أرشيف المقالات

في مؤتمر الكتاب الأوربيين لحفظ الثقافة

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
خطاب أندريه جيد نحن قليل في هذا المكان بعددنا، كثير إذا اقتصر الأفراد منا على حب بلادهم، وكثير كثير إذا أضمر هؤلاء الأفراد للبلاد الأخرى ضغينة وحقداً: إذا ما حدثتكم عن شعوري أيها السادة أقول بأني إنساني النزعة في الوقت الذي ما أزال فيه فرنسياً صميما، وأقول أني فردي من أنصار الفردية مع الاعتقاد الراسخ بأني شيوعي صميم، لا أجد في الشيوعية غير نصرة لفرديتي وكل تأييد، لقد كانت رسالتي التي حملتها طوال خمسة وستين عاماً: أنه بمقدار ما تكون شخصية الإنسان قوية وأصيلة فيهن تكون خدماته للمجتمع أجل وأحسن، وقد أضفت في السنوات الأخيرة إلى هذه الرسالة رسالة جديدة هي من الأولى بمثابة البنت للأم، هي أن الجمعية الشيوعية تترك المجال الوسيع لكل شخصية وللخصائص التي تتميز بها كل شخصية تنمو وتزدهر على وجهها الأكمل؛ وحسبي أن أتمثل بعبارة لأندره مالرو ساقها في مقدمة أحد الكتب وقد أصبحت مثلا يجري على كل لسان (إن الجمعية الشيوعية ترد إلى كل شخصية نتاجها الخصيب) وأذكر اسم رابليه في هذا الكلام لأن النشاط الذي تركه في آدابنا الفرنسية الجميلة لم يتركه أديب من بعده، ولأني أعتبره خير ممثل للأديب الفرنسي العريق، ولربما كان فيما كتب بين معاصريه خير ممثل للعصر الذي عاش فيه، لقد أخذت الآداب الفرنسية بعد رابليه تهدأ ثورتها، تتوخى الطريق المطمئنة المسالمة التي لا صعاب فيها ولا عراقيل، تجنح إلى الغموض والإبهام غير مكترثة بالمادة مشيحة بوجهها عنها أعني بالآداب الفرنسية التي سميت (كلاسيكية) كل ما يدخل تحتها من كتاب وقراء ونظارة وأبطال للرواية والقصة، أعني بأن كل هؤلاء قد كفوا مؤونة السعي والجد طلباً للعيش؛ وعلى هذا الأساس كانت وظيفة الأديب أن يحدث أناساً موفورين عن أناس موفورين، وإذا لم يكن منعماً هذا الذي يحدث عنه الأدب، فليس من شأننا أن نعرف ذلك وليس من شأننا أن نعرف لماذا كان أكثر هؤلاء الذين يحدث عنهم أغنياء مغتبطين؟ وعلام يستندون في جمع ثرواتهم؟ إن الأدب لا تعنيه كل هذه الأسئلة الممضة! فهؤلاء الأبطال يصورهم لنا راسين في مآسيه الرائعة وقد خلوا من تكاليف الحياة ليس لهم إلا أن يندفعوا مع أهوائه مرخين العنان لقلوبهم تعشق وتحب، ولرؤوسهم تحلم وتفكر.
إن هؤلاء الأبطال لا يعيشون في غير أسطر ضمت في كتاب أو على خشبة مسرح يتقمص أفعالهم الممثلون لست هنا في معرض دعوى أدافع بها مطالباً بحكم على هذه الآداب الكلاسيكية، فأني من أكثر الناس حباً لها وإعجاباً بها وبكل ما هو رائع وجميل، بل أقول إن الأدب لم يشهد منذ الإغريق الأقدمين عهداً رائعاً مثل عهد هذه الآداب.
ولرب قائل يقول: إن هؤلاء الملوك والملكات وهؤلاء الأمراء والكبراء الذين لا تخلو منهم رواية مسرحية ألفت في القرن السابع عشر هم الذين ينبو عنهم ذوقنا؛ واكبر ظني أن ليس هناك أحد يستسيغ الحديث عن أناس نسبت إليهم أفعال حميدة وكلام مزوق معسول، وقد جعلوا في جو من الأبهة والملك يشفعان لهم إذا لم يأت كل ما نسب إليهم مطابقاً للواقع صادراً عن ميولهم ومجرد احساساتهم؛ وإذا استساغ البعض حديثاً من هذا النوع فانهم لا يجدون فيه صورة منقولة عن عالم الأحياء الذي يعيشون فيه.
