int(1522) array(0) { }

أرشيف المقالات

الإسلام وتكريمه للعلم والعلماء

مدة قراءة المادة : 36 دقائق .
الإسلام وتكريمه للعلم والعلماء
الإسلام رسالة الله للعالمين (4)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، وبعد:
فإن حاجة البشرية للعلم والعلماء للتقدم والرقي والتكيُّف في هذه الدار التي خلقها الله مستقرًّا ومقامًا لآدم وحواء - عليهما السلام - وذرِّيتهما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها - لا تحتاج لبيان أو إقناع؛ لماذا؟.
 
لأن العلوم والمعارف الشرعية والدنيوية هي المعيارُ الذي تُقاس به قوة وصلابة المجتمعات روحيًّا ودنيويًّا، وتبين بجلاء مدى كبريائها وعزَّتها وهُوِيَّتها، والجهل بهذه العلوم أو تجاهلها دليلٌ على انحطاط هذه المجتمعات وهمجيَّتها وجاهليتها.
 
ولا يخفى على مَن له أدنى بصيرة بالتاريخ البشري الفترة الحالكة في تاريخ قارَّة أوروبا قبل عصرِ النهضة، فقد كانت تتخبَّط في ظلمات الجهل بسبب هَيْمنة رجال الدين والكنيسة على مختلف شؤون الحياة، وحاربوا العلماء وحكموا على بعضهم بالقتل والحبس، فتفشَّتِ الخرافات والأساطير بين العامَّة والخاصة، وانتشرت الحروب لأسباب مختلفةٍ، لسنا في صدد رصدها في هذا المبحث.
 
هذا، في الوقتِ الذي كان فيه المسلمون والمجتمعاتُ المسلمةُ تتطوَّر وتتقدَّم على شعوب الأرض بتعاليمَ ساميةٍ تجمع بين الدين والدنيا، ويمضون قُدُمًا بخطواتٍ ثابتة حثيثة واثقة على أرضية صلبة وتشريع إلهي يرفع من قدر العلم وأهله، في إقامة حضارة شامخة عملاقة، أضاءت ظلماتِ الجهل في ربوع العالَمين، وخرج من رحمِها نوابغ وعباقرة في مختلف العلوم والمعارف في الفقه والحديث واللغة والتفسير وغيرها من العلوم الشرعية، فضلاً عن العلوم الدنيوية النافعة التي لا بد منها؛ كالجغرافيا، والتاريخ، والفلسفة، والطب، والهندسة، والفيزياء، والكيمياء، وما أشبه ذلك، ومقامهم وفضلهم في السبق وبصماتهم في المجال العلمي والإنساني معتَرَفٌ به، ومشهود بين خلق الله تعالى في عصرنا هذا، وكانوا المصباح الذي أضاء الطريق لكل عالِم دينٍ أو دنيا، ورفع الله بهم راية الإسلام، وأعز بهم دينه، ولسنا في صدد ذكر أسمائهم، فهي معلومة للقاصي والداني.
 
وأفاقت أوروبا وبدأت خطوتها الأولى للتخلص من هَيْمنة رجال الدين، وبإقرارهم واعتراف أهل الإنصاف منهم، كانت الحضارة الإسلامية وعلماؤها وعلومهم التشريعية والدنيوية النافعة لها تأثيرات واضحة نهل منها علماء أوروبا، ما أعانهم على نهضتهم، وعكفوا يدرسون ويترجِمون علوم المسلمين، وزادوها بعلومهم المادية والكونية حتى صاروا ما هم عليه اليوم في دنيا الناس، ولكنهم أهملوا العلم الشرعي الذي يربطهم بخالقهم، ويبين لهم الحق من الباطل، والتوحيد من الشرك، ولعل تجربة ما قبل عصر النهضة وسيطرة رجال الدين كانت سببًا في عدم جمعهم بين العلم والإيمان، فضلُّوا عن الحق واتبعوا كل شيطان مَريدٍ.
 
ولا يغيب عنا انحطاطهم الأخلاقي إلا مَن رحم ربي منهم، رغم تقدُّمهم العلمي الذي سوف يفتكُ بهم ويُدمِّرهم بسبب طغيانهم وفسادهم وغرورهم بالعلم، حتى نسوا الله تعالى، وصاروا اليوم يتمنَّون الخلود، ويبحثون عن ترياق يُطِيل العمر والشباب؛ حبًّا في الدنيا وشهواتها الزائلة، كما قال تعالى: ﴿ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 96].
 
