قيام الأمة الإسلامية والأسس التي شيدت عليها
مدة
قراءة المادة :
31 دقائق
.
قيام الأمة الإسلامية والأسس التي شُيدت عليهاكان وصولُ الرسول - عليه الصلاة والسلام- إلى المدينةِ إيذانًا بتحوُّل عميق في سير الدعوة الإسلامية، فقد صار للدعوة رجالٌ يدافعون عنها بسيوفِهم، ووطنٌ تأوي إليه، وتعلن فيه عن مبادئها، وتطبق شعائرها في حريةٍ وأمنٍ، وكان على الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يبدأ في تشييدِ صَرْحِ الأمة التي تُطَبِّق الدعوة الإسلامية التي يدعو إليها، وتكون معبِّرة عن مبادئ هذه الدعوة، وإذا كانت الدعوة قد قامت على توحيد الله وعدم الإشراك به، وعلى إقامة الأُخُوَّة بين المؤمنين، وإيجاد المجتمع المتعاون المترابط والدفاع عنه.
فإننا نجد أن مبادئ الدعوة الإسلامية هي الأُسُس التي قامت عليها الأمة الإسلامية:
فلِتوحيد الله وعدم الإشراك به وما يتطلبه أمر المسلمين في دينهم ودنياهم، أُقيم المسجد.
ولربط المسلمين بعضهم ببعض كان نظام المؤاخاة.
ولإيجاد المجتمع المترابط المتعاون الآمِن، كانت المعاهدة مع غير المسلمين.
وللدفاع عن الأمة الإسلامية ودعوتها ضدَّ أعدائها، كان فرضُ الجهاد، وتكوينُ الجيشِ الإسلامي الذي يبذل المُهَج في سبيل حماية الدعوة وأتباعها، ورد كيد المتربِّصين إلى نُحُورِهم.
1- بناء المسجد:
كان من أول الأعمال التي قام بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فورَ وصولِه إلى المدينة بناءُ المسجد النبويِّ في المدينة.
وقد اختار له المَوضِع الذي بَرَكَت فيه ناقتُه، وكان مكانًا يُجَفَّف فيه التمر، ويصلِّي فيه -صلى الله عليه وسلم- رجال من المسلمين، وكان مملوكًا لغلامين من الأنصار، فدعاهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسَاوَمهما على بيعه؛ ليتخذَه مسجدًا، فقالا: بل نَهِبُه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى ابتاعه منهما بعشرةِ دنانير، وأمر أبا بكر أن يعطهما ذلك [1].
وكان في المكان نَخْل، وحُفَر، وبعض قبور المشركين، فأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالنخل فقُطِع، وبقبور المشركين فنُبِشت، وبالحُفَر فسُوِّيَت، وصفَّوا النخل في قِبْلَة المسجد - والقِبْلَة إذا ذاك بيتُ المقدس - وجعل طولَه مما يلي القبلةَ إلى مؤخرِه مائة ذراع، والجانبين مثل ذلك، وجعل أساسَه ثلاثةَ أَذْرُع، وسقَفه من الجريد، يكاد الواقف أن يمس سقفه بيده، وله ثلاثة أبواب: باب في مؤخرة، وباب يقال له: باب الرحمة، والباب الذي يدخل منه رسول الله - عليه الصلاة والسلام - وأنشأ إلى جانب المسجد غُرَفًا خاصة لسُكانه، وسكن أهل بيته، ثم انتقل إلى بيته بعد شهر من وصوله إلى المدينة، قضاه في منزل أبي أيوب الأنصاري[2]، وقد اشترك الرسول - عليه السلام - مع أصحابه في بناء المسجد، وفي حمل اللَّبِن والحجارة بنفسه، وقد زاد ذلك من حماس المسلمين وجدِّهم في البناء، فجلعوا يُرَوِّحون عن أنفسهم بهذا الغناء.
اللهمَّ لا عَيْشَ إلا عَيْش الآخِرهْ
فَاغْفِرْ للأنصار والمُهاجِرهْ
وارتجز بعضه مستنكفًا أن يجلس والرسول مستمر في العمل:
لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ
لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ المُضَلِّلُ
واستمر المسلمون في العمل، حتى تَمَّ بناء المسجد الذي يربط المؤمنين بربهم في الصلاة.
