقد فُسِّرتْ هذه الآية الكريمة بالعَدالة والخيريَّة والتوسُّط بين الإفراط والتفريط؛ فعن أبي سعيدٍ - رضِي الله عنه - عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في قوله - تعالى -: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143] قال: ((عُدولاً)).
ويقول الإمام ابن جرير - رحمه الله تعالى - في تفسير الآية: وأرى أنَّ الله - تعالى ذِكرُه - إنما وصفهم بأنهم وسطٌ لتوسُّطهم في الدِّين؛ فلا هم أهل غلوٍّ فيه غلوَّ النصارى الذين غلَوْا في الترهُّب وقولهم في عيسى ما قالوا فيه؛ لأنهم قالوا: إنَّه ابن الله، وجعلوه إلهًا وثالث ثلاثة، ولا هم أهل تقصيرٍ فيه تقصيرَ اليهود الذين بدَّلوا كتابَ الله، وقتلوا أنبياءَهم، وكذَبوا على ربهم وكفروا به، ولكنَّهم أهل توسُّط واعتدال فيه فوصفَهُم الله بذلك؛ إذ كان أحبُّ الأمور إلى الله أوسطها، وهذا كلام ابن جرير.
ثم قال: وأمَّا التأويل ومعناه في اصطلاح ابن جرير هو التفسير، وعندما نجدُ في تفسيره قوله: أمَّا تأويل كذا فليس هو التأويل المعروف عند المتأخِّرين، وهو صرف اللفظ عن ظاهره، وإنما المقصود به التفسير، يقول: وأمَّا التأويل للآية نفسها؛ أي: تفسيرها فإنه جاء بأنَّ الوسط الخيار، هذا كلام ابن جرير - رحمه الله.
وأمَّا الإفراط: فهو لغةً: التقدُّم في مجاوزة الحدِّ في الأمر، جاء في معجم "مقاييس اللغة": يُقال: أفرط، إذا تجاوَز الحدَّ في الأمر، وفي "لسان العرب": الإفراط الإعجال والتقدُّم، والإفراط في الأمر: الإسراف، والإفراط: الزيادة على ما أُمِرت.
والتفريط لغةً: التقصير وإزالة الشيء عن مكانه، قال ابن فارس: وكذلك التفريط، وهو التقصير؛ لأنَّه قصَّر فيه، وقعَد به عن رُتبته التي هي له، وفرَّط في الشيء: ضيَّعه.
فالإفراط مثل الغلوِّ، فالغلوُّ لغةً: مجاوزة الحدِّ، غلا بالأمر يغلو غلوًّا؛ أي: جاوَز الحدَّ، وهو كذلك في الشرع.
قال - تعالى -: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ ﴾ [النساء: 171]، وقال: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ﴾ [المائدة: 77]؛ ومعناه: لا تتجاوَزُوا الحدَّ في اتِّباع الحق، ولا تطروا مَن أُمِرتُم بتَعظِيمه فتُبالِغوا فيه حتى تخرُجوا عن حيِّز النبوَّة إلى مَقام الألوهيَّة كما صنعتم في المسيح وهو نبيٌّ من الأنبياء فجعلتموه إلهًا من دون الله!
وفي السُّنَّة من حديث ابن عباس - رضِي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم غَداة العقبة وهو على ناقته: ((القُط لي حَصًى))، فلقطت له سبع حَصيات هُنَّ حصى الحذف، فجعل ينفضهنَّ في كفِّه، ويقول: ((أمثال هؤلاء فارموا)) ثم قال: ((يا أيها الناس، إياكم والغلوَّ في الدِّين؛ فإنَّه أهلك مَن كان قبلكم الغلوُّ في الدِّين)).
ومن هذه النصوص يتَّضح لنا أنَّ الإفراط وهو الغلو مجاوزة الحدِّ في المأمور به، وأنَّ التفريط هو التقصير وضَياع المأمور به، وأنَّ العدل هو الوسط بين ذلك، فلا إفراط ولا تفريط.
وإذا كان منهج سَلَفِ الأمَّة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسطًا، فلا إفراطَ ولا تفريط كما أنَّ منهجهم في جميع أمور الدِّين في العقائد والعبادات وسط، لا إفراط ولا تفريط خِلافًا للفرق الإسلاميَّة البعيدة في مَنهجها وسُلوكها عن منهج أهل السُّنَّة، القريبة منه والبعيدة؛ لأنَّ الفِرَقَ المخالفة لأهل السُّنَّة والجماعة الذين هم الطائفة المنصورة منها البعيدة البعدَ الكثير، ومنها القريب؛ ولذا فإنَّنا في المقارنة سنقتصرُ على موضوعنا - وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن سلف هذه الأمَّة، ومَن خالَفهم في هذا الباب – على منهج فرقتين من الفرق التي تصدَّت في زَعْمِها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل جعلَتْه إحداهما أصلاً من أصولها الخمسة التي ابتدعَتْها في دِين الله مُضاهيةً بها أركان الإسلام الخمسة.
ونبدأ في المقارنة بمنهج أهل السُّنَّة والجماعة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمخالفين لها؛ لأنَّ المقارنة في جميع الأمور كبيرة، ولا يتَّسِع لها المجال.
