أعلام الأدب
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
هوميروس
للأستاذ دريني خشبة
(إلى أستاذي الجليل أحمد حسن الزيات أهدي هذه الفصول)
لزمت هوميروس أعواماً ثلاثة أدرسه وأترجمه وألخصه فما ضقت به، بل ازددت له حباً وبه إعجاباً. وكنت كلما تركته فترةً أحسست شوقاً عجيباً إلى أدبه يجذبني ويلح على فأعود إليه فيخيل إلى أنه قد شرع يغني لي ويطلعني على صور غريبة رائعة من فنه الجميل لم أكن قد ظفرت بها من قبل، فأكب عليه عوداً على بدء، لأطوي الأحقاب الطويلة الماضية، ولأجلس في شرفة الزمان فأطل على أخيل وأجاممنون ونسطور وأجاكس وديوميدز وأوديسيوس في جانب المسرح، وعلى بريام وباريس وأندروماك وهيلين في الجانب الآخر، وبينهما ذاك الضجيج وذاك النقع، ومن حولهما آلهة الأولمب يشتركون في الوغى ينصرون أو يخذلون ما أجمل هوميروس! لقد اختلف المؤرخون فيه اختلافاً شديداً، لكن اختلافهم لا قيمة له ما دامت الإلياذة والأوديسة، وما دمنا لا نجد بداً من أن نعترف لهما بمؤلف استطاع أن يسجل شخصيته في كلتيهما وأن يطبعها بطابعه الخاص.
.
فلم لا يكون المؤلف هوميروس؟ وإن لم يكن هو مؤلفهما فماذا يضير الأدب إذا سمينا هذا المؤلف هوميروس؟ وهؤلاء المؤرخون الذين ينكرونه بغير حجُة ولا برهان إلا أنهم يستكثرون على عقل بشري واحد هذا الإنتاج الضخم والمحصول الكبير الذي يكوّن أدب أمة، والذي نهل منه شعراؤها وشعراء الأمم الأخرى في كل زمان ومكان، وما يزالون ينهلون.
.
هؤلاء المنكرون لهوميروس لم لا يصدقون هيرودوتس الذي هو أبو التاريخ والذي ذكر أن بينه وبين هوميروس أربعمائة سنة؟ ألا يكون التواتر صحيحاً في أربعة قرون ويكون صحيحاً في عشراتها؟ إن تاريخ هيرودوتس هو أصدق ما وصلنا من التاريخ القديم، وقد ذكر لنا هوميروس وذكر ملحمتيه، بل حدد يوم وفاته، وقد سمع المنشدين في كل فج من اليونان يرددون بالتواتر أغاريد من الإلياذة ومن الأوديسة ومن غير الإلياذة والأوديسة، وكان هيرودوتس خبيراً بأدب بلاده وبتاريخ هذا الأدب، وكان يعرف أن الإلياذة والأوديسة لم تكونا معروفتين بحالهما الذي تواتره الناس عن هوميروس، قبل هوميروس.
حقاً لقد كانت الأساطير التي حشدها هوميروس في ملحمتيه معروفة قبله بأجيال، لكنه كان أول من نظمهما في هذا العقد الجميل الرائع الذي قبس منه إسخيلوس وسوفوكلس، والذي حام حوله يوربيدز، والذي ظل مورداً لجميع شعراء الكلاسيك من غير استثناء لقد كتب هيرودوتس تاريخه في زمن استقرار الحضارة اليونانية ونضوجها.
ونحن نلمح في تاريخه روح النقد والتمحيص، والبحث والتحقيق، فهو إذا روى لم يثبت إلا ما يراه متفقاً عليه من الناس، فإذا رآهم يتفقون على شيء لا يطمئن إليه ضميره لم يبال أن يقول بعد إثبات ما اتفقوا عليه: أما رأيي فهو كيت، أو أنا أعتقد كذا.
ولم يكن يبالي كذلك أن يدلي برأيه في الآلهة، فقد صرح أنه لا يدري من أين نشأوا، وأن شيئاً عن ذواتهم لم يكن معروفاً إلى زمنه.
وذهب إلى أبعد من هذا فقرر أنهم جميعاً من صنع هوميروس وهسيود اللذين وضعا الإغريق ذلك الثبت الطويل من الآلهة وأنصاف الآلهة ثم راحا يوزعان عليهم ذلك الاختصاص العجيب من مقاليد البر والبحر والأفلاك والهواء والنور والظلمة والحكمة والفنون.
وقد رفض ما ذهب إليه الشعراء من أن هذا التوزيع وذاك اللاهوت بطقوسه التي تعارفها الناس كانا موجودين قبل هوميروس وهسيود.
وأكد أهن الميثولوجيا اليونانية كلها لم تعرف إلا بعدهما.
