int(1588) array(0) { }

أرشيف المقالات

الثمرات السلوكية للدعوة إلى الله في المرحلة الثانوية (2)

مدة قراءة المادة : 16 دقائق .
الثمرات السلوكية للدعوة إلى الله تعالى في
المرحلة الثانوية (2)

ثالثًا: ضبط وتهذيب السلوك الاجتماعي:
إن سلوك الطالبة هو مفتاح شخصيتها وعنوانها، والترجمة المحسوسة التي تجسد مشاعرها وأحاسيسها، وبه تتضح ملامح النضج العقلي والنفسي والاجتماعي لديها، فالسلوك القويم المتزن عنوان للشخصية السوية الناضجة المتكاملة، كما أن السلوك المعتلّ المتذبذب عنوان للشخصية الضعيفة المعتلّة.
 
ومن هنا كانت انفعالات الطالبة ومشاعرها التي تعتريها نتيجة العديد من المؤثرات المحيطة بها أمر طبيعي لدفعها نحو العمل والسلوك الاجتماعي، ولا يُذم السلوك الصادر منها إلا إذا خرج عن السلوك السليم المحمود شرعاً وعرفاً، أو تجاوز حده الطبيعي، ومهمة الدعوة هو ضبط هذا السلوك وتهذيبه.
 
وقد سجلت لنا السيرة النبوية العطرة مجموعة كبيرة من المواقف الإنسانية، التي تدل على طبيعة الشعور والسلوك الاجتماعي، وكيف هذَّبت الدعوة والتربية سلوك الفرد الاجتماعي والانفعالي، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، تعبر عن انفعالها من خير البرية - صلى الله عليه وسلم - بهجران اسمه فقط ولا تتجاوز ذلك، فيقول لها: ((إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبى، قالت: فقلت من أين تعرف ذلك؟ قال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم.
قالت: أجل والله يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك)
)
[1].
 
كما يدعو صحابته ويربيهم على ضبط سلوكهم الانفعالي، حتى يبقى المجتمع متماسكا فلا يصدر سلوك خاطئ، كالانتقام والظلم والتشفي بدلا من العفو والتسامح والرضا، ومن ذلك ضبط النفس عند الغضب، لأن (الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق، وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه، فينقص ذلك من الدين)[2] فيقول - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس الشديد بالصُرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب))[3]، جاء في فتح الباري أن من آثار الغضب أنه (يولد الحقد في القلب والحسد وإضمار السوء على اختلاف أنواعه...
وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش الذي يستحي منه العاقل، ويندم قائله عند سكون الغضب، ويظهر أثر الغضب أيضا في الفعل بالضرب والقتل)
[4].
 
كما تهذب الدعوة العواطف القوية المؤثرة في سلوك الطالبة، بحيث تثمر سلوكا حسنا مقبولا، ومن ذلك عاطفة الغيرة، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تغار ولا تملك نفسها حين أرسلت إحدى أمهات المؤمنين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم طعاما وهو في بيتها، فضربت يد الخادم فسقط الإناء وكسر، فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم الطعام وقال: ((غارت أمكم))[5]، ولم يؤاخذها بما صدر منها، لعلمه بطبيعة المرأة وغيرتها من ضرائرها، ولمراعاته شدة غيرة أم المؤمنين وغضبها، وإنما وجهها إلى العدل، ووظّف هذا الموقف السلوكي في إصلاح الأثر الناتج عن غيرتها من كسر للإناء، ففي رواية أخرى، أنه ((حبس الرسول والقصعة حتى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول، وحبس المكسورة في بيته)).[6].
 
رابعًا: التميز بالمحافظة على آداب الإسلام في مظاهر الحياة:
تثمر دعوة الطالبة في المرحلة الثانوية تميزها بالمحافظة على الآداب الإسلامية في جميع شئون حياتها، مما يشبع في نفسها حاجة تحقيق الذات التي تعني الشعور بالقيمة والأهمية، والإحساس بجدية الحياة وغايتها حين تقوم بما ُينتظر منها من مسؤوليات وأعمال وآداب، خاصة في مرحلة المراهقة التي تميل فيها الفتاة إلى (الذاتية) وتعني إعجابها بنفسها، واعتدادها بشخصيتها، واعتقادها بأنها محط أنظار الناس وبؤرة اهتمامهم، مما يجعلها تميل إلى القيام بما يلفت لها الأنظار بوسائل عديدة كطريقة اللباس والكلام والسير...
الخ[7]، ويسميها البعض (مرحلة الاعتزاز بالشخصية)[8].
 