قال السعدي - رحمه الله -: "﴿ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ وهذا أبلغ ما يكون من الحرص، تمنَّوا حالةً هي من المحالات، والحال أنهم لو عُمِّروا العمر المذكور، لم يغنِ عنهم شيئًا، ولا دفع عنهم من العذاب شيئًا.
 
﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ تهديد لهم على المجازاة بأعمالهم"؛ اهـ[1].
 
وسوف نرى في هذا المبحث عظمةَ الإسلام وشريعته، التي جعلت طلبَ العلم فريضةً يُثَاب عليها العبد من ربه، وجعلت العلماء ورثة الأنبياء، ومصابيح الدجى، وحاملي لواء الحق، وشهدت لهم بالفضل والرفعة.
 
وسيكون مدخلُنا لذلك في بيان ثلاثة محاور أساسية، وهي كما يلي:
المحور الأول: بيان أن العلم والإيمان في الإسلام لا يفترقان.
المحور الثاني: بيان أن العلوم الشرعية هي روح الأمة وعزَّتها.
المحور الثالث: بيان أن حياة الأمة في الاهتمام بالعلم والعلماء.
 
وإلى القارئ البيان والتوضيح للمحاور الثلاثة، مع الالتزام بالأدلة الشرعية؛ لتقوم الحجة على مَن يقدح في الإسلام ويقول: إنه سبب التخلف والجمود من أحفاد أبي جهل، وهم في كل عصر ومصر، والله المستعان، وعليه التكلان.
 
المحور الأول
بيان أن العلم والإيمان في الإسلام لا يفترقان
نبدأ ونقول - بحول الله وقوته -: إن دين الإسلام وهو دين سماوي يدعو الناس لعبادة الله الواحد الأحد الخالق البارئ، وعدم الشرك به، ويدعوهم للإيمان به وبأسمائه وصفاته، فهو رسالة روحية إيمانية، وتشريعية خاتمة، تسمو بالنفس البشرية للسمو والرقي بينها وبين خالقها، إن دخل الإيمان بالله والغيب قلبَ صاحبها من أول وهلة بلا شك أو ريب، ويبين ذلك قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 2 - 5].
 
قال السعدي في شرح الآيات البينات ما نصه:
وقوله: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾؛ أي: هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة، المشتمل على ما لم تشتمل عليه كُتُب المتقدمين والمتأخرين من العلم العظيم، والحق المبين، فـ ﴿ لا رَيْبَ فِيهِ ﴾ ولا شك بوجه من الوجوه، ونفي الريب عنه يستلزم ضده؛ إذ ضد الريب والشكِّ اليقينُ، فهذا الكتاب مشتملٌ على علم اليقين المزيل للشك والريب، وهذه قاعدة مفيدةٌ، أن النفي المقصود به المدح لا بد أن يكون متضمنًا لضده، وهو الكمال؛ لأن النفي عدم، والعدم المحض لا مدح فيه.
 
فلما اشتمل على اليقين، وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين، قال: ﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾، والهدى ما تحصل به الهداية من الضلالة والشُّبَه، وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة، وقال: ﴿ هُدًى ﴾ وحذف المعمول، فلم يقُلْ: هدى للمصلحة الفلانية، ولا للشيء الفلاني؛ لإرادة العموم، وأنه هدى لجميع مصالح الدارينِ، فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية، ومُبين للحق من الباطل، والصحيح من الضعيف، ومُبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم، في دنياهم وأخراهم"؛ اهـ[2].
 
قلتُ:
أما النفس الأمَّارة بالسوء، فمجبولةٌ على التمرد على ربها ورازقها، لا يرضيها مجرَّد القول بالإيمان بالأدلة الشرعية من القرآن والسنة، وإنما باليقين الذي تدل عليه الشواهد والثوابت، ومن ثَمَّ كان اهتمام الإسلام بالعلم المادي والكوني من العلوم الدنيوية كاهتمامه بالعلم الشرعي؛ رحمةً بهؤلاء المخدوعين وإقامة الحجَّة عليهم من جنس ما يفقهونه.
 
