أرشيف المقالات

مرحلة السطو على الوعي والذاكرة

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
من جديد نتوقف اليوم كما في كل عام أمام ذكرى النكبة وهذه المرة الحادية والستون، لنستحضر أهم وأخطر العناوين الفلسطينية، من الاغتصاب وإقامة الدولة الصهيونية إلى التهويد الشامل للزمان والمكان الفلسطيني، إلى حروب الاجتياحات والمحارق المفتوحة حتى اللحظة ضد الشعب العربي الفلسطيني، إلى الهجوم الجارف على ذكرى وذاكرة النكبة كقضية ومصطلح ومضامين وتداعيات، فربما لم تشهد القضية والنكبة والذكرى والذاكرة والحقوق العربية الفلسطينية المشروعة في فلسطين، هجوماً صهيونياً بلدوزرياً تجريفياً شاملاً بهدف الإجهاز عليها،كما تشهده في هذه الأيام التي تحل فيها الذكرى الحادية والستون للنكبة واغتصاب فلسطين.
ولا نبالغ إن وثقنا هنا أن تلك الدولة الصهيونية تعتقد أنها وصلت إلى مرحلة محو القضية والنكبة في الذاكرة الوطنية الفلسطينية والعربية بعد أن سطت على الوطن الفلسطيني وصلت مخططات تهويدها للزمان والمكان الفلسطيني إلى نهايتها، فالجغرافيا الفلسطينية باتت بكاملها تقريبا تحت أنياب الاستيطان والتهويد.
والصراع أصبح إلى حد كبير على الرواية والذكرى والذاكرة والوعي الجمعي، وتشن تلك الدولة مدججة بكل أسلحتها ومنها الإدارة الأميركية هجوماً استراتيجياً على الذاكرة بهدف تفكيك القضية ومصادرة أحلام العودة والاستقلال والتخلص من الاحتلال.
يقول الدكتور وليد سيف في مقالة كتبها في ذكرى النكبة: «إن الطرف الأقوى يفرض تعريفاته وتأويلاته على عقول الآخرين، فلا يكتفي الإسرائيلي بتحريف الرواية التاريخية عن سلب الوطن الفلسطيني بل يوغل أكثر ليحاول مصادرة أحلام التحرير والعودة وإعادة تعريفها لتعني الأوهام غير القابلة للتحقق»، ويؤكد أنه: « ليس أفظع من اغتصاب الأرض إلا محاولات اغتصاب التاريخ والرواية، ولا أشد من التهجير القسري من الوطن، إلا محاولات تهجير الوطن من الذاكرة..
وليس أخطر من الصراع على الأرض إلا الصراع على المعاني»
.
ويقول أورن يفتاحئيل (أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة بن غوريون): «إن مشاهد القتل والدمار في غزة فظيعة» وإن «هذه الحرب ـ الأخيرة ـ استمرار للمشروع والسلوك الإقليمي الإسرائيلي الذي تبنى هدفاً متشدداً ووحشياً يتمثل في إسكات الزمن الفلسطيني، أي محو التاريخ الكامل لهذه البلاد...».
إسكات التاريخ يشكل أيضاً محواً للمكان الفلسطيني ومعه الحقوق السياسية الكاملة..
القائمة بمشروعيتها وليس بمنة من "إسرائيل"..
إن الغزو الإسرائيلي لغزة استمرار لاستراتيجية مديدة السنوات من إنكار ومحو وشطب أي ذكر لتاريخ هذا المكان في العصور الأخيرة، ومشروع المحو هذا ينخرط فيه الجميع تقريباً: السياسيون والفنانون ووسائل الإعلام والباحثون في الجامعات والمثقفون الإسرائيليون.
واستناداً إلى قول عجوز السياسة الإسرائيلية شمعون بيريز أحد رواد الاستيطان والبرنامج النووي الإسرائيلي، الذي ما زال يكرر حتى اليوم مقولة غولدا مائير بأنه :«لم يكن هناك شعب فلسطيني في الـ 67»، فإن المؤسسة الإسرائيلية بكاملها تعمل لتكريس ذلك عبر إسكات التاريخ الفلسطيني.
