أرشيف المقالات

فضل المدينة ودعاء النبي فيها بالبركة (1)

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
باب فضل المدينة ودعاء النبي فيها بالبركة
وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها (1)
 
115- عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ أَن رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِن إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكةَ وَدَعَا لأَهْلِهَا، وَإِني حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكةَ، وَإِني دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلَي، (وفي رواية: بمثل)، مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لأَهْلِ مَكةَ»[1].
 
116- عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِني أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيِ الْمَدِينَةِ، أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا، أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا»، وَقَالَ: «الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، لاَ يَدَعُهَا أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إِلا أَبْدَلَ اللهُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَلاَ يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى لأْوَائِهَا وَجَهْدِهَا إِلا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا، أَوْ شَهِيدًا، يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
  وفي حديث أبي سعيد: «وَإِني حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ حَرَامًا مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا، أَلاَ يُهْرَاقَ فِيهَا دَمٌ، وَلاَ يُحْمَلَ فِيهَا سِلاَحٌ لِقِتَالٍ، وَلاَ تُخْبَطَ فِيهَا شَجَرَةٌ إِلاَّ لِعَلْفٍ»؛ رواهما مسلم.
  وعند مسلمٍ أيضًا عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ أَن سَعْدًا رَكِبَ إِلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ، فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا أَوْ يَخْبِطُهُ، فَسَلَبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ، جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلاَمِهِمْ، أَوْ عَلَيْهِمْ، مَا أَخَذَ مِنْ غُلاَمِهِمْ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفلَنِيهِ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ.
 
 


تخريج الأحاديث:

حديث عبدالله بن زيد رضي الله عنه، فأخرجه مسلم حديث (1360)، وأخرجه البخاري في "كتاب البيوع"، "باب بركة صاع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومده"، حديث (2129).
 
وأما حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فأخرجه مسلم حديث (1363)، وانفرد به.
 
وأما حديث أبي سعيد رضي الله عنه، فأخرجه مسلم حديث (1374)، وانفرد به.
 
وأما حديث عامر بن سعيد رضي الله عنه، فأخرجه مسلم حديث (1364)، وانفرد به.
 


شرح ألفاظ الأحاديث:

((إِن إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكةَ)): تقدم قبل بابين تحريم مكة، وأنه كان من الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض، وتقدم الجمع بين الروايتين، وأن إبراهيم لا يحرم ولا يحلل، وإنما هو مبلغ لهذا التحريم، ومعلن له بين الناس، ولذا نسب التحريم له.
 
((وَإِني حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكةَ))، وأيضًا يقال في المدينة أن الذي حرمها هو الله تعالى، وأضيف التحريم للنبي - صلى الله عليه وسلم - إما لأنه مبلغ لهذا التحريم ويؤيد ذلك ما جاء عند أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الله حرم على لساني ما بين لابتي المدينة))، وعند البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((حرم ما بين لابتي المدينة على لساني))، أو لأنه سبب حيث دعا ربه فاستجاب له كما في أحاديث الباب.
 
((وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلَي (وفي رواية: بمثل) مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لأَهْلِ مَكةَ))؛ أي: دعوت لها بالبركة كما في أحاديث الباب، والصاع النبوي أربعة أمداد، هو مجتمع اليدين، وعطف المد على الصاع هنا من باب عطف الخاص على العام، والمد والصاع معيار كيلي، فهو دعا للمدينة بالبركة في مكيالها، وسيأتي في حديث أنس - رضي الله عنه - أنه دعا للمدينة بضعفي ما بمكة من البركة، وهذا لفظ أعم لا يختص بالمكيال فقط، بل يعم المكاييل والموازين والمقاييس والمعدودات وغيرها.
 
((بِمِثْلَي)): وفي رواية البخاري (بِمِثْل)، وفي حديث أنس - رضي الله عنه - الآتي (ضعفي)، والضعف هو المثل، ولا تعارض بين المثل والمثلين، فلا يمنع أن دعا بمثل ثم دعا مرة أخرى بمثلين.
 
((أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيِ الْمَدِينَةِ)): لابتيها تثنية لابة بتخفيف الباء، وهي الأرض الملبسة حجارة سوداء يقال لها: (لابة ولوبة ونوبة بالنون) ثلاث لغات مشهورات، وللمدينة لابتان: لابة الجنوب ولابة في الشمال، وقيل: لابة في الغرب، والأخرى في الشرق، والابتان داخلتان في التحريم.
 
وسيأتي أنها حرم (ما بين عَيْر إلى ثور)، و(عَيْر) بفتح العين وإسكان الياء هو جبل معروف، وأما (ثور)، فاختلف فيه، ومنهم من اعتبر ذكره خطأً ووهمًا من الرواة؛ لأن جبل (ثور) في مكة، قالوا: والصحيح إلى (أحد) من عَيْر إلى أحد، قال به جمع من الأئمة كما ذكر النووي - رحمه الله - ثم قال: "ويحتمل أن ثورًا كان اسم لجبل هناك؛ إما أحد وإما غيره، فخفي اسمه"؛ [ انظر شرحه لمسلم حديث (1370)].
 
كذا ابن حجر - رحمه الله - أطال الخلاف في هذا في كتابه الفتح، ثم مال إلى ما ذكره النووي رحمه الله؛ [ انظر الفتح "كتاب فضائل المدينة"، "باب حرم المدينة"، حديث (1867) ].
 
وأما رواية: (مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا)، فهي تشبه (مأزم) بكسر الزاي وهو الجبل، وقيل: هو المضيق بين الجبلين؛ قال النووي - رحمه الله -: "والأول هو الصواب هنا، والمعنى (ما بين جبليها)"، وبالجملة هي تحديد لما بين جبلين، وقد يكون عند كل جبل (لابة)، وهذا حرم المدينة، وهي كما يقول العلماء مسافة الحرم بريد في بريد؛ أي: اثنا عشر ميلًا في اثني عشر ميلًا، واليوم وضعت الدولة علامات لتحديد الحرم؛ لتعطي حكمه.
 
((أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا)): جمع عِضَاه وهي كل شجرة فيه شوك واحدتها (عضاهة).
 
((وَلاَ يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى لأْوَائِهَا وَجَهْدِهَا)): اللأواء بالمد الشدة والجوع، والجَهد بفتح الجيم وهو المشقة.
 
((إِلا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا، أَوْ شَهِيدًا، يَوْمَ الْقِيَامَةِ)): أما الشفاعة لأهل المدينة فهي ثابتة في أحاديث كثيرة، وهي زائدة على الشفاعة العظمى للموحدين من أمته - صلى الله عليه وسلم - وإلا لم يكن لأهل المدينة فضل زائد، فالصواب أنه شفاعة أخرى خاصة بهم إما بزيادة درجاتهم، أو تخفيف حسابهم، أو بإكرامهم يوم القيامة أو بما شاء الله من ذلك.
 
وأما الشهادة، فقيل: إنها شك من الراوي، والأظهر كما ذكر النووي - رحمه الله - نقلًا عن القاضي عياض - رحمه الله - أنها ليست كذلك لورودها في أحاديث كثيرة بهذا اللفظ: (إِلا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا، أَوْ شَهِيدًا)، فقد رواها جابر بن عبدالله وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر وأبي سعيد وأبي هريرة، وأسماء بنت عميس، وصفية بنت أبي عبيد رضوان الله عليهم، كل هؤلاء روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فيبعد أن يتفقوا على الشك؛ فإما أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - شهيدًا لمن مات في حياته، وشفيعًا لمن مات بعده، أو شهيدًا للمطيعين، وشفيعًا للعاصين، أو للتقسيم بأن يكون لبعض أهل المدينة شفيعًا ولبعضهم شهيدًا"؛ [انظر شرح النووي لحديث (1363)].
 
((فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا أَوْ يَخْبِطُهُ، فَسَلَبَهُ)): سلب من يصيد أو يقطع شجرًا وكلأً في المدينة هو جميع ما معه بما في ذلك الثياب التي عليه إلا ما يستر عورته، وسيأتي أن قول الصحابة - رضي الله عنهم - بأن سلب من يفعل ذلك في المدينة هو كسلب القتيل من الكفار، وفي المسألة خلاف.
 