إذا كان هيرودوتس قد ولد سمنة 484 قبل الميلاد، فليس يبعد أن يكون هوميروس قد ولد سنه 884 أو حوالي ذلك.
أو أنه قد عاش بالفعل في القرنين التاسع والثامن.
أما ما قيل غير ذلك فلم تقم على إثباته حجة، ولم يؤيده برهان وتتنازع فخر مولده مدائن شتى.
على أن الذي حققه المؤرخون ويؤيده ما جاء في ترتيلة أبولو أنه من مدينة خيوس الواقعة في الشاطئ الشرقي من الجزيرة المسماة باسمها والقريبة من مدينة أزمير، وهو لهذا إيونيوي (من إيونيا) بدليل أن أقدم نسختين من الإلياذة والأوديسة مكتوبتان بلغة إيونيا ويختلف المؤرخون في اسمه وفي معناه، فيذكرون له أسماء معقدة لا داعي لذكرها هنا.
ثم يفسرون أسمه فيقولون إنه يعني (أعمى) وإلى ذلك ذهب هيرودوتس وهو يعلل ذلك بأن الاسم (هوميروس) مركب من هو - مي - أورون - ومعناها: الرجل الأعمى.
ويتعصب هيرودوتس لهذا التأويل بالرغم من وجود تفاسير أُخر قد تكون أقرب إلى المقول من تفسيره هو.
ذلك أن بعض القدماء يقولون: إن كلمة هوميروس قد تكون مشتقة من (هوميريدا).
وهي اسم لإحدى العشائر التي كانت تقطن جزيرة خيوس آنفة الذكر، وقد قطنوها برغمهم لأنهم كانوا أسرى حرب (رهائن) نفوا إلى تلك الجهة.
وذاك بدليل أن كلمة هوميروس نفسها تحمل معنى أسير تحت الفدية أي رهينة حرب ولم يضمن هوميروس إحدى ملحمتيه الخالدتين اسمه كما صنع هسيود في منظومته العظيمة (ميلاد الآلهة وتناسلها) فقد ذكر في مقدمتها اسمه الصريح.
ثم ذكر في قصيدته الأخرى (الأرجا كيف هاجر من كيمي إلى أسكرا، وكثيراً من حياته الخاصة وحياة أهله.
ولو قد صنع هوميروس مثل هذا، أو شيئاً من هذا لما وقع المؤرخون في هذا الخلط الكثير عن شخصه وعن زمانه وعن حقيقته. ولم يشر قط إلى السبب الذي ذهب ببصره؛ ويؤكد المؤرخون أنه قضى شطراً عظيماً من عمره بصيراً سليم العينين بحيث استطاع أن يقرأ ويكتب ويسجل كثيراً مما نظم.
ويذهب بعضهم إلى أنه بدأ نظم ملحمتيه - أو إحداهما - وهو بصير معافى وكل ما جاء في ذلك لا يعدو إشارة طارئة في آخر ترتيلة أبولو يخاطب فيها العذارى اللائى كن يغين إلى إنشاده: (إذا سألهن أيما ظاعن أي المنشدين أحب إليهن وآثر إلى قلوبهن أن يجبن على الفور إنه رجل أعمى من قطان خيوس الجبوب المعزاء وإن أغانيه يخلدان آخر الزمان!) وحتى هذه الفقرة لم تسلم من تشكك المؤرخين في قائلها، هل هو رواية هوميروس، أو هو هوميروس نفسه! هذا ولقد كان للإغريق أدبهم وأشعارهم وأغانيهم وموسيقاهم قبل هوميروس.
وليس معقولاً أن هوميروس هو الذي بدأ ذلك جميعاً، لأن ذاك الكمال أو ما يقرب من الكمال الذي جاء في ملحمتيه لا يمكن أن يأتي طفرة.
وإذا صدقنا هيرودوتس يكون هوميروس صاحب فضلين على سكان هيلاس - اليونان - كافة.
فهو الذي صنع آلهتهم وأنشأ بذلك لاهوتهم الوثني العجيب، ووزع ما في الحياتين الأولى والآخرة على هذه الآلهة وتلكم الأرباب.
ثم هو الذي بدأ نظم الملاحم الطوال ودبجها هذا التدبيج المتألق البراق، مستغلا أساطيرهم القديمة، وذاك الفوكلور الساذج الذي يفيض به تاريخهم القديم والثابت أن هوميروس لم ينظم الإلياذة والأوديسة للقراءة والاستمتاع الأدبي، بل هو قد نظمهما للتلاوة والإنشاد في المحافل ومجامع السمر، إذ كان من دأب دويلات بحر إيجة استدعاء الشعراء والمنشدين والمغنين لإحياء أفراحهم وبعث المرح في حفلاتهم.
وقد حفظ لنا الأثر أسماء أورفيوس وميوزيوس ولينوس وغيرهم من شعراء عصر البطولة ومنشديه وموسيقيه.