قال ابن العثيمين - رحمه الله -:
والمواعظ الكونية أشدُّ تأثيرًا لأصحاب القلوب القاسية، أما المواعظ الشرعية، فهي أعظم تأثيرًا في قلوب العارفين بالله الليِّنة قلوبُهم؛ لأن انتفاع المؤمن بالشرائع أعظم من انتفاعه بالمقدورات.
 
وأضاف - رحمه الله -:
إن الذين ينتفعون بالمواعظ هم المتقون، وأما غير المتقي، فإنه لا ينتفع لا بالمواعظ الكونية، ولا بالمواعظ الشرعية، قد ينتفع بالمواعظ الكونية اضطرارًا وإكراهًا؛ وقد لا ينتفع، وقد يقول: هذه الأشياء ظواهر كونية طبيعية عادية، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ﴾ [الطور: 44]، وقد ينتفع ويرجع إلى الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [العنكبوت: 65]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ﴾ [لقمان: 32]"؛ اهـ[3].
 
قلت:
إذًا الإسلام جعل من ثوابتِه حتميةَ الجمع بين العلم والإيمان لا يطغى أحدهما على الآخر؛ لينهل العباد كلٌّ حسب حاله ويزيده يقينًا وإيمانًا بالله الإله الحق المتفرِّد بالوحدانية والخلق والتدبير.
 
والحاصل مما ذكرنا أن العلم والإيمان لا غنى لأحدِهما عن الآخر، وقد أفاضت الشريعةُ ببيان ذلك بأدلةٍ كثيرة من الكتاب والسنة؛ منها:
قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 56].
 
وقوله تعالى: ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الحج: 54].وقوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ [القصص: 80].
 
يقول ابن القيم - رحمه الله -:
أفضل ما اكتسبَتْه النفوسُ، وحصَّلته القلوب، ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة - هو العلم والإيمان؛ ولهذا قرن بينهما سبحانه في قوله: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 56]، وقوله: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11].
 
وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبُّه، والمؤهَّلون للمراتب العالية، ولكن أكثر الناس غالطون في حقيقة مسمى العلم والإيمان اللَّذينِ بهما السعادة والرفعة، وفي حقيقتهما، حتى إن كل طائفة تظنُّ أن ما معها من العلم والإيمان هو هذا الذي به تنالُ السعادةَ، وليس كذلك، بل أكثرهم ليس معهم إيمان يُنجي ولا علم يرفع، بل قد سدُّوا على نفوسِهم طُرُقَ العلم والإيمان اللَّذينِ جاء بهما الرسول ودعا إليهما الأمة، وكان عليهما هو وأصحابه من بعده وتابعوهم على منهاجهم وآثارهم"؛ اهـ[4].
 
قلت:
وينبغي على مَن آمَن بلسانه ولم يُؤمِن بقلبه، وتكبَّر بعلمه، وكفر بنعمة الله تعالى عليه، وأبى أن يكون علمه وإنجازاته في حدود الشرع المطهَّر، ورد فضل علمه إليه وحده لذكائه وخبرته وحنكته، وحاد عن الإيمان والطريق القويم - أن يعلم أن الله تعالى هو العليم الحكيم، وإليه ينتهي العلم والحكمة، وهو الفقير إلى رحمته وكرمه وفضله، وهو سبحانه - جل جلاله - غنيٌّ عن العالمين، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15].
 
قال السعدي - رحمه الله -: يُخاطِب تعالى جميع الناس، ويخبرهم بحالهم ووصفهم، وأنهم فقراء إلى الله من جميع الوجوه:
فقراء في إيجادهم؛ فلولا إيجاده إياهم، لم يُوجَدوا.
 
فقراء في إعدادِهم بالقوى والأعضاء والجوارح، التي لولا إعدادُه إياهم بها، لما استعدوا لأي عمل كان.
 
فقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق والنِّعم الظاهرة والباطنة، فلولا فضلُه وإحسانه وتيسيره الأمور، لَما حصل لهم من الرزق والنعم شيء.
 
فقراء في صرفِ النِّقم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الكروب والشدائد؛ فلولا دفعه عنهم، وتفريجه لكرباتهم، وإزالته لعسرهم، لاستمرَّت عليهم المكاره والشدائد.
 
فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية، وأجناس التدبير.
 
فقراء إليه في تألُّهِهم له وحبهم له وتعبدهم، وإخلاص العبادة له تعالى، فلو لم يُوفِّقهم لذلك، لهلكوا وفسدت أرواحهم وقلوبهم وأحوالهم.
 
فقراء إليه في تعليمِهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم؛ فلولا تعليمه لم يتعلموا، ولولا توفيقه لم يصلحوا.
 
فهم فقراء بالذات إليه بكل معنى وبكل اعتبار، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أم لم يشعروا، ولكن الموفَّق منهم الذي لا يزال يشاهد فقرَه في كل حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع له ويسأله ألاَّ يكِلَه إلى نفسه طرفةَ عين، وأن يعينه على جميع أموره، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت، فهذا أحرى بالإعانة التامة من ربه وإلهه، الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها.
 
﴿ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾؛ أي: الذي له الغنى التامُّ من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق؛ وذلك لكمال صفاته، وكونها كلها صفات كمال، ونعوت جلال.
 
ومن غناه تعالى أن أغنى الخلق في الدنيا والآخرة، الحميد في ذاته وأسمائه؛ لأنها حسنى، وأوصافه؛ لكونها عليا، وأفعاله؛ لأنها فضل وإحسان وعدل وحكمة ورحمة، وفي أوامره ونواهيه، فهو الحميد على ما فيه، وعلى ما منه، وهو الحميد في غناه، الغني في حمده"؛ اهـ[5].
 

المحور الثاني
بيان أن العلوم الشرعية هي روح الأمة وعزتها
ورب الكعبة، لن تقومَ نهضةٌ حقيقيةٌ قائمة على الصدق والتفاني والتضحية لهذه الأمة إلا بالعودة إلى دين الله تعالى، والعمل بالشريعة الخاتمة، والتمسك بنصوص الوحيين كمنهج حياةٍ للأمة، والخروج من هذه الغيبوبة الدنيوية وشهواتها الزائلة، التي جعلتنا هلكى وصرعى نتخبَّط في دروبِها بلا غاية ولا هدف، تحت رحمة أعداء الدين وأذنابهم من خطباء الفتنة وأنصار الظَّلَمة، الذين جعلونا أذلة نُشكِّك في مصدرَي قوَّتنا وعزتنا: القرآن والسنة، ونتبع مبادئ وقوانين زادتْنا ضعفًا على ضعف، ووهنًا على وهن؛ حتى ذهبت ريحُنا، وضعُفَت شوكتنا، وتكاثرت علينا الأمم كما أخبرنا الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها))، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذٍ؟ قال: ((بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدورِ عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبِكم الوهن))، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت))[6].

ورضي الله عن الفاروق عمر عندما قالها واضحةً جليلةً لكل غافل وجاهل بعظمة الإسلام ورسالته، قال: "كنا أذلاَّء، فأعزنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة في غيره، أذلنا الله".
 
ونقولُها واضحةً جلية: إن أسباب النصر والتمكين بالعودة إلى ديننا وشريعتنا الغرَّاء، وفهمها وتطبيقها، والدعوة إليها بكل الوسائل الشرعية المتاحة، بلا إفراط أو تفريط، وهذه مسؤولية الأمراء والعلماء.
 
يقول ابن العثيمين:
"ولا شك أن العلم الكامل الذي هو محل الحمد والثناء هو العلم بالشريعة؛ ولذلك نقول: إن عصر النبوَّة هو عصر العلم، وليس عصرنا الآن هو عصر العلم الذي يمدح على الإطلاق، لكن ما كان منه نافعًا في الدين، فإنه يمدح عليه لهذا"؛ اهـ[7].
 
وقال - رحمه الله - في فتوى له بتصرف يسير:
لا شك أن الأصل هو العلوم الشرعية، ولا يمكن لإنسان أن يعبد الله حقَّ عبادته إلا بالعلم الشرعي، كما قال الله تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف: 108]، فلا بدَّ من العلم الشرعي الذي تقوم به حياة المرء في الدنيا والآخرة، ولا يمكن لأي دعوةٍ أن تقوم إلا وهي مبنيَّة على العلم.
 