((بِالْعَقِيقِ)): هو موضع بينه وبين المدينة عشرة أميال مات فيه سعد - رضي الله عنه - ثم حمل إلى المدينة.
 
((نَفلَنيهِ رَسُولُ اللهِ)): بفتح النون وتشديد الفاء المفتوحة، والنفل هو الغنيمة، فهو يريد أن يبين أن هذه غنيمة حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 
من فوائد الأحاديث:
الفائدة الأولى: الأحاديث دليل على تحريم المدينة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرَّمها بتحريم الله تعالى لها كما حرم إبراهيم عليه السلام مكة ودعا لأهلها بالبركة وسعة العيش؛ حيث قال: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 126 ].
 
الفائدة الثانية: حديث عبدالله بن زيد - رضي الله عنه - دليل على دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة بالبركة وسعة العيش والرزق، جاء في بعض الروايات: (بمثل مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ)، وفي بعضها بالمثلين، وكما تقدم لا تعارض بينهما فقد يكون دعا بالمثل أولًا، ثم دعا أخرى بالمثلين، وسيأتي في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قريبًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه)).
 
قال الشيخ ابن باز - رحمه الله -: "ومن سكن المدينة يعرف ذلك، يعرف ما فيها من البركة في طعامها وشرابها، وما يحصل لأهلها من الكفاية بالقليل، ولا سيما في حق أهل الإيمان والتقوى".
 
الفائدة الثالثة: الأحاديث دليل على تحريم صيد المدينة فلا يقتل، وتحريم شجرها فلا يقطع، ويستثنى من ذلك أخذ أوراق الشجر للعلف، فيجوز لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - والصحيح أنه ليس في صيد المدينة جزاء، وبه قال جمهور العلماء لعدم النص الموجب للجزاء؛ [انظر المفهم (3 / 481) حديث (1220)].
 
وبقي النظر فيمن صاد في حرم المدينة أو قطع شجرة، هل يؤخذ سلبه أو لا؟
قصة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في الباب، وما جاء في سنن أبي داود من حديث سعد - رضي الله عنه - أيضًا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أخذ أحدًا بصيد في حرم المدينة فليسلبه)).
 
استدل بها من قال: قتل صيد حرم المدينة وقطع شجره، يوجب أخذ سلب الصائد من ثياب وسلاح ودابة وغيرها، وهذا نقله القاضي عياض، وبعده النووي عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - وهو قول الشافعي - رحمه الله - في القديم، واختاره النووي - رحمه الله - حيث قال: "هو المختار لثبوت الحديث فيه وعمل الصحابة على وقفه ولم يثبت له رافع ...
وفي مصرف السلب ثلاثة أوجه أصحهما أنه للسالب، وهو الموافق لحديث سعد - رضي الله عنه - والثاني أنه لمساكين المدينة، والثالث لبيت المال، وإذا سلب أخذ جميع ما عليه إلا ساتر العورة، وقيل: يؤخذ ساتر العورة أيضًا".
 
وقيل: إن هذا ليس مرادًا على ظاهره، بل هو مبالغة في الردع والزجر، وفعل سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - إنما هو أيضًا كذلك ليرتدع الناس، ومال إلى هذا القرطبي - رحمه الله - في المفهم؛ [ انظر المفهم المرجع السابق، وانظر شرح النووي لمسلم حديث (1364)].
 
الفائدة الرابعة:حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - دليل على فضل المدينة من حيث السكنى والإقامة والترغيب بذلك، وسيأتي مزيد بيان لهذا في الخمسة أبواب القادمة.
 
الفائدة الخامسة:حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - فيه دلالة على فضل الصبر على شدة وجوع ومشقة المدينة، وإثبات الشفاعة أو الشهادة له يوم القيامة.
 
الفائدة السادسة:حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - دليل على تحريم حمل السلاح بلا قتال بالمدينة، وهذا محمول كما سبق في الكلام على حمل السلاح بمكة من غير حاجة أو ضرورة.
 

[1] وورد ذكر التحريم دون الدعاء عند مسلم من حديث رافع بن خديج وحديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