إنَّ أهل السُّنَّة والجماعة من سَلَفِ هذه الأمَّة لم يجعَلُوا لأنفُسهم أصولاً يرجعون إليها ويَأخُذون منها عَقائدهم وأخلاقهم ومَناهجهم غير الكتاب والسُّنَّة، مُستمدِّين ذلك من فهْم السلف الصالح لنُصوص الكتاب والسُّنَّة؛ فقُدوتهم ومَنهجهم مَنهج نبيِّهم الذي وصَفَه الله عزَّ وجلَّ بأنَّه على خُلُقٍ عظيم، فقد كان خُلُقُه القرآن كما قالت عائشة - رضي الله عنها - وقد وصَفَه ربُّه بالرأفة والرحمة والحِرص على ما ينفَعُ أمَّته ويُصلِح أحوالهم ومَآلهم في الدُّنيا والآخرة؛ قال - تعالى - في وصْفه: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، وأمره بالدعوة والتوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأسلوب الحسن والخلق الرفيع؛ فقال له - وهو أيضًا أمرٌ لأمَّته -: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].
وقد قام صلَّى الله عليه وسلَّم بتطبيق ذلك المنهج خيرَ قيامٍ من حين بعَثَه الله عزَّ وجلَّ رسولاً للناس كافَّة وأمَرَه بالتبليغ بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1- 2] إلى أنْ توفَّاه الله عزَّ وجلَّ وهو يقول في وصيَّته: ((اللهَ اللهَ، الصلاةَ الصلاةَ، وما ملكت أيمانكم))، آخِذًا لكلِّ مَقامٍ ما يُناسِبه، فقد يكونُ المقام بالكلمة، وقد يكون المقام بالجِهاد في سبيل الله عزَّ وجلَّ لإعلاء كلمة الله عزَّ وجلَّ وهذا الذي قام به رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه من بعده، وقد بدَأ بإنْذار أهله وعَشيرته ممتثلاً لأمر ربه: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، فقد دعا قومَه وعشيرتَه فعَمَّ وخَصَّ، وذلك بأسلوب الشَّفَقَةِ والرحمة قائلاً لهم جميعًا بِمَن فيهم أقرب الناس إليه: ((أنقِذُوا أنفُسَكم من النار، لا أُغنِي عنكم من الله شيئًا)).
وإذا رجعنا لسِيرته العَطِرة وسِيرته العمليَّة نجد فيها الأمثلة الواضحة التي تُبيِّن ذلك الأسلوب الحسَن الذي فيه الرِّفق واللين والرحمة حين يُنكِر المنكر فيجعل مرتكبَ ذلك المنكر يأخُذ الأمر الموجَّه إليه بكلِّ راحةٍ وفرح وسرور.
نذكُر أمثلة:
جاء في "صحيح البخاري" أنَّ أعرابيًّا جاء ودخَل المسجد، فبالَ فيه، وهذا أمرٌ منكر؛ ولهذا شدَّ الصحابة جميعًا النكيرَ عليه لأنَّه ارتكب منكرًا، فماذا قال لهم - صلَّى الله عليه وسلَّم؟
قال: ((دَعُوه، لا تُزرِموه، دَعُوه)) فبعد أنْ قضى بوله أُزِيلَ هذا المنكر بأمرٍ يسير هيِّن سهل، قال: ((ائتوني بذَنُوبٍ من ماءٍ))، فأخَذوا الذَّنوب وصبوه على النَّجاسة، فطهرت، ثم قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لذلك الرجل: ((يا أخي، هذه الأماكن لا تصلح لهذا))؛ يعني: هذا المكان الذي أنت فيه وهو مسجدٌ للصلاة ما يصلح للبول، البول والقاذورات محلُّها هناك.
ماذا قال ذلك الرجل؟
قال: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحَمْ معنا أحدًا، هذا الأسلوب الحسَن الذي دُعِيَ به ذلك الرجل جعَلَه يشعر هذا الشعور، ويتقبَّل هذا الأمر، ويدعو هذا الدعاء الذي تجاوَز فيه الحدَّ؛ لأنه لا يجوز الاعتداءُ في الدعاء، فالرسول صلَّى الله عليه وسلَّم قال له: ((لقد حجَّرت واسعًا))؛ يعني: رحمةُ الله تسَعُني وتسَعُك وتسَعُ الناس جميعًا، فالشاهد في هذا أنَّ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم ما قال للصحابة أنَّ الشيء الذي تُنكِرونه ليس بمنكرٍ، ولكن بيَّن لهم أنَّ تغييرهم له بهذا الأسلوب غير مناسب.
قصة أخرى:
جماعةٌ جاؤوا إلى إحدى زوجات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وسألوها عن عبادته، فأخبرتهم، فكأنهم تقالُّوها، وقالوا: هذه العبادة قليلة، والرسول صلَّى الله عليه وسلَّم قد غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فكيف بنا نحن! فكلُّ واحد أراد أنْ يلزم نفسه بشيءٍ من العبادة والتبتُّل، فعزَم أحدُهم على الصوم الدهرَ، والآخَر على قِيام الليل، والثالث على عدَم الزواج والانقِطاع للعبادة.
ولَمَّا بلَغ ذلك الخبرُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قام في جمْع الناس، فقال: ((ما بالُ أقوامٍ يقولون كذا وكذا)) ثم ذكَر القصَّة وقال: ((إنِّي أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوَّج النساء، فمَن رغب عن سنَّتي فليس منِّي)).