كما كان المسجد مَقَرًّا للرسول - عليه السلام - يجتمع فيه بالمسلمين، ويعلِّمهم ويُهَذِّبهم، ويَتَداول معهم في شؤونهم الداخلية والخارجية، ويشاورهم ويناقشهم فيما يَعِنُّ لهم من أمور، وفيه كان يعقد مجلس القضاء للفصل بين المتخاصمين، ويعقد فيه الأَلْوِية للحملات التي يوجِّهها، ويستقبل فيه الوفود القادمة عليه، كما كان جزء منه - ويسمى الصُّفَّة = مَأْوًى لِمَن لا مسكنَ له.
وبتعبير آخر يمكن أن نقول: إن المسجد كان مقرًّا للنظر في مصالح المسلمين، ومصالح الدولة التي تحتاجها آنذاك، وذلك يبيِّن لنا المكانة السامية التي كان يَشْغَلها المسجد؛ ولذا كان ترتيبه الأول في أسس بناء الأمة الإسلامية[3].
2 - المؤاخاة:
استقبل أهل المدينة إخوانهم المهاجرين فَرِحين مستبشرين عندما وصلوا إلى المدينة، وبذلوا كل ما يستطيعون لراحتهم، وإزالة آثار الوَحْشَة لاغترابهم عن بلدهم، ومفارقتهم لوطنهم وأرضهم، فأحيوهم وأثاروهم على أنفسهم، وضربوا مثلاً عاليًا وصادقًا في ذلك، كان جديرًا بأن يَظَلَّ خالدًا على مدى الدهر، لا تبليه الأيام ولا تؤثر فيه السنون، شاهدًا على حُسن استقبالهم للمهاجرين، والمسارعة إلى إكرامهم وتفضيلهم على أنفسهم.
وما زال الأنصار هم القدوة الطيبة والأسوة الحسنة في استقبال أي مهاجر أو لاجئ على مدى التاريخ، إذا كان هناك من يريد أن يتمثَّل بهم في استقبال اللاجئين، وما أكثرهم في هذه الأيام، ولكن هَيْهات، وقد سجَّل القرآن الكريم في وضوح مدى السماحة والكرم والحب في استقبال الأنصار للمهاجرين، بقول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
وقد آخى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار على مبادئ الحق والمساواة، وأن يتوارثوا بعد الممات دون ذوي الأرحام، وتم ذلك بين تسعين رجلاً: خمسة وأربعون من المهاجرين، وخمسة وأربعون من الأنصار، فكان "أبو بكر الصديق" وخارجة بن زهير أخوين، وعمر بن الخطاب وعِتبان بن مالك أخوين، وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ أخوين...
إلخ.
وقد ظلَّ التوارث بينهما بهذه الأخوة إلى أن كانت غزوة بدر، ونزل قول الله - تعالى-: ﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 75].
فنَسَخت هذه الآيةُ ما كان قبلها، وانقطعت المؤاخاة في الميراث، ورجع كل إنسان إلى نسبه ووَرِثه ذوو رَحِمه"[4].
ومع أن الأنصار قد بذلوا كل ما يملكون، وحاولوا أن يقاسمهم المهاجرون أموالهم، إلا أن المهاجرين تعفَّفوا، وحاولوا أن يكسبوا قوْتَهم بعرق جبينهم، فانطلق كثير منهم بضربٍ في ميدان التجارة، وكانوا بارعين فيه، واتَّجه البعض الآخر إلى الزِّرَاعة، يعمل في أرض الأنصار مُزَارعةً مع مُلاَّكها، وحاول كل مهاجر أن يجد له عملاً يتكسب منه؛ حتى لا يكون عالة على غيره، فالإسلام دين عمل ولا مكان فيه لخامل أو كسلان، فعن أبي هريرة، قال: "قالت الأنصار - أي للرسول صلى الله عليه وسلم -: اقسِم بيننا وبين إخواننا النخيلَ، قال: ((لا))، قالوا: أفتَكْفُوننا المؤونة ونَشْرَككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا"[5].
ومن الممكن أن نقول: إن الأمة الإسلامية - في البداية عقب الهجرة - قامت على المؤاخاة في كل شيء حتى في التوارث، وكأنَّ الإخاء أدَّى إلى قيام أسرة متكاملة من المهاجرين والأنصاري في ظل نظام الأُخُوَّة الكاملة.