وأضاف: والعلوم الشرعية تنقسم إلى قسمين:
قسم لا بد للإنسان من تعلُّمه، وهو ما يحتاجه في أمور دينه ودنياه.
 
وقسم آخر وهو فرض كفاية، فإنه هنا يمكن الموازنة بينه وبين ما تحتاجه الأمة من العلوم الأخرى التي ليست من العلوم الشرعية.
 
وكذلك العلوم الأخرى التي ليست من العلوم الشرعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 - قسم علوم ضارة، فيَحرُم تعلمها، ولا يجوز للإنسان أن يشتغل بهذه العلوم مهما تكن نتيجتها.
 
2 - قسم علوم نافعة، فإنه يتعلم منها ما فيه النفع.
 
3 - وقسم العلوم التي جهلُها لا يضر والعلم بها لا ينفع، وهذه لا ينبغي للطالب أن يقضي وقته في طلبها؛ اهـ[8].
 
قلت: والمسلمون اليوم بسبب محاربتهم واحتقارهم للعلم الشرعي وأهله، صار التخلف والجهل من سمات المجتمعات المسلمة، التي انتشرت في ربوعِها البدع والشركيات والخرافات والدجل، وطغت المعتقدات الباطلة على مصدرَي قوتهم وعزتهم: القرآن والسنة، إلا مَن رحم ربي، بل يرى بعض أحفاد أبي جهل - وهم منا، ويتكلمون بألسنتنا - أن الدين الإسلامي هو سبب تخلُّف المسلمين اليوم، كبُرَت كلمةً تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا.
 
وكيف يصح هذا القول، وقد ثبت عن النبي أنه قال: ((أنتم أعلم بأمر دنياكم))[9]؟!
قال ابن العثيمين:
"ومراده أنتم أعلم بأمور دنياكم، ليس بالأحكام الشرعية فيها، ولكن بتصريفها والتصرُّف فيها، فنحن أعلم بالدنيا من حيث الصناعة، أما من جهة الأحكام، فهي إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم"؛ اهـ.
 
والإسلام وشريعتُه لا يحارب العلوم الدنيوية النافعة التي تترقى بالبشرية، وتخدم الإنسانية؛ لتقرِّبها من الله تعالى، وتدرك عظمته وآياته في الآفاق، كما قال تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53].
 
وهذه دعوة صريحةٌ من القرآن للنظر والاستدلال والحث على العلم من أجل المعرفة واليقين، وسوف تظلُّ هذه الآية تُقرَأ بصيغة المستقبل؛ ليُدرِك العباد عظمةَ ربهم وخالقهم وحكمته وقدرته، والمتأمِّل للكثير من آيات القرآن يجد نفس الوتيرة في مخاطبة العقل والفكر والتدبر والحث على الفهم، ولا فهم إلا عن علم وإدراك، ولا علم إلا بالإيمان بالله ورسالته الخاتمة التي أشاحت بنورِها ظلمات الجاهلية والكفر، وأطاحت بطغيان الجبابرة والأكاسرة، وزادت من قيمة الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة.
 
والإنسان الذي يبتغي الحقَّ ويُدرِك قيمةَ العقل والعلم إنْ أدرك حقيقة المنهج الرباني للإسلام والغاية من الوجود، فسوف تتجلى له عظمة هذا الدين، وأنه رسالة الله للعالمين.
 
• قال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24].
 
قال السعدي - رحمه الله - في بيانها ما نصه:
"أي: فهلاَّ يتدبَّر هؤلاء المُعرِضون لكتاب الله، ويتأمَّلونه حق التأمل، فإنهم لو تدبَّروه، لدلَّهم على كل خير، ولحذَّرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية، ولبيَّن لهم الطريق الموصلة إلى الله وإلى جنته، ومكملاتها ومفسداتها، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء تحذر، ولعرَّفهم بربهم وأسمائه وصفاته وإحسانه، ولشوَّقهم إلى الثواب الجزيل، ورهَّبهم من العقاب الوبيل.

﴿ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾؛ أي: قد أغلق على ما فيها من الشر وأقفلت، فلا يدخلها خير أبدًا، هذا هو الواقع"؛ اهـ[10].
 
