إيضاح وتبيان لليلة النصف من شعبان
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
إيضاح وتبيان لليلة النصف من شعبانالحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن شهر شعبان هو الشهر الذي يقدم رمضان، وله مزيَّة أن النبي عليه الصلاة والسلام، كان يكثر الصوم فيه؛ كما روت ذلك السيدة عائشة، وفيه ليلة النصف منه، وقد اضطربت فيها أقوال الناس وأحوالهم.
وهذا تعليق مختصر مُعتصَر، أسأل الله أن يكون خالصًا صوابًا، وأن يجعل الله فيه النفع.
أقول: أمَّا فضلها:
فقد ورد في فضلها عدة أحاديث، منها ما هو صالح للاحتِجاج، ومنها ما هو ضعيف لا يُحتجُّ به، ومنها ما هو موضوع باطل.
فمما هو صالح للاحتجاج: ما رواه البيهقي في "شُعب الإيمان" عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان ليلة النصف من شعبان، اطَّلع الله إلى خلقه، فيغفر للمؤمنين، ويُملي للكافرين، ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدَعوه))؛ رواه الطبراني، وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع برقم: ٧٧١، وهذا لفظ البيهقي في "شعب الإيمان" مع خلاف يسير في آخره وهو أن في رواية البيهقي: ((ويؤخر أهل الحقد كما هُم))، وقد حكم عليه الإمام ابن الجوزي بالوضع في كتابه (العلل المتناهية)، ونقل قوله الحافظ ابن حجر وأقرَّه.
وأما رواية الطبراني وابن حبان عن معاذ، فقد قال فيها المنذري في "الترغيب والترهيب": إسناده لا بأس به، وهي: ((يطلع الله في ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجَميع خلقه إلا لمُشرِك أو مُشاحن)).
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه، إلا لمُشرك أو مُشاحن))؛ رواه ابن ماجه، ورواه ابن حبان عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
وقد جاء كلام لبعض التابِعين فيها؛ منه:
قال عطاء بن يسار: "ما مِن ليلة بعد ليلة القدر أفضل من ليلة النصف من شعبان، يتنزَّل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيغفر لعباده كلهم، إلا لمشرك أو مشاجر أو قاطع رحم".
قلت: وهو مُقتبس من الحديث المرفوع، فيغني عنه.
ومما يَدخل في الفضل العام، ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيغفر الله لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: أنظِروا هذين حتى يَصطَلِحا))؛ رواه مسلم.
أما قيامها:
فقد استحب بعض الفقهاء قيام هذه الليلة لتعرُّض المؤمن إلى رحمة الله ومغفرته.
وقد ذكر الإمام ابن تيمية: أن طوائف من السلف كانوا يقومونها، وإنما كره بعض السلف الاجتماع لها في المسجد، وعدُّوا ذلك من البدع.
قلت: وهذا يَدخُل في الفضل العام، لا تخصيصها بصلاة مخصوصة، وكيفية مخصوصة؛ وإنما لما ورَد فيها من الفضل العام، فيكون الإنسان أقرب إلى الله في تجليه تبارك وتعالى، مثل: الصلاة في آخر الليل.
وإن ترك الإنسان قيامها؛ خوفًا مِن استحباب شيء لم يَرِد عن النبي عليه الصلاة والسلام، فحسَنٌ، بل هو الألزم والأعزم، والله أعلم.
وأما ما يفعله كثير من المسلمين من إحداث صلاة فيها بعدد مخصوص وقراءة مخصوصة، فهو بدعة مُحدَثة؛ يقول الإمام النووي: "الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب، وهي ثِنتا عشرة ركعة تُصلَّى بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة في رجب، وصلاة ليلة نصف شعبان مائة ركعة، وهاتان الصلاتان بدعتان، ومنكران قبيحان، ولا يغترُّ بذكرهما في كتاب (قوت القلوب)، و(إحياء علوم الدين)، ولا بالحديث المذكور فيهما؛ فإن كل ذلك باطل" اهـ.