وبعد غزوة بدر أُلْغِي نظام أُخُوَّة الأسرة الكاملة بالنسبة للتوارث حَسَب الشريعة الإسلامية، وبَقِي الإخاء والتعاون حَسَب مبادئ الأُخُوَّة الإسلامية العامة التي ذكرها الله في قوله -تعالى-: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10]، وقوله: ﴿ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾ [النساء: 33].
من النصر، والرِّفادة، والنصيحة، وقد ذهب الميراث، وبَقِي التواصي له[6].
ثم كان هناك تعاونٌ مفروضٌ على كل القادرين من المسلمين، ليس فقط من الأخ لأخيه في نظام المؤاخاة، وإنما للعاجزين جميعًا الذين تضمُّهم الأمة الإسلامية، وقد تمثَّل ذلك في نظام الزكاة التي فُرِضت بمقادير خاصة في الذهب والفضة، والزروع والثمار، والأنعام والتجارة؛ لكي تسدَّ مطالب أفراد المجتمع المحتاجين.
وبذلك حقَّق المبدأ الثاني - وهو نظام المؤاخاة - التكافل والتعاون بين أفراد الأمة الإسلامية، وزادها قوَّة وتماسكًا وترابطًا في بداية نشأتها، وحَفِظ لها نظام ُالزكاة الكرامةَ والعِزَّةَ على مدى الأيام.
3- المعاهدة بين المسلمين واليهود:
لقد كان المشركون في مكة يَعْتَدُون على المسلمين، ويصادرون حريتهم، ويمنعونهم من تأدية عبادتهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ثم كانت هجرة المسلمين إلى المدينة، التي لم تكن مقرًّا للمسلمين وحدهم - وإنما كان يعيش معهم فيها المشركون من الأوس والخزرج الذين ظلُّوا على شركهم، واليهود الذين ظلُّوا على دينهم، ما عدا أفرادًا لحقوا بهم فآمنوا به؛ كعبدالله بن سَلاَم، ثم نشأت جماعة رابعة من أهل المدينة أظهرت الإسلام وأخفت الكفر، وهم المنافقون.
حَرَص الرسول - عليه الصلاة والسلام - من أجل المحافظة على الدعوة وصلاح الأمة، أن يضع مبادئ؛ لكي يلتزم بها أفراد هذا المجتمع المؤلَّف من هذه الجماعات المختلفة في عقائدها وأهدافها؛ حتى لا تكون المدينة مجالاً للصراع والتنافر، وليعرف كل فرد حقوقه وواجباته؛ حتى يتمكن المسلمون من السير قُدمًا بدعوتهم، ولتَصل إلى غاياتها المنشودة.
ومن أجل ذلك كانت المعاهدات بين المسلمين وبين اليهود وغيرهم؛ لإيجاد صلة وَشِيجة بينهم، فيتعاونون على صيانة المدينة والدفاع عنها، والحيلولة دون تسرُّب الشقاق إليها.
وقد جاء في نصوص المعاهدة: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب محمدٍ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلَحِق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، وإن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحًا - مثقلاً بالدَّين والعيال - بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل، وإن المؤمنين المتَّقين على مَن بَغَى منهم أو ابتغى دسيعةَ ظُلمٍ، أو إثمٍ، أو عدوان، أو فسادٍ بين المؤمنين، وإن أيديَهم عليه جميعًا ولو كان ولد أحدهم، وإن ذمَّة الله واحدة يُجِير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالى بعض دون الناس، وإنه مَن تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وإن سَلِم المؤمنين واحدةٌ، لا يُسَالَم مؤمنٌ دون مؤمنٍ في قتال في سبيل الله، إلا على سواءٍ وعدلٍ بينهم، وإنه لا يُجِير مشرك مالاً لقريش، ولا نفسًا، ولا يَحُول دونه على مؤمن، وإنه من اعتبط مؤمنًا قتلاً عن بيِّنة، فإنه قَوَدٌ به، إلا أن يرضى وليُّ المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يَحِل لهم إلا قيام عليه، وإنه لا يَحِل لمؤمن أقرَّ بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر مُحْدِثًا ولا يُؤْوِيه، وأنه من نصره أو آواه، فإن عليه لعنةَ الله وغضبَه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرفٌ ولا عدلٌ، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مَرَدَّه إلى الله - عز وجل - وإلى محمد -صلى الله عليه وسلم- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا مُحارَبين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظَلَم وأَثِم، فإنه لا يُوتِغُ - يهلك - إلا نفسه وأهل بيته، وإن ليهود بني النجار، وليهود بني الحارث، وليهود بني ساعدة، وليهود جُشَم، وليهود بني الأوس، وليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن لبني الشَّطِيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن بطانة يهود كأنفسهم، وإن على اليهود نفقتَهم، وعلى المسلمين نفقتَهم، وإن بينهم النصرَ على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصحَ والنصيحةَ، والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا مُحارَبين، وإن يثرب حرامٌ جوفُها لأهل هذه الصحيفة، وإن الله على أَتْقَى ما في هذه الصحيفة وأبرِّه، وإنه لا تُجَار قريش ولا مَن نصرها، وإن بينهم النصرَ على من دَهَم يثرب، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرِّه، وإنه لا يَحُول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وإنه مَن خرج آمِنٌ، ومَن قعد آمِنٌ بالمدينة، إلا من ظَلَم أو أَثِم، وإن الله جارٌ لمن أبرَّ واتَّقى، ومحمد رسول الله[7].