الذين قالوا هذا القول يسمَعون ويعرفون أنفُسَهم أنهم هم الذين قالوا ذلك، ثم نفس الكلام هذا ينفَعُ الآخَرين الذين يسمعون، ثم جاء في روايةٍ أخرى لنفس القصة أنَّه قال لهم: ((أنتُم الذين قلتُم كذا وكذا))، وقد بيَّن العلماء أنَّ هذا القول قاله فيما بينه وبينهم؛ ولهذا يُروَى عن الشافعيِّ وغيره أنَّ التشهير بالشخص بالمنكر ليس بنصيحةٍ، وإنما هو فضيحة؛ فالإنسان إذا وجَد شخصًا ارتكب منكرًا ونصَحَه فيما بينه وبينه تكون النصيحة مقبولةً، ولكن إذا شهر به على رُؤوس الأشهاد فإنَّه لا يقبل منه مثْل هذا، فينبغي للمسلم ولا سيَّما الداعية الآمِر بالمعروف والناهي عن المنكر، أنْ يتبع ذلك المنهج السليم الذي بَيَّنَه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولهذا نجدُ أنَّ عُلَماء السلف اعتنوا بهذا الجانب فألَّفُوا الكتب التي أشَرْنا إلى بعضها، ومنها كتاب شيخ الإسلام ابن تيميَّة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وقد بيَّن فيه المناهجَ والأساليب الجيِّدة التي يستفيدُ منها الداعية؛ حيث قال: الأمر بالمعروف بمعروفٍ والنهي عن المنكر بغير منكرٍ، فإذا نصَحت الإنسان بينك وبينه فهذا معروفٌ قدَّمت له ذلك المعروف بهذا الأسلوب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبغي أنْ يكون بغير مُنكرٍ، وإذا مدَدْت يدَك لتُغيِّر المنكر، فقد يمدُّ مَن تمدُّ يدك عليه يدَه إليك أيضًا، ويترتَّب على ذلك منكرٌ أكبر من الشيء الذي تريدُ أنْ تُغيِّره، فلا بُدَّ أن يكون الأمر بالمعروف بمعروفٍ، وأنْ يكون النهي عن المنكر بغير منكر.
وأمَّا المخالفون لمنهج السَّلَفِ لأهل السُّنَّة والجماعة في هذا المنهج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأوَّلهم الخوارج، وهم أوَّل فِرقةٍ أظهرت الخلاف، وفرَّقت جماعة المسلمين، وهم الذين خرجوا على عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وهم الذين خرَجوا على علي بن أبي طالب - رضِي الله عنه - بعد مَعركة صفين، ودليلُ ذلك أنهم قالوا لعليِّ بن أبي طالب؛ يعني: دليل أنهم خرجوا على عثمان قولهم لعلي بن أبي طالب: إنْ لم تعد الأشتر وهو قائد الجيش صنَعْنا بك ما صنعنا بعثمان، يعني هدَّدوه بهذا التهديد إنْ لم يعد الأشتر.
لأنَّ عليَّ بن أبي طالب ما كان راضيًا بالتحكيم، ولكنَّهم هم الذين أرغَمُوه عليه، وقالوا له هذا القول إن لم تعد الأشتر وإلا صنَعْنا بك ما صنعنا بعثمان، وهذا تجدونه في "الملل والنحل"، هذا الكلام الذي أقوله في صفحة مائة وأربعة عشر.
وبعد التحكيم الذي لم يسفرْ عن شيءٍ، وهنا لنا وقفةٌ عندَ قضيَّة التحكيم، فنجدُ طلاب العلم في كتب التاريخ وفي كتب الأدب ما يُسِيء إلى الصحابة، والحكمان عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري - رضي الله عنهما - اجتمعوا في دومة الجندل، وتفرَّقوا على لا شيء.
ولكن نجد في كتب التاريخ وكتب الأدب أنهم يقولون: لَمَّا اجتمع الحكمان حدَث بينهما التفاوُض فأحدهما قال عنه: إنَّه خدَّاع، والآخر قالوا عنه: إنَّه مُغفَّل.
أمَّا مَن وصَفُوه بالخديعة والمكر فهو عمرو بن العاص، ومَن وصفوه بالغَفلة فهو أبو موسى الأشعري، يقولون: إنَّ عمرو بن العاص طلَب من أبي موسى أنْ يقومَ ويُعلِن خلْع عليٍّ ومُعاوية؛ يعني: خلع الاثنين معًا، فيقولون: إنَّ أبا موسى قام وأخَذ عمامته وقال: إنِّي خلَعت عليًّا كما خلَعت عمامتي هذه، ثم تأتي التمثيليَّة من الجانب الآخَر فيقولون: إنَّ عمرو بن العاص أخَذ العمامة ورجعها على رأسه، وقال: ثبتُّ معاوية كما ثبتُّ عمامتي هذه، فمعنى ذلك أنَّ عمرو بن العاص خدَّاع، وأنَّ أبا موسى الأشعري مُغفَّل.
هذه الرواية التي نجدُها - أيها الإخوة - في كتب التاريخ هي من رواية أبي مخنف الرافضي المحترِق الكذَّاب، ولهذا نجدُ الرواية الأخرى ليس فيها هذه القصة في "البداية والنهاية".
ثم ممَّا يُبيِّن الكذب أنَّ معاوية - رضِي الله عنه - لم يكنْ في يوم من الأيَّام يُطالِب بالخلافة، ولم يقلْ في يومٍ من الأيَّام أنَّه أحقُّ بالخلافة من عليٍّ، وإنما كان يُطالِب بقتَلَة عثمان - رضِي الله عنه - فكيف تُحوَّل القضيَّة إلى خلعٍ وعدم خلعٍ؟!
معاوية لا يُطالِب بالخلافة، وإنما يُطالِب بالقتَلَة، وهذا ما يُبيِّن أنَّ الفكرة كلها كذبٌ، وهي من الرافضة الذين يريدون الطَّعن في الصحابة - رضي الله عنهم.