من (المجموع).
والحديث الذي أشار إليه النووي رحمه الله هو ما يَرْوونه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من صلى في هذه الليلة خمس عشرة من شعبان مائة ركعة، أرسل الله إليه مائة ملك؛ ثلاثون يبشرونه بالجنة، وثلاثون يؤمِّنونه من عذاب النار، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا، وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان))؛ وهو حديث باطل موضوع؛ كما قال الإمام النووي رحمه الله.
ولم يَثبُت في تخصيص هذه الليلة بصلاة معيَّنة، أو دعاء معين - شيءٌ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه.
وأول ظهور لذلك كان من بعض التابعين.
قال ابن رجب رحمه الله في "لطائف المعارف": "وليلة النصف من شعبان، كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان، ومكحول، ولقمان بن عامر وغيرهم، يُعظِّمونها ويَجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخَذ الناس فضلها وتعظيمها.
وقد قيل: إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيليَّة، فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان، اختلف الناس في ذلك: فمنهم من قَبِلَه منهم ووافَقَهم على تعظيمها، منهم طائفة من عُبَّاد أهل البصرة وغيرهم، وأنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز".
وقال ابن تيمية رحمه الله: "وأما ليلة النصف من شعبان، ففيها فضل، وكان في السلف مَن يُصلي فيها، لكن الاجتماع فيها لإحيائها في المساجد بدعة".
وقال الشافعي رحمه الله: "بلَغَنا أن الدعاء يُستجاب في خمس ليالٍ: ليلة الجمعة، والعيدين، وأول رجب، ونصف شعبان".
أما صيام يومها، فيُسنُّ على أنه من الأيام البيض الثلاثة، وهي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، لا على أنه يوم النصف من شعبان؛ فإن حديث الصيام فيه لا يَصلُح للاحتجاج، بل هو حديث موضوع، وهو ما جاء عن علي: "إذا كان ليلة النصف من شعبان، فقوموا ليلتَها، وصوموا يومها؛ فإن الله تبارك وتعالى يَنزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا، فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له، ألا من مسترزق فأرزقه، ألا من مُبتَلًى فأعافيه، ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر"، وهو مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ رواه ابن ماجه، وفي سنده أبو بكر بن عبدالله بن محمد بن أبي سبرة القرشي العامري، رمَوْه بالوضع؛ كذا في (التقريب).
وقال الذهبي في (ميزان الاعتدال): ضعَّفه البخاري وغيره، وينظر: تخريج الإحياء (١ / ١٦٤)، وتذكرة الموضوعات (١ / ٣١٢)، وضعيف ابن ماجه برقم (٢٩٤)، والسلسلة الضعيفة: برقم (2132)، ومشكاة المصابيح: برقم (١٣٠٨)، وضعيف الترغيب: برقم (٦٢٣).
وقبل أن أختم: أدعو نفسي، وبني جنسي؛ أن نمحوَ ونُزيل، ونَغفِرَ ونغسل، ما علق بقلوبنا من أدران وأضغان، وشحناء وبغضاء، وتقاطع وتدابر؛ حتى تُدركنا مغفرة الله في هذه الليلة الفضيلة، بل وفي جميع الليالي والأيام.
وهذا هو الواجب على المسلمين ﴿ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29]، فلا غلَّ ولا حقد، ولا كراهية ولا حسد، بل ﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 54].
وهذا هو سبيل النصر والتمكين: التوحيد والتوحُّد، وعدم الاختلاف والتنازع: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46].
وقال الأول:
تأبَى الرِّماح إذا اجتمعْنَ تكسُّرًا ♦♦♦ وإذا انفرَدْنَ تكسَّرت آحادَا
هذا ما تطلَّب تحريره وتحبيره وتقريره؛ بيانًا للناس، وتذكرة وتبصرة، والله أعلى وأولى، وأعلم وأحكم، وأجمل وأكمل، وأعطى وأجزل.
كتبه: وليد بن عبده الوصابي.
ليلة النصف من شعبان، لعام ١٤٣٧