كانت هذه بعضُ نصوصِ المعاهَدة المعقودة بين المسلمين وبين اليهود المذكورين، وقد عُقِدت معاهَدات مُماثِلة بعد ذلك مع يهود بني قَيْنُقاع، الذين يقيمون داخل المدينة، ويهود بني النَّضِير، وبني قُرَيْظَة الذين يقيمون خارج المدينة.
ونصوص هذه المعاهَدة كما يظهر لنا تحقِّق الأمن والسكينة، والكرامة الإنسانية لأفراد المجتمع، وتدل على أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان يهدف إلى أن يُقيم مجتمعًا متعاوِنًا متكافلاً على البر والتقوى، في السِّلْم والحرب، وأن يقضي على كل ما يضر المجتمع أو يشيع فيه الاضطراب أو الفجور، كما تعطي المعاهَدة للفرد الحرية في العقيدة، وفي الرأي، وفي الإقامة والرحيل بشرط ألاَّ يَضُر الفرد بغيره، وأعلنت المعاهَدة الحرب على قريش وعلى مَن يجيرها أو ينصرها، وأحلَّت دماءها وأموالها، ودَعَت إلى تكاتف أهل المدينة في وقت الحرب؛ لدفع المُغِيرين عليها..
إلخ.
وهكذا تَفْسَح الأمة الإسلامية صدرَها لغيرها من الأديان الأخرى، بأن يعيش في كَنَفِها ويكون له مثلُ مالِها من الحقوق والوجبات، ما دام لا يَضُر بمصلحة الأمة أو يؤدي إلى إيذائها.
ولكنْ هل وَفَى اليهود بما في هذه المعاهَدة وصانوا نصوصَها، وتكاتفوا مع المسلمين في بناء وصيانة المجتمع الجديد؟ كلاَّ، فلم يَتَخَلَّ اليهود عن طبيعة الغدر فيهم، فخانوا المعاهَدة، ونقضوا نصوصَها، بل تآمروا على المدينة وعلى سلامة الإسلام والمسلمين؛ مما أدَّى إلى إراحة المدينة منهم، وتخليصها من شرهم إلى غير رجعة، وذلك بإجلائهم عنها أو قتلِهم.
4 - الجهاد في سبيل الله:
إذا كان الدفاع عند الأوطان يقتضي قيامَ الجيش القوي الذي يحمي حِيَاض الوطن، فإن قيام الأمة الإسلامية في المدينة كان يقتضي وجود قوَّة تحميها وتَذُود عن كِيانها كيد الأعداء؛ ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال: 60].
ولذلك كان الجهاد في سبيل الله من أسس قيام الأمة الإسلامية.
وإذا كان البعض يحاول أن يعد ذلك من المطاعن التي يوجهها إلى الدعوة الإسلامية، متذرِّعًا بأنها دعوة جهاد وحرب، وأنها قامت على القتال في سبيل نشر مبادئها، فإن ذلك يدعونا إلى أن نعرف إلى أي مدًى تمسَّك الداعي بالحرص على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، دون أن يسل سيفًا أو يَقذف سهمًا، وكم عانت في سبيل ذلك من آلام وأهوال؟ وكم استطال عليها الطواغيت وعبَثوا بأتباعها ومعتنقيها!