فأُنبِّه طلاب العِلم على أنَّ هذه القصة بهذا الأسلوب هي طَعْنٌ في الصحابة، وهي كذبٌ وافتراء عليهم، وأبو مخنف يعرفه طلاب العلم أنَّه رافضي محترق.
بعد التحكيم الذي لم يُسفِرْ عن شيءٍ كما قُلنا قالوا لعلي - رضِي الله عنه -: حكم الرجال، لا حُكم إلا لله؛ يعني: أنهم هم الآن يأمُرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فقالوا لعليٍّ: حكَّمت الرجال في كتاب الله، فقال علي - رضِي الله عنه -: كلمةُ حقٍّ أُرِيدَ بها باطلٌ؛ يعني: لا حكم إلا لله، والرجال هم يحكمون بما في كتاب الله، ويعرف طلاب العلم أنَّ ابنَ عباس لَمَّا ذهب يُناظِرهم، ووجدهم على تلك الحالة؛ أي: تلك العبادة حينما وصفهم بكثْرة العِبادة وأنَّ ركبة أحدهم مثل رُكَبِ البعير؛ يعني: من كثْرة الركوع، وكذلك السُّجود، ولكنَّهم يَعبُدون الله على جهلٍ، وهم بزَعْمِهم يُوجِّهون هذا الكلام لعليٍّ أنهم يأمُرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ثم انحازُوا إلى حرورة وهي قريةٌ بظهر الكوفة، وأعلَنُوا البراءة من علي - رضِي الله عنه - ومن الحكمَيْن، ومَن رضي بالتحكيم، بل وكفَّروهم بسبب ذلك.
والذي يعنينا في موضوعنا هذا من أمر الخوارج هو ذِكْرُ بعض آرائهم التي أعلَنُوها وبنوا مذهبَهم عليها؛ استِنادًا إلى قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبَيان السبب الذي دَعاهم إلى ذلك، فمن مَبادئهم الرئيسة تكفير علي بن أبي طالب - رضِي الله عنه - المشهود له بالجنَّة من المعصوم - صلَّى الله عليه وسلَّم.
والكافر لا يدخُل الجنَّة بالإجماع، وكذلك تكفير عثمان بن عفَّان ذي النورين المشهود له بالجنَّة، والذي تستحي منه ملائكة السماء كما جاء في الحديث الصحيح، ثم الحكمين ومَن رضي بالتحكيم من الصحابة - رضِي الله عنهم - لأنَّ ذلك الأمرَ عندهم مخالفةٌ لكتاب الله، وهذه معصيةٌ تُوجِب كُفرهم، والصحابة كما نعلم أنَّ الله عزَّ وجلَّ وعدَهُم جميعًا بالحسنى وهي الجنَّة؛ قال - تبارك تعالى -: ﴿ لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾ [الحديد: 10].
ومعلومٌ بنَصِّ الكتاب والسُّنَّة أنَّ الكافر لا يدخُل الجنَّة.
ثانيًا: قولهم بتكفير مرتكِب الكبيرة في الدُّنيا، وتخليده في النار في الآخِرة؛ لأنَّه ارتكب منكرًا يُوجِب كفره، وهي الكبيرة، وهذا المنكر الذي ارتكبه يُخرِجه من الدِّين.
ثالثًا: القول بالخروج على الإمام الجائر في نظَرهم، بل على مُرتكِب المعصية؛ لأنها عندهم هي الكُفر البواح، وهذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عندهم، وقد أعلنوا الخروج على الإمام عليٍّ وحارَبُوه كما هو معروف من التاريخ.
أمَّا سبب ذلك فهو جهلهم، وعدم فقههم في دِين الله.
الله عزَّ وجلَّ قال في كتابه: ﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122]، فهذه الآية تُبيِّن أنَّ المتصدِّي للدعوة لا ينبغي له ذلك حتى يتعلَّم ويتفقَّه هو أولاً في دِين الله، ثم يدعو إلى ما تعلَّم.
والرسول - عليه الصلاة والسلام - يقول: ((مَن يرد الله به خيرًا يُفقِّهه في الدِّين))، هؤلاء الخوارج جانَبُوا هذا الأمر، الصحابة الذين حضروا التنزيل، وسمعوا من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ونقَلُوا لنا هذا الدِّين بكامِله كتابًا وسُنَّةً، حكَموا عليهم بالكُفر، والمفروض أنْ يجلسوا عند أقدامهم، ويتَتلمَذُوا عليهم، ويَطلُبوا العلم عندهم، ولكنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد وصفهم للصحابة حينما قال ذلك الرجل للرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: اعدلْ فإنَّك لم تعدلْ، قال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((خبت وخسرت، فمَن يعدل إنْ لم أعدل))، فقال عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ائذن لي أنْ أضرب عنقه، ماذا قال الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ ما قال له: إنَّه يستحق أنْ يُقتل، وهو مرتدٌّ بهذا الكلام الذي يقوله للرسول صلَّى الله عليه وسلَّم ولكن قال له: ((دعْه)) اترُكه، وذكر التعليل.
أولاً: ذكر وصفهم؛ أي: وصف الخوارج، فوصفهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالجهل بالقُرآن، وعدم فِقههم فيه؛ حيث قال لأصحابه حينما قال له ذلك الرجل: اعدلْ فإنَّك لم تعدلْ، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((خبت وخسرت، فمَن يعدل إنْ لم أعدلْ))، فقال عمر - رضِي الله عنه -: دَعْنِي اضرب عنقَه، فقال له: ((دعْه، فإنَّ له أصحابًا يحقر أحدكم صَلاته مع صَلاتهم، وصِيامه مع صِيامهم، يقرَؤُون القُرآن لا يتجاوَز حناجرهم، أو تراقِيَهم، يمرقون من الإسلام مُروق السَّهم من الرَّمِيَّة)) الحديث؛ رواه مسلم في "صحيحه" كتاب الزكاة.