ولا نُعِيد ما سبق وبينَّاه سلفًا عن علماء المسلمين، الذين كان علمُهم الشرارةَ الأولى التي مهَّدت لنهضة أوروبا الحديثة؛ وإنما مرادنا هنا أن نُبيِّن أن العلوم الشرعية بصفة خاصة وغيرها من العلوم النافعة التي تندمج في إطارها وتعاليمها، ولا تخرج عن حدودها إلى ما حرم الله تعالى، وتساهم في خدمة العباد، وتترقى بهم إلى الأفضل والأسمى، وتساهم في سلوك طريق الحق والرشاد - هما منهج حياة الأمة وسبب قوتها وعزتها بين الأمم، دون أن يطغى هذا على ذاك ليحدثَ التوازن بين غرور العلم المادي الصِّرف وانطلاقاته التي لا يحدُّها حد، وبين الإيمان بمنهج الله تعالى وما أوحى به لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ ليحدث التجانس والجمع بين عبادة الله وطاعته وسعادة الإنسان دينًا ودنيا.
 
المحور الثالث
بيان أن حياة الأمة في الاهتمام بالعلم والعلماء
لا أغالي إن قلتُ: ما من دينٍ أجلَّ العلمَ وأهله كدينِ الإسلام، ويكفي أن أول آية نزلت منه على النبي الأمين صلى الله عليه وسلم هي قوله تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5].
 
قال البغوي - رحمه الله -:
أكثر المفسرين على أن هذه السورة أول سورةٍ نزلت من القرآن، وأول ما نزل خمس آيات من أولها إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ}؛ اهـ[11].
 
بل إن الله تعالى مدح أهل العلم ووصفهم بالخشية منه، وهي صفة جليلة، فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].
 
قال ابن العثيمين - رحمه الله -:
والخشية هي الخوفُ المَقْرونُ بالتعظيم، فهي أخص من الخوف، فكل خشية خوف، وليس كل خوف خشية؛ ولهذا يخاف الإنسان من الأسد ولكنه لا يخشاه، أما الله عز وجل، فإن الإنسان يخاف منه ويخشاه، قال الله تعالى: ﴿ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ﴾ [المائدة: 44]، ولكن مَن هم أهل الخشية حقًّا؟

أهل الخشية حقًّا هم العلماء، العلماء بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، الذين يعرفون ما لله - عز وجل - من الحِكَم والأسرار في مقدوراته ومشروعاته جل وعلا، وأنه - سبحانه وتعالى - كامل من كل الوجوه ليس في أفعاله نقصٌ، ولا في أحكامه نقص؛ فلهذا يخشَون الله عز وجل، وفي هذا دليلٌ على فضيلةِ العلم، وأنه من أسباب خشية الله، والإنسان إذا وُفِّق للخشية عُصِم من الذنوب، وإن أذنب استغفر وتاب إلى الله عز وجل؛ لأنه يخشى الله، يخافه، يُعظِّمه"؛ اهـ[12].

قلت: والمتأمِّل في القرآن والسنة يجدُ آيات بيِّنات، وأحاديث جَمَّة، تدل على أهمية العلم وكرامة العلماء في دين الإسلام؛ منها على سبيل المثال: قوله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]، والآية واضحةٌ لا تحتاج لبيانٍ أو شرح، وهي تمدح أهل العلم وتضعُهم في المكانة اللائقة بهم.
 
وقال تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: 11].
قال الشوكاني في بيانها ما مختصره:
في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيهما، ﴿ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾؛ أي: ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات عالية في الكرامة في الدنيا، والثواب في الآخرة، ومعنى الآية: أنه يرفع الذين آمنوا على مَن لم يؤمن درجات، ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات، فمن جمع بين الإيمان والعلم، رفعه الله بإيمانه درجات، ثم رفعه بعلمه درجات"؛ اهـ.
 
ومن السنة الصحيحة الكثير من الأدلة، وذكرنا بعضها، ونكتفي هنا بحديث: ((مَن سلك طريقًا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضعُ أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن العالِم ليستغفرُ له من في السموات ومَن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالِم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثةُ الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُورِّثوا دينارًا ولا درهمًا؛ إنما ورَّثوا العلم؛ فمن أخذه، أخذ بحظ وافر))[13].
 
ومن هذه الأدلة الشرعية من القرآن والسنة ينبغي أن نُنبِّه على مسألتين في غاية الأهمية والخطورة على حياة الأمة وتراثها الفكري والروحي.
 