وحقائق اضطهاد الدعوة وأتباعها في مكة تملأ الأسفار، ويندى لها جبين الحر الكريم، فقد مكث الرسول والمسلمون في مكة ثلاثة عشر عامًا، لاقى فيها المسلمون وخاصة الضعفاء منهم ما يشيب لهوله الولدان من أذى قريش، فقد صادروا حرياتهم وعقائدهم، وآذوا أبدانهم، وحاولوا إكراههم على الكفر وترْك الإسلام بعد أن شرح الله صدورهم له، ولكنهم تحمَّلوا في سبيل إيمانهم ما لا يستطيع أحد أن يتحمله على المدى الطويل.
ثم بعد ذلك كان تآمر قريش في دار الندوة على قتل الرسول، ومحاولة تنفيذ ذلك ليلة الهجرة، وتعقُّبه أثناء هجرته، ورصْدهم الدِّيات لمن يقتله أو يأتي به حيًّا أو ميتًا، وذلك إعلان صريح للحرب على الدعوة وصاحبها، فهل هناك أحد يعترض على الدعوة التي لم يقاتل صاحبها ولم يشرع سيفًا، ولم يطعن برمح، إلا بعد أن أُهدر دمه وأُعلِنت عليه الحرب؟
ما أظن أن هناك من يتهم المسلمين بأنهم هم الذين ابتدوا القتال؛ حيث لم يكن هناك وسيلة لتأديب المعتدين وإلزامهم سبيل الصواب، سوى أن تتحقق الحماية لأتباع الإسلام، وذلك برد كيد أعدائه، وما ذلك إلا بالجهاد والقتال.
وبعد الهجرة والانتقال إلى المدينة، كانت الأمة الإسلامية مطالبة بحماية أتباعها الذين هم تحت ظلها، ثم تخليص أتباعها الذين يحبسهم أعداؤها ويفتنوهم؛ حتى لا ينضموا إليها.
كذلك ماذا تصنع الدعوة الإسلامية إذا كان هناك بعض الغادرين الذين يقدمون إلى المدينة؛ لكي يطلبوا دعاة يعلموهم ويثقفوهم، فإذا ما ذهبوا معهم، غدروا بهم وعرَّضوهم للقتل؛ كما حدث للدعاة في الرجيع وبئر معونة؟!
ماذا تصنع الدعوة لهؤلاء الغادرين؟ أليس الجهاد والقتال هو الذي يأْطرهم على قَبول الحق أطرًا، أو على الأقل يَحُدُّ من طغيان غدرهم وكيدهم؟!
ثم علينا أن نعلم أن الدعوة الإسلامية ليست دعوة محلية أو إقليمية، وإنما هي دعوة إلى الناس كافة؛ أي: مطلوب من رسولها ومن أتباعه تبليغها إلى البشرية كلها؛ ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ [سبأ: 28]، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف: 158].
والناس كافة أو جميعًا أو للعالمين، دُول وممالك لها عقائدها ولها نُظمها وتقاليدها، وهي لا شك سوف تتصدَّى لحملة الدعوة الإسلامية إذا ما حاوَلوا تبليغ هذه الدعوة إلى تلك الدول والمالك، وهنا يأتي حماية الدعاة عندما يعتدي عليهم ولا يكون ذلك إلا بالجهاد أو القتال.
ومن ذلك يتبيَّن لنا أن الدعوة الإسلامية عندما جعَلت الجهاد أساسًا من أسس قيام أمنها، إنما أباحت ممارسته وأذِنت فيه وأمرت به، وحثَّت عليه عند وجود ما يقتضيه، ويتمثل ذلك في أمور:
أولاً: الدفاع عن النفس أو الأمة عندما يُعتدى عليها.
ثانيًا: الدفاع عن الدعوة وحمايتها، وذلك:
أ - عندما يتعرض المؤمنون بها للفتنة بشكل من أنوع العذاب المادية والمعنوية؛ ليرجعوا عن اعتناق الإسلام.
ب- عندما يتصدَّى أعداء الإسلام لمنْع مَن شرح صدره للإسلام - ويريد الانضمام إلى قافلة المؤمنين - حتى لا يعتنق الإسلام.
ج - وأخيرًا عندما يقف أعداء الإسلام في وجه الدعاة إلى الله؛ لمنْعهم من تبليغ كلمة الله إلى الناس جميعًا.