فهؤلاء لم يفقهوا من القُرآن شيئًا إلا تلاوته، ومن أين لهم أنْ يفقهوا وهم لم يحضروا عند الصحابة ويطلبوا العلم عليهم.
وقد عبَّر ابن عمر - رضي الله عنهما - عن جهلهم - أي: عن جهل الخوارج - كما في "صحيح البخاري" في كتاب المرتدين باب قتل الخوارج، قال: إنَّ هؤلاء عمدوا إلى آياتٍ نزَلتْ في الكفار، فطبَّقوها على المؤمنين، فهم بجهْلهم ادَّعوا أنَّ عليَّ بن أبي طالب خالَف، ولا بُدَّ من تغيير ذلك المنكر الذي ارتكبه، وعملوا ما عملوا بجهْلهم.
والحديث عن جهل الخوارج بنصوص الكتاب والسُّنَّة يَطُول ولكنَّني أردت التنبيهَ عليه لأنَّه قاسمٌ مُشترَك بين أولئك وبين بعض المعاصِرين الذين ينحون مَنحاهم، ويأخُذون بجوانب من أفكارهم، والقاسم المشترك هو الجهل وعدم الفقه في الدِّين، نحن لا نتحدَّث عن الخوارج في أمرٍ تاريخي، وننبش كما يقولون ما تحت التراب أو في القبور، نحن نتكلَّم في أمرٍ واقع المسلمين وحالهم، ولكنَّ مذهب الخوارج ومنهجهم الذي كان في ذلك الزمان هو موجودٌ الآن، التكفير بالمعاصي موجودٌ، مرتكب الكبيرة وتخليده في النار موجودٌ، الخروج موجودٌ.
كلُّ ما قالوه موجودٌ، ولكنْ بأساليب مختلفة، والرسول صلَّى الله عليه وسلَّم كما ذكَر في الحديث يقول: ((مَن يُرِدِ الله به خيرًا يُفقِّهه في الدِّين)).
ومن هنا نجدُ أنَّ كثيرًا من الكُتَّاب المعاصرين وقَعُوا فيما وقَع فيه أولئك، فالكاتب قد يكونُ عنده عاطفة إسلاميَّة، ولكنَّ دراسته ليست شرعيَّة، ولم يحضرْ عند علماء الفقه في الدِّين، وإنما درَس دراسة إمَّا مدنيَّة، دراسة معاصرة، ثم هو يحبُّ الإسلام، وعنده عاطفةٌ جيَّاشة، فيكتُب بعض الأشياء التي يقرَؤُها الشاب؛ وهي في الحقيقة مُؤثِّرة في توجيه الشباب؛ لأنَّ هؤلاء الشباب ليس عندهم فقهٌ في الدِّين، ولم يحضروا عند العلماء، بل تجدُ الأساليب التي اتُّخذتْ لأنْ يَحُول أولئك بين الشباب وبين العلماء، فيُنفِّرونهم منهم بأساليب مختلفة، بأنَّ هؤلاء لا يفهَمُون واقع الأمَّة، ولا يعرفون ما يُحاكُ لها، وإنما هم مُقتصِرون على الكتب المعيَّنة، بل بعضهم قال: إنَّه ليس عندهم إلا الحيض والنِّفاس، هكذا قالوا، هذا قالوه علنًا وكتَبُوه، ووجهوا به أسئلةً في بعض المحاضرات، فهذا القول الذي يحدُث من أولئك هو تزهيدٌ لطلاب العلم في الحضور لأولئك العُلَماء الذين يُفقِّهونهم في دِينهم مثلما زهد الخوارج في عدم التفقُّه على الصحابة - رضوان الله عليهم - ولو تفقَّهوا عليهم لما قالوا ما قالوه، وهؤلاء لو تفقَّهوا على العلماء الذين يعرفون واقع الأمَّة، ويعرفون الشريعة الإسلاميَّة، ويعرفون أحكامها، وما هي المصالح التي تترتَّب على ما يُقال، وما هي المفاسد التي تترتَّب على ما يُقال.
وحينما يقرأ الشباب هذه الكتابات الحماسيَّة أيضًا يُشاهِدون الواقع؛ أي: يشاهدون الظُّلم ويشاهدون التجاوزات التي تحدُث، فيحدث عندهم ردُّ الفعل الذي لم يربطوه بالنصوص الشرعيَّة.
أقرأ عليكم نصًّا، هذا النص كتَبَه كاتبٌ مُعاصِر دفعته عاطفته الدينيَّة إلى إصدار أحكام عامَّة تشمل المجتمع كله دون استِثناء، وهذا غلطٌ فاحش من صاحبه؛ لأنَّ الشباب من طلاب العلم الذين عندهم العاطفة الجيَّاشة، ويريدون أنْ ينشروا الإسلام، وتكون له هَيْمَنته وكلمته كما كان في عهد النبوَّة والخلفاء من بعده، إذا قرأت هذا المقطع من بعض الكتب المتداولة وفيها قول الكاتب وهو يتحدَّث عن المجتمع الإسلامي كله - عفا الله عنا وعنه - قال: "البشريَّة بجملتها بما فيها هؤلاء الذين يُردِّدون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمة لا إله إلا الله بلا مَدلولٍ ولا واقع، وهؤلاء أثقل إثمًا وأشدُّ عذابًا يوم القيامة؛ لأنهم ارتدُّوا إلى عِبادة العباد من بعد ما تبيَّن لهم الهدى، ومن بعد أنْ كانوا في دين الله، ثم قال: فما أحوج العصبة المسلمة اليوم أنْ تقف طويلاً أمامَ هذه الآيات[2].