وقد حثّ النبي - صلى الله عليه وسلم -  المسلمين على التميز في الشخصية، بنية الخير وتوطين النفس عليه دائما، والبعد عن اتباع الآخرين في كل الأمور، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تكونوا إمّعة[9]، تقولون إن أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا))[10]، فهذا الحديث فيه (إشعار بالنهي عن التقليد المجرد، حتى في الأخلاق فضلا عن الاعتقادات والعبادات)[11].
 
ومن مظاهر هذه الثمرة استقامة الطالبة على آداب وقيم وأخلاق الإسلام في جميع جوانب حياتها، في داخل مدرستها وخارجها، فهي تلتزم بالأدب مع الله تعالى، فتشكره على نعمه، وتستحي منه تعالى أن يراها على معصية، وتتأدب مع كلامه، فتتلوه وتحفظه، وهي في أكمل الحالات من الطهارة والوقار والخشوع والتدبر.
 
كما تتأدب مع رسوله - صلى الله عليه وسلم - بطاعته واقتفاء أثره، وحبه وتوقيره وإجلاله إذا ذكر اسمه، والصلاة والسلام عليه، والعمل على إحياء سنته وإظهار شريعته وإبلاغ دعوته.
 
كما تتحلى بالأدب مع الخلق كلهم، فتبر والديها وتطيعهما وتحسن إليهما وتوقرهما، وتخفض الجناح لهما، وتدعو وتستغفر لهما، وتراعي آداب الزوج - إن كانت ذات زوج - فتطيعه في غير معصية الله، وتحفظ له حقوقه في حضوره وغيبته، ثم تلتزم بآداب الإسلام مع أقربائها وجيرانها ورحمها، فتصلهم وتحسن إليهم، وتبرهم وتكرمهم بإسداء المعروف لهم، والامتناع عن كل ما يؤذيهم، والتمسك بآداب الحياة الاجتماعية العامة في مجالستها للآخرين، فتراعي آداب السلام والاستئذان والطعام والنوم....[12].
 
ويكمل هذا التميز بعنايتها بكل ما يخصها كمسلمة من آداب اللباس الإسلامي والحجاب، وآداب الفطرة وخصالها، فتشعر عند محافظتها على هذه الآداب بتميزها كمسلمة، وتحقق ذاتها بما خُصت به من آداب.
 
خامسًا: تجنب السلوكيات الخاطئة وتنزهها عنها:
لا تكتفي الدعوة الإسلامية بغرس القيم والأخلاق الحميدة في نفس الطالبة فحسب، بل تعمل على وقايتها من السلوكيات المخالفة لمقاصد الشريعة الإسلامية، كما تعمل على تهذيب خلقها وتزكية نفسها، كتطهيرها من آفات اللسان والجوارح، فتكف لسانها عن فضول الحديث والكلام الذي لا نفع من ورائه، لأن كثرة الكلام في غير النافع يوقعها في الأخطاء والآثام، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -  مبينا ضرورة حفظ اللسان وأن ذلك من سبل النجاة: ((أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك))[13]، كما تتجنب فاحش الكلام من الغيبة والنميمة والكذب.
 
والخلاصة:
أن دعوة الطالبة في المرحلة الثانوية، والتزامها بآداب الإسلام، سوف يحفظ جوارحها من الوقوع في الإثم، فتزكي بصرها وسمعها عن المعاصي، فلا تتبع عورات الناس وعيوبهم، وتتجنب كل ما يوقع الخلاف والفرقة والعداوة والبغضاء بينها وبين إخوانها المسلمين، اتباعا لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 11-12] [14]، فتتنزّه عن هذه القبائح المحرمة المنهي عنها، من سخرية ولمز وسوء ظن بالمسلمين وتجسس عليهم وغيبتهم، وكل ما هو فسق، لما في هذه الرذائل من احتقار الآخرين وتوريث الأحقاد والضغائن وقطع لأواصر الأخوة الإيمانية.
 
سادسًا: المحافظة على خصائص الأنوثة:
لما كانت طبيعة المرأة تختلف عن طبيعة الرجل، بما خص الله به كل منهما من سمات، وجب على المرأة المحافظة على خصائصها الأنثوية ليتوافق سلوكها مع ما فطرها الله عليه من صفات تهيؤها للمهام التي كلّفها بها الله تعالى[15]، وهي تختلف في جوانب كثيرة عن السلوك الذكري، قال تعالى: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾ [16] ، قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: (أي في القوة والجلد في العبادة)[17]، وهذه التفرقة بين الذكر والأنثى لا تهدف إلى التقليل من شأن المرأة أو إهانتها وتحقيرها، إنما هي لتنظيم التبعات، وتوزيع التكاليف، بحسب الاستعدادات، لأن الإسلام ينظر إلى كل من الرجل والمرأة باعتبارهما متكاملين، قال تعالى: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴾ [18].
 