هذا ما أباح الإسلام من أجله القتال، ثم حدث القتال لأغراض أخرى لا تَمُت إلى سبيل الله، فليس ذلك من الجهاد في شيء، وليبحث له عن سند آخر؛ ﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ﴾ [النساء: 84].
وإذا استعرضنا آيات القتال في القرآن، فسنجدها تدور حول إباحة القتال في هذه المواضع، فأول آية نزلت بالإذن في القتال في سورة الحج، بيَّنت أن السبب في إباحة القتال أن المسلمين ظُلموا وأُكرهوا على الخروج من ديارهم بسبب عقيدتهم، وقولهم: ربنا الله، وبيَّنت أن الله سينصرهم ويُمكِّن لهم في الأرض، ثم تطلب منهم أن يكونوا بعد النصر مثلاً صادقًا لهذه الدعوة؛ بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 39 - 41].
وبيَّنت آية البقرة أن القتال مأمور به لردِّ من اعتدى على المسلمين وقاتَلهم، بشرط ألا يكون هناك اعتداء من المسلمين أو تجاوَز في الرد على ما فعله البادي بالعدوان، وذكرت أن الفتنة أشد من القتل، وأن هؤلاء المعتدين يجب أن يقاتلوا؛ حتى تتوطَّد الحرية للعقيدة، ويكون لكل إنسان مطلق الحرية في اعتناق الدين الذي يميل إليه بدون جبرٍ أو إكراه، كما أكَّدت الحفاظ على حرمة البيت الحرام، فعند ذلك فقط يباح للمسلمين مقاتلة الأعداء ولو في البيت الحرام؛ ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 190 - 194].
وذكرت آية النساء أن القتال شُرع؛ لكيلا تكون فتنة، ويكونَ الدين لله ولأجل إنقاذ المستضعفين من المسلمين في مكة أو غيرها، الذين حالت قريش بينهم وبين الهجرة وعذَّبتهم، فهم في حاجة إلى مَن يحميهم ويرفع عنهم أذى الظالمين، ويُمكِّنهم من الحرية في اختيار ما يعتقدونه من دين.
ثم بيَّن أن المؤمنين يقاتلون في سبيل الله وأعداءَهم يقاتلون في سبيل الطاغوت، ثم أمرهم بمقاتلة أولياء الشيطان أعداء الله، بقوله -تعالى-: ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 75، 76].
فإذا ما وجَد فريق من المشركين اعتزَل القتال ومال إلى السلم، ولم يَفتن المسلمين، فهذا الفريق لا يقاتله المسلمون؛ ﴿ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 90]، ولكن ذلك مشروط بأن يكون الاعتزال للقتال ناشئًا عن تصميم على عدم قتال المسلمين.
ولم يتكرَّر منهم عرْض السلم إلى حين اغتنام الفرصة المواتية لإثارة الفتنة، وإلا قوتلوا أينما وُجِدوا؛ ﴿ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 91].
والإسلام لم يأذَن بالجهاد ويأمُر به على أنه غاية للإسلام يهدف إليها، وإنما هو وسيلة يُبيح استخدامها فقط من أجل حماية أتباع الدعوة من الظلم، أو أن يُفتنوا في دينهم.
فإذا مال الأعداء إلى السلم وأعرضوا عن القتال - ولو كان الأعداء يخادعون بهذا السلم - فإن الإسلام قد حث المسلمين وأمرهم بالميل إلى السلم؛ حرصًا على إقامة السلام وعدم سفْك الدماء؛ ﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 61 - 62].
فإذا عاد المسلمون إلى نكث العهد والطَّعن في الدين وفتنة المسلمين، فقد وجَب قتالهم؛ ﴿ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 12 - 13].
وعندما اتَّفق اليهود وقبائل غَطفان المشركة وغيرها مع قريش، وتواطَؤوا جميعًا على قتال المسلمين في غزوة الأحزاب؛ قال الله في شأن اليهود: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29]، وقال في شأن المشركين وقد تكاتفوا ضد المسلمين: ﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 36].
وكل هذا يبيِّن لنا أن الإسلام لم يبدأ بالقتال إلا دفاعًا عن المسلمين الذين ظُلموا وأُخرجوا من ديارهم بغير حق، ومنعًا لغيرهم من أن يَفتنهم في دينهم، أو يقف في سبيل دعوتهم؛ ولذلك حثَّ المسلمين على البر والإحسان، وحُسن المعاملة والعدل مع مَن لم يقاتلهم، أو يبغي عليهم؛ ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الممتحنة: 8 - 9].
