أرشيف المقالات

لا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون (1)

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
لا تلبسوا الحق بالباطل
وتكتموا الحق وأنتم تعلمون
(1)
ها نحن أولاء نفصل القول في دحض الدعاوي الآثمة، التي تورط فيها صاحب البهائت تورطًا، وخاض فيه خوضًا، بما اقترف من تلك الآثام التي رمى بها الوعاظ؛ وتلك الأماني الكاذبة التي تمناها لجماعة الوعاظ على المشيخة الأزهرية الجليلة، الحازمة الحكيمة، «والأماني قديمًا بضائع النوكى» والقضاء على تلك الأماني الظالمة، ليسفر الصبح لذي عينين ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾.
 
فنقول وبالله التوفيق:
قال صاحب البهائت: «محال أن يرجع الناس عما عرفوه من آراء علمائهم إلى قول أول: ئك الوعاظ غير الموفقين» ..إلخ.
 
وهو بهذا القول الخاطئ يحمل الناس على تقليد دينهم الرجال، زاريًا على الوعاظ أن يبصروا الناس بدينهم ويحملوهم على الجادة، وأن يعرفوا الرجال بالحق، لا الحق بالرجال، وألا يتخذوا الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله.
 
ونحن وايم الله لا ندري ولا يدري أولوا الألباب معنا، من أي أنواع المحال هذا الذي أحاله الشيخ فأبعده عن دائرة الإمكان؟ أهو المحال العقلي أو الشرعي أو العادي؟

أما أنه المحال العقلي فبديهي البطلان بالضرورة، وأما أنه المحال الشرعي فأفيكة من الأفائك التي تضحك الثكلى «وشر المصاب ما يضحك» والشيخ بمحاله هذا يريد أن يهدم الشريعة الإسلامية - صانها الله تعالى - من حيث لا يشعر، وأن يبني على أن أنقاضها شريعة من آراء الرجال وزبالات أفكارهم، وسماجات القيل والقال التي ما أنزل الله بها من سلطان، يحمل الناس عليها؛ ويضطرهم إليها، ويدينهم بها، كأنه لم يقرأ قوله تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الشورى: 21]، وقوله - تقدست أسماؤه - في شأن الذين قالوا على الله غير الحق، واتبعوا أهواءهم وضلوا كثيرًا وأضلوا عن سواء السبيل: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 31]، فأي تذقُّح وتجنٍّ على دين الله أقبح من هذا؟
 
وقد اتفقت كلمة الصحابة - رضوان الله عليهم - ومن بعدهم من أهل القرون الثلاثة الفاضلة، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يطاع لذاته البشرية، ولا لكمالاته الجسمية، وإنما طاعته بإذن الله وإيحائه وإعلامه، اقرأوا إن شئتم قول الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [النساء: 64]، وقوله تعالى: ﴿ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ ﴾ [الأحزاب: 46] وقوله غير ذلك في القرآن من هذا الباب كثير، فإذا كانت طاعة الرسول إنما تجب؛ لأنه مبلغ عن الله بعنوان الرسالة، فأحرى ألا يكون أحد بعده يطاع لذاته، ويدين الناس لآرائه واستحساناته الشخصية في الدين والعبادة التي يقصد بها الوصول إلى مغفرة الله ورضوانه، مهما كان ذلك الأحد إلا في المسائل المدنية والاجتماعية والسياسية، بشرط ألا يكون شيء منها مصادمًا لما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
 
وإلى القراء الكرام ما قاله الأئمة الأعلام الذين يعرفون الدين ويقدرون الرسول - صلى الله عليه وسلم - حق التقدير في ذم التقليد والتحذير الشديد من اتباع أهواء الرجال وآرائهم.
 
قال أبو عمر بن عبدالبر في كتاب جامع بيان العلم وفضله: «قد ذم الله تعالى التقليد في غير موضع من كتابه، فقال: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 31]» روى عن حذيفة وغيره قال: لم يعبدوهم من دون الله، ولكنهم أحلوا لهم وحرموا عليهم، فاتبعوهم، وقال عدي بن حاتم: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي صليب، فقال: يا عدي ألق هذا الوثن من عنقك، وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾، قال: فقلت: يا رسول الله، إنا لم نتخذهم أربابًا، قال: بلى، أليس يحلون لكم ما حرم عليكم، فتحلونه، ويحرمون عليكم ما أحل لكم، فتحرمونه؟! فقلت بلى، قال: فتلك عبادتهم»، وهذا الحديث في مسند أحمد والترمذي مطوَّلاً.
 
وقال أبو البختري في قوله - عز وجل -: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾: أكانوا يعبدونهم؟ فقال لا، ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه، ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه.
 