فليس كل من يدبون على الأرض مترفين ولا أصحاب امتيازات لعمري أن آدابناً تلك سمتها لا تعبأ بغير هذا النمط من الناس ولا تهتم بغير الرؤوس والقلوب منهم، لا يرجى لهم مستقبل تأمن فيه من أن تزل قدمها فتهوي إلى أعماق البحر الذي تمشي على شطآنه إن الآداب والفنون إذا لم تكن مرآة للحياة وصدى للحقيقة فأنها أشياء مصطنعة لا تلبث أن تفقد قيمتها، وإننا إذ استثنيناً الآداب اللاتينية لا نجد آداباً أوربية أخرى أكثر من الفرنسية إيغالاً في الخيال وتعلقًا به، ما تزال إلى الآن تعتمد عليه اعتماداً كبيراً.
إن الآداب لا تسمو ولا تقوى ولا تتجدد إلا بالمقدار الذي تستمده من الشعب الذي يعتبر بحق دعامة المجتمع وأساس بنيانه، وما أشبه حال الأدب ببطل الأسطورة الإغريقية ذات المغزى البليغ التي تحكي أن أنتيوس يفقد قواه وتفل عزيمته كلما ارتفعت رجلاه على عن أن تمس الأرض يتساءلون عن الكاتب الذي غذى الآداب الفرنسية في غضون القرن الثامن عشر وجدد في حيوتها! ليس هو فولتير ولا هو مونتسكيو على عبقريتهما وما قدماه لهذه الآداب من البدائع.
إن هذا الكاتب رجل خرج من بين الرعاع لا حسب له ولا نسب: هو ديدرو وهو روسو يقول كاتب في جريدة (الاكسيون فرانسيز) منذ عهد قريب: (إن المدينة هي الكذب ومحض الاختلاق، وظيفتها إقامة رجل متصنع في شؤونه متكلف في أحواله مكان الرجل الطبيعي العادي، شبهها شبه الرجل الذي يبرز مرتدياً ثيابه مصففاً شعره بعد أن يكون عارياً في حجرته الخاصة) ثم يختم المقال بقوله (على المرء أن يختار بين أن يكون متمدناً لا يعرف للإخلاص معنى وبين أن يكون غير متمدن مخلص لذاته) كلا ليس من المحتم على المدنية أن تتجرد من صفة الإخلاص، وليس من اللازم على الإنسان إذا أراد التميدن أن يكون كاذباً أفاكا، بل إذا لم يكن للمدنية بد من شيء تتصف به وتحمل طابعه فأنه الصدق.
إني لست من الذين يلقون تبعة الكذب والتزييف البادين على كل مظهر من مظاهر حياتنا على عاتق الفرد، فأن الجاني هو المجتمع كلما أراد أن يخنق صوت الشعب، وكلما حاول أن يتركه على حاله من الغباوة والجهل والاستعباد، لا يعرف ما يجيش في فؤاده فيعبر لنا عنه ولا يدرك ما تستفيده الثقافة منه إذا جهر بما هو دائر في خلده حائم بمخيلته وقفت نفسي مذ كنت شاباً احترفت حرفة الكتابة على دحض الزعم القائل (قال الإنسان كل ما يمكن أن يقوله وليس في استطاعة أحد أن يقول غير ما قيل) وقد اتخذ هذا الزعم وطنيو ذاك العهد شعاراً لهم يتمثلون به أليس من دواعي العجب والغبطة وقد مضى عصران كاملان على الكلمة التي كان يعتز بها لابروبير: (جئت في الزمن الأخير) أن نرى أنفسنا أمام عالم حافل بالعجائب والغرائب لم نصل بعد إلى كثير أو قليل من أسراره، أمام عالم يقظ في إبان فتوته يطلع علينا كل يوم بجديد من يقل أدب قوم فكأنه عنى بذلك خصالهم وأحوال مجتمعهم، لكن هذه القاعدة كثيراً ما تشذ، وقد كثر شذوذها في الآداب الفرنسية، فإن لدينا طائفة كبيرة من الكتاب العظام لم يحظوا في حياتهم بعطف الجمهور وتقديره، فيقال بأنهم يكتبون لأنفسهم؛ لكن هذه الطائفة لم تعدم بعد حين الأنصار الذين رفعوها إلى المكان اللائق بها؛ وقد فطنوا للنظرات العجلى التي لم يستطع إدراكها المعاصرون.
وكأني بذلك أعود بالمخيلة إلى بودلير وإلى رامبو وإلى ستاندال أيضاً الذي كان يكتب لعدد ضئيل من محبي أدبه، ويقول بأن قراءه الحقيقيين لم تلدهم أمهاتهم بعد.