ما تؤكده دراسة إسرائيلية جديدة حينما تستخلص «أن إسرائيل تمعن في إقصاء تاريخ النكبة»، وتوضح الدكتورة نوغة كدمان في دراستها المعنونة بـ«على جنبات الطريق وهوامش الوعي: إقصاء القرى الفلسطينية المهجرة من التخاطب والحوار في إسرائيل»، «أن السلطات الإسرائيلية تواصل بشكل منهجي طمس المعالم العربية الإسلامية للبلاد من التاريخ والذاكرة الجماعية بعد محوها من الجغرافيا»، وتؤكد «المنهجية الإسرائيلية المعتمدة منذ النكبة في محو تسميات الأمكنة الفلسطينية أو عبرنتها، وإزالتها من الخرائط الرسمية وتجاهل تاريخها».
وفي هذا السياق حصراً..
سياق بلدوزر التجريف للذكرى والذاكرة الوطنية الجمعية الفلسطينية العربية، يقولون هم ويراهنون على «أن الكبار يموتون والصغار ينسون»، وكان موشيه ديان قد كثف هذا المضمون مبكراً في مقابلة أجرتها معه مجلة «دير شبيغل» الألمانية في أكتوبر1971 قائلاً: «في نوفمبر عام 1947 رفض العرب قرار التقسيم (الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة) وفي عام 1949 (بعد التوقيع على اتفاقيات الهدنة) عادوا إلى المطالبة بتنفيذه».
«وفي عام 1955 - والكلام لديان نقلاً عن دراسة للدكتور عبدالقادر ياسين ـ كانت جميع الدول العربية المعنية ترفض اتفاقيات الهدنة، وبعد حرب حزيران 1967 عادوا إلى المطالبة بانسحاب إسرائيل إلى حدود الرابع من يونيو».
«ولن أفاجأ ـ يؤكد ديان ـ بعد حرب أخرى تسيطر فيها إسرائيل على مناطق عربية جديدة في الأردن أو سوريا إذا ما طالبوا بالعودة إلى الحدود الحالية..».
إذن ـ في الصميم والجوهر ـ إنما يتحدث ديان عن حالة التفكك والعجز والاستخذاء العربي أولاً، ثم يتحدث عن ضعف الذاكرة العربية وحالة عدم الاكتراث واللامبالاة من جهة ثانية، بينما يمكننا أن نستشف من أقواله من جهة ثالثة أن الصراع الحقيقي ليس فقط على الأرض المحتلة وإنما على الرواية والأحلام والذكرى والذاكرة.
في هذه الأيام..
أيام ما يسمى زوراً وكذباً وتضليلاً «خيار السلام والتطبيع والتعايش» و«رياح التغيير الإيجابي ـ كما يقول بيريز» وأيام «نوافذ الفرص التاريخية للآخر» تمتد وتتسع مساحة عمل البلدوزر بصورة مريحة لتصل إلى ذكرى النكبة..
وذاكرتها..
وإلى الوعي الجمعي القومي العربي.
ولكن«السياسة تستطيع أن تغتصب التاريخ، أما أن تلغيه فلا، كما يوثق الكاتب الفلسطيني علي جرادات» مضيفاً: «وتستطيع أن تسطو على الجغرافيا، أما أن تشطبها فذاك المستحيل بعينه، وتستطيع أن تعبث بالديموغرافيا، أما أن تدثرها فذاك نادراً ما حصل».
ما ينطق به لسان حال كل عربي فلسطيني على امتداد مساحة الوطن والشتات وكأنه يقول: «سأبقى دائماً أحفر جميع فصول مأساتي وكل مراحل النكبة..من الحبة..
إلى القبة على زيتونة في ساحة الدار..»
.
وذلك حتى تحين اللحظة التي قال فيها شاعر فلسطين محمود درويش: «أيها المارون بين الكلمات العابرة آن لكم أن تنصرفوا وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا...
فاخرجوا من أرضنا من برنا...
من بحرنا من قمحنا...
من ملحنا...
من جرحنا من كل شيء، واخرجوا من ذكريات الذاكرة »
. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مركز الفلسطيني للإعلام

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