وقال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ﴾[الزخرف: 23، 24]، فمنعهم الاقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء؛ ﴿ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾، وفي هؤلاء ومثلهم قال الله - عز وجل -: ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 166، 167]، وقال تعالى معاتبًا لأهل الكفر، وذامًّا لهم: ﴿ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 52، 53]، وقال: ﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ﴾ [الأحزاب: 67]، ومثل هذا في القرآن كثير في ذم تقليد الآباء والرؤساء.
 
وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد، ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها؛ لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين المقلدين بغير حجة للمقلد، كما لو قلد رجل رجلاً فكفر، وقلد آخر فأذنب، وقلد آخر في مسألة، فأخطأ وجهها، فكل واحد ملومًا على التقليد بغير حجة؛ لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضًا، وإن اختلفت الآثام فيه، وقال الله - عز وجل -: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ﴾ [التوبة: 115]، قال: فإذا أبطل التقليد بكل ما ذكرنا، وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها، وهي الكتاب والسنة، وما كان في معناهما بدليل جامع؛ ا .هـ.
 
ولقد تواتر نهي الأئمة الأربعة عن تقليدهم وذمِّهم من أخذ أقوالهم بغير حجة، فقد قال الشافعي: «مثل الذي يطلب العلم بلا حجة، كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيها أفعى تلدغه، وهو لا يدري»؛ ذكره البيهقي.
 
وقال إسماعيل بن يحيى المزني في أول مختصره لكتاب الأم: اقتصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله: لأقر به على من أراده، مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره؛ لينظر فيه لدينه، ويحتاط فيه لنفسه.
 
وقال أبو داود: قلت لأحمد: الأوزاعي هو أتبع من مالك؟ قال: لا تقلد دينك أحدًا من هؤلاء، ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فخذ به، ثم التابعي بعد الرجل فيه مخير وقد فرق أحمد بين التقليد والاتباع، فقال أبو داود سمعته يقول: الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، ثم هو بعد في التابعين مخير، وقال أيضًا لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا؛ وقال من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال.
 
وقال بشر بن الوليد: قال أبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا، حتى يعلم من أين قلنا.
 
وقد صرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي: أنه يستتاب، فكيف بمن ترك قول الله ورسوله لقول من هو دون إبراهيم أو مثله؟ وقال جعفر الفريابي: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثني الهيثم بن جميل قال قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبدالله، إن عندنا قومًا وضعوا كتبًا يقول أحدهم: حدثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخطاب بكذا وكذا، وفلان عن إبراهيم بكذا، ويأخذ بقول إبراهيم، قال مالك: وصح عندهم قول عمر؟ قلت: إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم، فقال مالك: هؤلاء يستتابون.
 
فإذا ما وضح الصبح لذي عينين هكذا، وعلم الناس أن الله ورسوله والأئمة الأعلام براء ممن قلد دينه الرجال، ومشى وراءهم بغير علم ولا كتاب منير، انهار ما قاله صاحب البهائت في الوعاظ: «محال أن يرجع الناس عما عرفوه من آراء علمائهم إلى قول أولئك الوعاظ»، فإن أولئك الوعاظ علماء بدين الله يقدرون أمانة العلم قدرها، فإن جاؤوا بالحق بدليله فما يحيل على الناس الأخذ بهذا الحق أيها الشيخ؟
 
وكذلك انهار قوله بوجوب التقليد، حتى على من بصره الله وحباه الفقه في الدين، وبعد النظر ونفاذ البصيرة.
 
فإن الشيخ وأضرابه يزعمون باطلاً أن القرآن أغلق بابه، والوعاظ إنما يدعون إلى كتاب منير وسنة بينة، وطريقة واضحة، مقتفين قول الإمام الأعظم - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108]، لا يدعون الناس إلى أشخاصهم، ولا يخدعونهم بمناصبهم، وإنما يدعونهم إلى قول الله وقول رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي قال الله فيه: ﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7].
 
ومن قال منهم أو من أحد غيرهم غير تلك المقالة، وتبع غير هذه السبيل - فقوله مردود وعمله باطل.
 
وكبرت كلمة تخرج من فم صاحب البهائت أن يجعل من المحال على الناس أن يدعوا قول العلماء إلى قول الله ورسوله، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]، ويقول: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 124: 127].
 
عياذًا بالله من الهوى والتورط في الباطل؛ ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 43- 44].
 
ما أظن بعد هذه البيانات الواضحات، والحجج القاطعات؛ إلا أن الشيخ قد قبع وانزوى تضاءل وكف لسانه وقلمه عن أمثالها ﴿ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
 





المجلة


السنة


العدد


التاريخ




الهدي النبوي


الأولى


الرابع


رجب سنة 1356 هـ

شارك الخبر

المرئيات-١