قال ابن القيم: "لَما استقرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة وأيَّده الله بنصره وبعباده المؤمنين، وألَّف بين قلوبهم، رمَتهم العرب واليهود عن قوس واحدة، وشمَّروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة، وصاحوا بهم من كل جانب، والله - سبحانه - يأمرهم بالصبر والعفو والصفح، حتى قَوِيت الشوكة، واشتدَّ الجناح، فأذِن لهم حينئذ في القتال، ولم يَفرضه عليهم، فقال تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ [الحج: 39].
ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لِمن قاتلهم دون مَن لم يقاتلهم، فقال: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ [البقرة: 190]، ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة، وكان محرَّمًا، ثم مأذونًا به، ثم مأمورًا به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأمورًا به لجميع المشركين؛ إما فرض عينٍ على أحد القولين، أو فرض كفاية على المشهور، والتحقيق أن جنس الجهة فرض عين؛ إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال وباليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع.
أما الجهاد بالنفس، ففرض كفاية، وأما الجهاد بالمال، ففي وجوبه قولان، والصحيح وجوبه؛ لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء؛ كما قال تعالى: ﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 41].
وعلَّق النجاة من النار به ومغفرة الذنب ودخول الجنة، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [الصف: 10 - 12].
وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك، أعطاهم ما يحبون من النصر والفتح القريب، فقال: ﴿ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا ﴾ [الصف: 13]؛ أي: ولكم خصلة أخرى تحبونها في الجهاد، وهي نصر من الله وفتْح قريب[8].
ومع ذلك فإن الإسلام دين الله - الذي يعرف حقيقة وطبيعة الإنسان، وعواطفه ووجدانه وغرائزه - يعترف بأن القتال غير محبَّب إلى النفوس، وأنها تكرهه وتنفر منه، ولكن صيانة الأمة وحماية الدعوة ومنْع الفتنة - ألزَمت فرض القتال؛ ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216].
كل هذا يوضح لنا أن الإسلام عندما جعل الجهاد الأساس الرابع لقيام الأمة الإسلامية، إنما كان يهدف إلى حمايتها ممن يريد أن يعتدي عليها ويَظلمها، أو يَفتن أتباعها في دينهم، أو يصدهم عنه، أو يضع العراقيل في سبيل انتشار الدعوة الإسلامية.
وكان الجهاد هو الحصن المنيع الذي يحقِّق لها الأمن والاستقرار والنصر، ويحميها من كيد الأعداء المتربصين بها، ويحفظها في هذا الخِضَم المتلاطم الذي كان يكتنفها من عداوة المشركين وحقد اليهود، وبَغضاء المنافقين.
﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 32]، ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [الصف: 8][9].
[1] طبقات ابن سعد، ج 1، ص 2.
[2] مروج الذهب؛ للمسعودي، ج 2، ص 280.
[3] طبقات ابن سعد 1 ص 2 - 3 ، زاد المعاد 2/ 56، البداية والنهاية، ج 3، ص 215، فقه السيرة؛ للغزالي ص 190 - 191، والقول المبين؛ للنجار، ص 143.
[4] ابن هشام؛ السيرة، ج 1، ص 505، طبقات ابن سعد، ج 2، ص 1.
[5] البداية والنهاية، ج 3، ص 228.
[6] البداية والنهاية، ج 3، ص 226.
[7] انظر الكتاب بنصه: سيرة ابن هشام، ص 501 - 504.
[8] زاد المعاد، ج 2، ص 58 - 69.
[9] انظر: القرآن الكريم، زاد المعاد، ج 2، ص 58، حياة محمد؛ لهيكل ص 248 - 253، 577 - 577، تاريخ الأمة الإسلامية، فقه السيرة؛ للغزالي ص 222 - 228، ظهور الإسلام وسيادة مبادئه لينحت ص 208 - 216 للخضري ص 93 - 96.
القول المبين؛ للطيب النجار، ص 161 - 165، السيرة؛ لمحمد مصطفى النجار، ص 159، السيرة النبوية؛ عبدالمقصود نصار بالاشتراك، ص 97 - 105.