إن الإسلام الذي ساوى بين الذكر والأنثى في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ [19]، هو الذي فرّق بينهما في المهام والمسؤوليات المبنية على ما فطرهم الله عليه، والثمرة التي توجه الدعوة إلى الله لكسبها، هي أن يعتز كل من الجنسين بما أودعه الله فيه من الخصال الفطرية، وأن يصدر السلوك ملائما متوافقا معه، فالمرأة ذات الفطرة السويّة تعتزّ بأنوثتها، كما يعتزّ الرجل السويّ برجولته، سواء بسواء[20].
 
ومن ضمن السلوك الأنثوي الملائم للفتاة المسلمة، ميلها للتزين، والعناية بمظهرها الخارجي وهيئتها، فالتزين أمر فطري عند المرأة، فهي تنشأ في الحلية والدّعة والنعومة، لا تقدر على جدال ولا قتال[21]، كما قال تعالى: ﴿ أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ﴾ [22].
 
كذلك من السلوك الأنثوي المحمود العناية بتعلم المسؤوليات المستقبلية للفتاة، والتدرب على مسؤولياتها كزوجة وأم ومربية، وحرصها على تنمية خبرتها في مجالات الحياة المناسبة لأنوثتها، مع التزامها بأوامر الإسلام الخاصة بها من غض للبصر وعدم خضوع بالقول، وتجنب للاختلاط بالرجال، متحلية في ذلك كله بخلق الحياء، وهو سلوك محمود عند الرجال والنساء وقد جاء في وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان ((أشد حياء من العذراء في خدرها))[23].
 
إن السلوك المحمود عند الفتاة المسلمة هو محافظتها على أنوثتها، بعدم تشبهها بالرجال فيما يخصهم من لباس أو غيره، وعدم التكلّف بتقليدهم في طريقة الكلام أو المشي وسائر الأمور، لأن ذلك ينافي طبيعة المرأة ويعرضها للّعن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم  فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال))[24].



[1] متفق عليه: صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب غيرة النساء ووجدهنّ، ح5228 ( فتح الباري 9/325) واللفظ له، وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل عائشة 4/1890 ح 2439.


[2] فتح الباري 10/520.


[3] متفق عليه: صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، ح6114 ( فتح الباري 10/518) واللفظ له، وصحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب 4/2014 ح2609.


[4] باختصار: 10/520.


[5] صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الغيرة، ح5225 ( فتح الباري 9/320).


[6] سنن أبي داود، كتاب الإجارة، باب فيمن أفسد شيئا يغرم مثله ص 549 ح 3567، واللفظ له، و سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي كتاب عشرة النساء باب الغيرة 7/71، دار الفكر، بيروت ط:1، 1348هـ/1930م، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/389 ح3567.


[7] ينظر: المراهقون: د.
عبد العزيز النغيمشي ص 26-30.


[8] ينظر: الأسس النفسية للنمو: د.
فؤاد البهي ص 281.


[9] الإمعة: الذي لا رأي له، فهو يتابع كل أحد على رأيه، وقيل هو الذي يقول لكل أحد أنا معك.
ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 1/67.


[10] سنن الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الإحسان والعفو 4/364 ح 2007 وقال: حديث حسن غريب، ولم يذكره الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي.


[11] تحفة الأحوذي 6/145.


[12] ينظر للاستفادة منهاج المسلم: الشيخ أبو بكر الجزائري ص 74-132، دار الفكر، ط:8، 1396هـ/1976م.


[13] سنن الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان 4/605 ح 2406 وقال: حديث حسن، واللفظ له، ومسند الإمام أحمد 4/148، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/287 ح 1961.


[14] سورة الحجرات: الآيتان 11-12.


[15] سيأتي مزيد من التفصيل لهذا الموضوع في الفصل الثالث: مبحث:خصائص الطالبات في المرحلة الثانوية.


[16] سورة آل عمران: جزء من آية 36


[17] تفسير ابن كثير 2/26.


[18] سورة آل عمران جزء من آية 195.


[19] سورة النساء: جزء من آية 1.


[20] ينظر: منهج التربية الإسلامية: محمد قطب 2/310، وأصول تربية المرأة المسلمة المعاصرة: حفصة حسن ص 612-650، وأسس تربية الفتاة في الإسلام: عدنان باحارث ص 149-152.


[21] ينظر: في ظلال القرآن 5/3181.


[22] سورة الزخرف: آية 18.


[23] صحيح مسلم، سبق تخريجه ص 71


[24] صحيح البخاري، كتاب اللباس، باب المتشبهون بالنساء والمتشبهات بالرجال، ح5885 ( فتح الباري 10/332).

شارك المقال

ساهم - قرآن ٢