سمعنا النص، البشريَّة كلها ارتدَّت بما فيها الذين يُؤذِّنون في اليوم خمس مرَّات: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله، رسول الله ماذا قال؟ قال: ((أُمِرتُ أنْ أُقاتل الناسَ حتى يشهَدُوا أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله)).
وفي قصَّة أسامة مع الأنصاري الذي كان يُشارِكه في مُطارَدة المشرِك في غزوة الحرقات، وقال ذلك الرجل: لا إله إلا الله حينما رفع عليه السيف، فكفَّ عنه الأنصاري لأنَّه علم أنَّ هذه الكلمة عصَمت دمه، وأسامة قتله، فلمَّا بلغ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال له: ((أقتلته بعد أنْ قال: لا إله إلا الله))، قال: إنما قالها تعوُّذًا - يعني: خوفًا من السيف - قال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((هلا شقَقْتَ عن قلبه حتى تعلم أنَّه قالها تعوُّذًا))، فمِثل هذا النصِّ الذي يسطر، ويقرَؤُه الشباب الذي عِنده الحماسة، ولا يعلم النصوص الشرعيَّة وهي كما سمعنا أنَّ مَن قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لا يجوز تكفيره إذا ارتكب خطأ حتى تُقام عليه الحجَّة، وتُزال عنه الشُّبهة، ولكنَّ الحكم على البشريَّة كلها بأسْرها بما فيها المؤذِّنون بأنهم ارتدُّوا عن لا إله إلا الله فإنَّ هذا له حُكم غلط، وهذا يصيبُ الشباب بخيبة أمَل، ويندَفِعون إلى أنْ يقتلوا هؤلاء لأنهم كفَّار، ثم أيضًا ممَّا يدلُّ على أنَّ هذا الأسلوب أسلوبٌ عاطفي، وليس أسلوبًا علميًّا ولم يُبْنَ على قواعد شرعيَّة، لا من كتابٍ ولا من سُنَّة، قوله: فالعصبة المسلمة، مع أنَّه قال البشريَّة كلها ارتدَّت فأين هذه العصبة المسلمة، فهمنا من كَلامه أنَّه يقول: البشريَّة كلها ارتدَّت، ثم يقول: فالعصبة المسلمة، إذًا بَقِي من البشريَّة ناس (عصبة) على الإسلام، فهذا الحكم العام - الذي يصدر عن عاطفةٍ - ينبغي أنْ يُنظَر فيه، ولا ينبغي للشباب أنْ يندفعوا لمثْل هذه الأمور؛ لأنها في الحقيقة تدفَعهم إلى أنْ يُهلِكوا أنفسهم، ويُهلِكوا الآخرين، فهذا الحكم العام على البشريَّة كلها بما فيها الذين يُردِّدون على المآذن كلمة لا إله إلا الله، وأنهم مُرتدُّون، وأشدُّ عَذابًا يوم القيامة؛ لأنهم ارتدُّوا إلى عِبادة العباد، كيف ينظُر الشباب المسلم إلى المجتمعات المسلمة، فالكاتب عمَّم حُكمَه على البشريَّة كلها؛ والسبب لأنَّه لا يعرف النُّصوص الشرعيَّة التي تمنَع هذا الحكم المطلق، فرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول في الأحاديث المتواترة التي سمعتم ذكرها: ((أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهَدُوا ألا الله إلا الله، وأنِّي رسول الله...)) الحديث.
أمَّا البشريَّة كلها فما ارتدَّت، حاشا وكلا، وإنما تحدُث الردَّة من بعضهم، نحن لا نمنع أنْ يكون هناك أناسٌ مرتدُّون عن دين الله عزَّ وجلَّ لكنَّ الحكم على البشريَّة كلها بهذا الحكم لا يجوز، وهناك قاعدةٌ ذكرها شيخ الإسلام ابن تيميَّة وهي قوله في "الفتاوى" في المجلد الثاني عشر في رسالةٍ أسماها "الكيلانيَّة"، وربما يكون في الصفحة 466، قال: "مَن ثبت إسلامُه بيقين فلا يزول عنه إلا بيقين، ولا يزول عنه بالشكِّ، بل لا يزول عنه حتى تُقام عليه الحجَّة، وتُزال عنه الشبهة"؛ لأنه يُفرِّق بين القول والقائل.
فحَكَمَ هذا الأديب على المجتمع كله لأنَّه لا يُفرِّق بين القول والقائل.
القول قد يكون كُفرًا والقائل ليس بكافر، وقول شيخ الإسلام هذا مبنيٌّ على قواعد صحيحة؛ لأنَّ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم نهى عن التكفير كما في حديث عبدالله بن عمر المتفق عليه: ((مَن قال لأخيه: كافر، فإنْ لم يكن كذلك وإلا رجعت عليه))، فينبغي للمسلم أنْ يتجنَّب مثل هذا التعبير العام.
وطلاب العلم يعلمون محنة القول بخلق القرآن على أنَّ المعتزلة ومَن معهم لبَّسوا على المأمون وعلى المعتصم حتى اعتنق هذه الفكرة، وهي القول بأنَّ القرآن مخلوق، وأهل السُّنَّة والجماعة يقولون: القرآن كلام الله منه بدا وإليه يعودُ.