الذين سبقوا هوميروس إلى نظم الخرافات وقرض الأساطير، متأثرين في ذلك بقصص الشعوب السامية في مصر والشام وأساطير الفرس والبابليين.
ولم يحفظ لنا التاريخ شيئاً من آثار هؤلاء الشعراء، اللهم إلا نتقاً مما كان يستشهد به اللغويون مؤلفو المراجع للتدليل على صحة كلمة أو سلامة استعمال، وهو شيء يسير ليس فيه غناء وقد سهلت اللغة اليونانية القديمة على شعرائها الكلاسيكيين عملهم، وجعلت نظم الملاحم الطوال من أيسر الأعمال الأدبية وأهونها عليهم.
ذلك أنها لغة واسعة شاسعة استوعبت لهجات كثيرة لمختلف القبائل والبطون والأفخاذ الضاربة في شطئان البحر الإيجي، وقد تهيأ لها بذلك ما تهيأ للسان قريش من كثرة المترادفات وليونة التعبيرات وتعددها ولم يكن نظم الملاحم للتلاوة يستدعي فنية الأسلوب أو صقله بحيث يحتاج مجهوداً أو يلتفت فيه الناظم إلى ما يلتفت إليه شعراؤنا من التهذيب والتطرية البيانية والزخرف الصناعي.
وقد يحسب قارئ أدبهم أنه من عبث أطفال كما قال قدماء المصريين مرة لصولون.
وقد كان المصريون معذورين في قولهم هذا، فلقد كانوا يعنون بالجد الصارم من أمور الحياة أكثر مما كانوا يلتفتون إلى هذا القريض الطويل الشعبي يهرف به الشعراء والمغنون. والحق أن روح الطفولة شائعة في ملاحم اليونان كلها ولم تظهر العناية القليلة بالأسلوب إلا في شعراء الدرامة، ثم في شعراء الإسكندرية بعد ذلك.
وهذه الروح واضحة في هوميروس وضوحا شديدا، فهو لا يعني إلا بالحادثة، وكثيرا ما يتحاشى (الرتوش) والتهاويل المملة والزخارف اللغوية التي لا تتهيأ إلا في الأثر الأدبي الذي يؤلف للقراءة لا للإنشاد أو للتمثيل.
وهو لهذا يحصر انتباه سامعيه في صميم القصة، وقل أن يشرد بهم خارجها كما يصنع شعراء الرومانتيك.
وقل كذلك أن يستعمل الأصباغ لتطرية بيانه كيما يستر فيه ضعفاً أو يعوض السامع بفخامة العبارة تفاهة الموضوع، فهو دائماً يلتزم الروح ولا يلتفت إلى دمام الجسم إلا بقدر، وإلا في حدود النظم الذي أخذ به نفسه في الملحمة وفي ذلك يقول الأستاذ بورا: (إنه يكتب - أو ينظم - لكل الناس وليس لطبقة بعينها من الناس) وقد ساعد هوميروس تقلبه في البلاد في هضم اللهجات المخلفة في الأصقاع المتدانية اليوم - المتنائية يومئذ - التي زارها.
ونحسب أنه من أجل ذلك تنازعت فخر مولده هذه المدائن السبع التي فعلت ذلك، فقد كان يقيم حقبة بكل منها فينشد إلياذته - ولما يكن قد نظم الأوديسة - ويغنيها بلهجة الجهة التي هو مقيم فيها فيتقن إنشادها بهذه اللهجة إتقاناً لا يدع أثارة من الشك في أنه من أهلها.
وهنا ملاحظة طريفة انتبه إليها كل من برتون راسكو الأديب الناقد الأمريكي وجلبرت موري - المؤرخ الثقة في الأدب اليوناني - ذلك أنه لا بد أن يكون هوميروس قد نظم الإلياذة مرتين.
.
تُتلى إحداهما في بلدان الشاطئ الأسيوي وفيها يُغَلّب أبطال طروادة على أبطال هيلاس.
.
وتتُلى الأخرى في بلدان هيلاس، وفيها يُغَلّب أبطال هيلاس على أبطال طروادة ويُظفرهم بهم.
وبغير هذا لم يكن يستطيع أن ينشد إلياذةً واحدة في كلا الشاطئين.
ولو صح أنه فعل لثار به الأهلون بفعل العصبية ولمزقوه إربْاً.
لأنه كيف يترك أخيلا مثلاً يقتل هكتور وهو ينشد هذا الشعر لأحلاف هكتور وأهله.
وكيف يسيغ أن يترك هكتور يقتل أخيلا إذا كان الإنشاد للملأ من مواطني أخيل؟ غير أن هذه الملاحظة ما تزال تفتقر إلى ما يثبتها، لأن الإلياذة التي بأيدينا هي التي كانت تنشد وتغنى في هيلاس (البقية في العدد القادم) دريني خشبة