.
بل وأتخيل نيتشه ووليام بلاك ومكفيل الذين لم يكن حالهم بأحسن من حال الأولين.
هذا وإني لم أذكر إلا الكبار نشهد اليوم حادثاً لم يسبق للتاريخ مثله، عظيم الأهمية، لا تقاس به الأحداث، ذاك هو النظام الجديد القائم في روسيا السوفيتية، ولست مبالغاً إذا قلت بأنه عمل (نموذجي) ينسج على منواله؛ إن بلادا يجري فيها مثل هذا النظام تجعل الكاتب يتحسس بيئته ويتصل بقرائه اتصالاً مباشراً، لا يدور حولهم كالتائه يفتش عن ضالته كما هي حالنا معشر الكتاب، فيستمد من الحقيقة التي تحيط به مادته، ويستلهم منها أخيلته، ويستمع إلى صداه بأذنه.
إن بلادا مثل هذه يؤدي فيها الأديب رسالته كما يجب أن تؤدى، جديرة منا بكل إعجاب.
بيد أن ذلك كله لا يفيد.
إن الطريق كلها سليمة لا تعتورها الأشواك، وكيف تجتنب الأخطار جميعها ما دام العمل الفني في طبيعته ضعيف المقاومة، قليل التأثير بادئ ذي بدء.
ولعل الكلام عن مثل هذه الأخطار التي هي من طراز جديد ستحين له فرصة ثانية، لقد رأيت في النتاج الأدبي السوفيتي آثاراً أثارت مني كل إعجاب، لكنها ما تزال بعيدة عن أن يتمثل فيها الإنسان المنتظر، الذي ما برح هذا الأدب يعمل على إيجاده، وهو ما يزال في مراحله الأولى يصور لنا أدوار التكون والتمخض والولادة، وأني لشديد الأمل برؤية الآداب السوفيتية قد كبرت واشتد ساعدها، فأصبح الكاتب في كنف الحقيقة الماثلة، فاتحة له صدرها يضمها بكلتا يديه إن الأدب الخالد الذي تقبله النفوس وتقدم عليه بشغف يتجدد في كل حين، لا ينقطع لسد حاجة وقتية تنبعث عند طبقة من الناس، في وقت من الأوقات، وعلى هذا الأساس، فان حكومة السوفيت، لم تقتصر على طبع الآثار والمؤلفات التي جادت بها قرائح كتابها وشعرائها، فإنها عنيت عناية فائقة بنشر أشعار بوشكين، وتمثيل مسرحيات شكسبير؛ ولم تقل قط بأن أدب كتابها مرسوم له الخلود، ولا هي تستبعد أن يكون نتاج هؤلاء الكتاب صائراً إلى الزوال بزوال الحاجة التي دفعت إليه، ما دام الزمن لم يحكم حكمه عليه، وإذا كان هنالك من شيء يمسخ الفائدة التي يمكن أن يجنيها الناس من قراءة الكتب وإنشاء الأشعار، فما هي إلا أن ترسم لهم الأمثولة ويحدد لهم المغزى، وفي التدليل الكثير على العظة التي تتضمنها الكتب ضياع لمسحة الجمال التي تتميز بها الأدب، ويصبح بذلك ضرباً من ضروب الوعظ الجافة ليس مما يضير القراء ألا يوفقوا كلهم إلى غاية واحدة، فان في استطلاعهم إياها في أجواء مختلفة فائدة لا تقدر، وفي ذهابهم مناحي متباينة بعد أن تكون هناك سلطة يستهذون بها.
وهذا والثقافة كانت لجلاء الذهن وإطلاق الفكر قبل أن تكون عامل إرشاد وتهذيب تتوجه أنظار المفكرين، في هذا الزمن، إلى انتشال الإنسانية من وهاد الاضطهادات التي ترددت فيها، وأني لا أقدر لهؤلاء المفكرين أن يظل الإنسان موضع اهتمامهم يوم يفلت من قيده وينطلق حراً شريفاً، فلا يعنون به إلا خانعاً ذليلاً أو غرا جهولا، بل ولقد أسبغ على نفوسنا طول تحدثنا عن البؤس وتغنينا بمحامده ومزاياه حلة من الخنوع والاستكانة لا تليق بها جميل أن نحلم بمجتمع تعم نعماؤه الأفراد، وأجمل منه أن نوقن بقرب قيام هذا المجتمع. ترجمة وتلخيص ماجد شيخ الأرض

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