وتجدُ في كتب أهل السُّنَّة جميعًا هذا التعبير العام، مَن قال: القرآن مخلوق، فهو كافرٌ، وتجدون في كتب أهل السُّنَّة أنهم لم يقولوا عن المعتزلة أنهم كفار، مع أنَّ المعتزلة يقولون بخلق القرآن، فلم يقولوا: إنَّ المعتزلة كفَّار، ولكنهم كفَّرُوا الشخص المعيَّن الذي أُقِيمت عليه الحجَّة وأُزِيلت عنه الشُّبهة، يقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: إنَّ الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السُّنَّة والجماعة الذي واجَه تلك المحنة وقُتِل فيها مَن قُتِل، وضُرِب مَن ضُرِب، وسُجِن فيها مَن سُجِن، وجد أولئك الذين يَدْعُون إلى البدعة التي هي الكُفر؛ لأنَّ القول بأنَّ القُرآن مخلوق كفرٌ، ثم هم يثيبون مَن يقبل تلك الدعوة؛ أي: مَن قبل قولهم أعطوه المال وأعطوه الوظيفة، وتقبل شهادته، وإذا كان مأسورًا يفكُّون أسره، أمَّا مَن امتنع عن ذلك فإمَّا أنْ يقتلوه كما قُتِلٌ عددٌ من العلماء، وإمَّا أنْ يضربوه الضربَ المبرح كما ضربوا الإمامَ أحمد، وإمَّا أن يسجنوه ولا يعطونه وظيفةً، ولا يقبَلون شَهادته، ولا يفكُّون أسْره إذا كان مأسورًا عند الكفَّار حتى يأتي مَن يمتحنه، فمَن قال: القرآن مخلوق، دفعوا عنه الفدية وأخرجوه، ومَن قال: غير مخلوق، قال: اتركوه لأنَّه كافر في رأيهم، ومع هذا ومع أنَّ المعتصم هو الذي باشَر الضرب، واعتقد تلك العقيدة وأرادوا أنْ يُطبِّقوها وينفذوها على المسلمين بالقوَّة، ماذا قال الإمام أحمد عن المأمون وعن المعتصم؟
استغفَرَ لهم، دعا لهم؛ ولهذا يقول ابن تيميَّة: لو كانوا عنده كُفَّارًا لما استغفر لهم؛ لأنَّ الاستغفارَ للكافر لا يجوزُ بنصِّ الكتاب والسُّنَّة، فهو لم يُكفِّرهم مع أنهم دعوا إلى تلك البدعة التي هي الكُفر؛ لأنَّه يقول: إنَّ أولئك عندهم شبهةٌ عقليَّة لم يستطيعوا أنْ يتخلَّصوا منها، بل قال أكثر من ذلك في ردِّه على البكري في الرسالة المعروفة باسم "الاستغاثة" أنَّه قال: كنت أقول للجهمية الذين ينكرون علوَّ الله عزَّ وجلَّ وتعرفون مذهبهم، يُنكِرون العلوَّ، والذهبيُّ ألَّف كتابه المسمى بـ"العلو" في الردِّ على أولئك الذين ينكرون علوَّ الله في خلقه فـ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5] كما أخبر عن نفسه في سبع آيات، وكذلك الأحاديث الكثيرة وليلة الإسراء والمعراج، والأدلَّة كثيرة لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، متواترةٌ في علو الله عزَّ وجلَّ كتابًا وسنَّةً وفطرةً، يقول: كنت أقول لشيوخهم: لو قلت بقولكم لكفرتُ، وأنتم عندي لستُمْ بكفار.
يقول: قولكم هذا أنا أعلم أنَّه كفرٌ، ولو قلت به لأكوننَّ كافرًا، ولكن أنتم عندي لستُم بكفَّار، ثم قال: إنَّ عندهم شبهةً عقليَّةً لم يستطيعوا أن يتخلَّصوا منها، وهذا الحكم في الأمور الخفيَّة التي لا يفهَمُ الحكم فيها إلا أهل العلم، بخلاف الأمور الظاهرة؛ كترك الصلاة مثلاً، وجحْد الصلاة والحج، ذكر هذا الحافظ ابن منده في كتاب "الإيمان" 2 /362 باب 44، وتقدَّمت الإشارة إليه في الأمور الظاهرة المشهورة التي لكلِّ مسلم إذا رأى مَن يُخالِفها ينكر عليه بالأسلوب الحسن.
فالشاهد من هذا أنَّ المسلم يجبُ عليه أنْ يقفَ مع النصوص من الكتاب والسُّنَّة، ولا نُكفِّر إلا مَن كفَّره الله ورسوله، ولا نُفسِّق إلا مَن فسَّقَه الله ورسوله؛ لأنَّ هذا الحكم لله ولرسوله وليس لشهوات البشَر وما يريدون أنْ يعملوا.
الفرقة الثانية: هم المعتزلة، والمعتزلة هم الذين ألقوا إلى المعتصم والمأمون بتلك الفكرة، وقَبِلاها منهم، ثم جعَلُوا لأنفُسهم أصولاً خمسةً يرجعون إليها، الأصول الخمسة موجودةٌ في كتاب اسمه "الأصول الخمسة"؛ للقاضي عبد الجبار المعتزلي، هذه الأصول الخمسة منها:
الأصل الأول: وسمَّوه التوحيد؛ وهو نفي الصفات عن الله عزَّ وجلَّ فهذا يُسمُّونه توحيدًا وفي عُرفهم يسمُّونه التنزيه.
الأصل الثاني: المنزلة بين المنزلتين، وهو أنَّ مَن ارتكب معصية خرَج من الإيمان ولم يَدخُل في الكُفر، بل يقفُ في الطريق، ثم أعطَوْه حُكمًا في الدُّنيا وهو أنَّه يُعامَل معاملةَ المسلم، وإذا مات يُغسَّل ويُكفَّن ويُصلَّى عليه ويرثُ ويورث، أمَّا إذا مات فيُطبِّقون عليه الأصل الثالث من أصولهم الخمسة، وهو إنفاذ الوعيد؛ أي: إنهم يُوجِبون على الله عزَّ وجلَّ أنَّه إنْ توعَّد على ذنبٍ بإدخال صاحِبِه النارَ أنْ يُدخِله النار، وإذا أدخَلَه النار ليس عندهم شفاعةٌ لإخراج العُصاة بل يخلد فيها، فهو لا يخرُج من النار؛ إذًا هم وافَقوا الخوارج في الحكم على مرتكب الكبيرة في الآخرة بأنَّه خالدٌ مخلَّد في النار.
الأصل الرابع: سموه العدل، والعدل عندهم مَعناه: أنَّ العبد يخلق أفعاله، فيقولون: لو أنَّ الله يخلق أفعال العبد كما قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 96]، كما يقول أهل السُّنَّة ولكنهم يقولون: إذا كان الله يخلق أفعاله فكيف يخلق الفعل في العبد ثم يُعاقبه عليه؟ هذا ظلمٌ، إذًا ما هو العدل عندهم؟
يقولون: العدل هو التنزيه لله عن الظُّلم، ولا يكون كذلك إلا أنْ نقول: إنَّ العبد يخلق فِعلَه، ومعنى ذلك: أنهم جعَلُوا مع الله شُرَكاء في توحيد الربوبيَّة الذي لم يشركْ فيه أحدٌ، بل كلُّ الأمم آمَنتْ بهذا التوحيد إلا فرعون فقد أنكَر ذلك، ولكن أنكره بلسانه لا بقلبه؛ قال - تعالى -: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14]، حينما قال: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38]، قاله وهو كاذبٌ يعلم أنَّه عبد وأنه مَربوب، وأنَّ له خالقًا وهو الله، قال: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14]، فالشاهد على أنهم جعلوا كلَّ الناس شركاء لله - تبارك وتعالى - في هذا القسم من التوحيد، وهو الخلق والإيجاد، فالعبد يخلق فعله.
الأصل الخامس: وهو موضوعنا في هذه المحاضرة، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جعَلُوه أصلاً من أصولهم، وهو عند أهل السُّنَّة أصلٌ من الأصول، لكن يُدعَى له كما سمعنا بالأسلوب الحسن المناسب، لكن عندهم فسَّروه بالخروج على الحاكم الجائر.
وقد قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في هذا الموضوع في الحاكم الجائر قال: ((وإنْ ضرَب ظهرك وأخَذ مالك))، وشدَّد في عدَم الخروج عليه لأنَّ المفاسد المترتِّبة على المصالح التي نريدُها أعظم من المفاسد التي تحدُث، والرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إلا أنْ ترَوْا كُفرًا بَواحًا عندكم فيه من الله برهان))، فعندهم الجور كفرٌ وبرهان، لكنْ عند أهل السُّنَّة والجماعة كما في "صحيح البخاري": ((إلا أنْ ترَوْا كُفرًا بَواحًا عندكم فيه من الله برهان))، والحديث الآخر: ((ما صلوا)).
ثم العلماء الربانيين الذين يعرفون ما يصلح الأمَّة، وما يفيدها في دُنياها وآخِرتها، قالوا: حتى لو وجد الكفر البواح، ولم تكُن هناك القوَّة التي تُمكِّن من إزالة ذلك الكافر بالأسلوب الحسن المناسب فلا يجوزُ الخروج، لماذا؟ لأنَّ ذلك الحاكم وإنْ كان بهذه الصورة فهو لا يمكن أنْ يترُك الكرسي ويقول لهم: تعالوا خُذوه وأنا متنازلٌ، ذلك لا يمكن، بل عنده زبانيةٌ وقوَّته، والذين معه كلهم سيفتكون بأولئك، وسيصير سفك دماء وخراب الديار أكثر من المصلحة التي نريدُ أنْ نُحقِّقها، أمَّا إذا أمكن إزاحته بدون سفك دماء ويدون تخريبٍ للديار والأموال، فهذا هو المطلوب، وإن لم يمكن فلا يجوزُ ذلك.
نختم حديثَنا هذا بما سمعتم، ونرجو من الله عزَّ وجلَّ أنْ ينفعنا بما سمعنا، وأن يُعلِّمنا ما جهلنا، وألا يُسلِّط علينا بذنوبنا مَن لا يخافُ الله فينا ولا يرحمنا.
وأعودُ للكلام السابق فأشكر الإخوة القائمين على هذه الجمعيَّة في دعوتهم للإخوة الذين شارَكوا في هذه الموضوعات المتنوِّعة التي تشمل أمور الإسلام جميعًا؛ عقيدةً وعبادةً ومعاملةً، كما أشكر الإخوة الحضور الذين حضروا ليسمعوا هذه الكلمات، ومعذرة إنْ أطلتُ عليهم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم، وآخِر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.
[1] أبو السعود 2 /71، المنار - المنار 4 /64.
[2] انظر: "في ظلال القرآن" ج2 /1057، الطبعة الشرعية سنة 23، 1415 هـ.