المسألة الأولى: خطورة كتمِ العلم ومحاربة أهله:
خطورة كتم العلم وتهديد العلماء أو محاربتهم، ومنعهم من بيانِ أحكام الشريعة، والجهر بالحق من أهل الحل والعقد القائمين على أمر الأمة - عظيمٌ جدًّا، ولا تقوم أمةٌ على عقول وأهواء سفهائِها الذين ينشرون أفكارهم الضحلة دفاعًا عن عقيدةٍ أو فكر بشري شاذٍّ يُعادِي دين الله تعالى، ويلحد في صفاته وأسمائه، ويشرع للناس أحكامًا ما أنزل الله بها من سلطان، ولا أوحى بها إلى نبي من الأنبياء؛ وإنما حياة الأمم بالعلماء وأُولي الألباب منهم الذين يبينون ويستنبطون أحكام الشرع وما يُرضِي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في كل جديد مستحدث في دنيا الناس من نصوص الوحيَيْن، وفيهما الخير والكمال كله.
 
قال تعالى محذِّرًا العلماءَ والأمراء على السواء من كتم العلم، سواء كان كتمه من السلطان بترهيب علماء الأمة الثقات، ووضع العراقيل أمامهم لكتم شهادتهم وعلمهم، أو لخوف العلماء أنفسهم على حياتهم من السلطان، بعد أن أنعم عليهم بالعلم وأخذ منهم الميثاق، كما فعل أهل الكتاب فضلُّوا وأضلُّوا قومهم، فخسروا الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187].
 
قال السعدي - رحمه الله -:
الميثاق هو العهد الثقيل المؤكد، وهذا الميثاق أخذه الله تعالى على كل مَن أعطاه الله الكتبَ وعلَّمه العلم، أن يُبيِّن للناس ما يحتاجون إليه مما علمه الله، ولا يكتمهم ذلك، ويبخل عليهم به، خصوصًا إذا سألوه، أو وقع ما يوجب ذلك، فإن كل مَن عنده علم يجب عليه في تلك الحال أن يُبيِّنه، ويوضح الحق من الباطل.
 
فأما الموفَّقون، فقاموا بهذا أتم القيام، وعلَّموا الناس مما علمهم الله، ابتغاءَ مرضاة ربهم، وشفقةً على الخلق، وخوفًا من إثم الكتمان.
 
وأما الذين أوتوا الكتاب، من اليهود والنصارى ومن شابههم، فنبذوا هذه العهود والمواثيق وراء ظهورهم، فلم يعبؤوا بها، فكتموا الحق، وأظهَروا الباطل، تجرَّؤا على محارم الله، وتهاونوا بحقوق الله وحقوق الخلق، واشترَوا بذلك الكتمان ثمنًا قليلاً، وهو ما يحصل لهم - إن حصل - من بعض الرياسات والأموال الحقيرة من سفلتهم المتَّبِعين أهواءهم، المقدِّمين شهواتِهم على الحق، ﴿ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾؛ لأنه أخس العِوَض، والذي رغبوا عنه - وهو بيان الحق، الذي فيه السعادة الأبدية، والمصالح الدينية والدنيوية - أعظم المطالب وأجلُّها، فلم يختاروا الدنيء الخسيس ويتركوا الغالي النفيس، إلا لسوءِ حظِّهم وهوانِهم، وكونهم لا يصلحون لغير ما خلقوا له"؛ اهـ[14].
 
قلت: ولقد منَّ الله تعالى بفضله على العلماء من دون الخلق وجمعهم معه وملائكته المكرَّمين في الذَّود عن دينه بشهادة الحق وبيان سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولولا كرامتهم عنده - جل في علاه - ما شرَّفهم بالشهادة، قال تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18].
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
"وإذا كانت شهادة الله تتضمَّن بيانه للعباد ودلالته لهم وتعريفهم بما شهد به لنفسه، فلا بد أن يُعرِّفهم أنه شهد، فإن هذه الشهادة أعظم الشهادات، وإلا فلو شهد شهادةً لم يتمكَّن من العلم بها، لم ينتفع بذلك، ولم تقم عليهم حُجَّة بتلك الشهادة، كما أن المخلوق إذا كانت عنده شهادةٌ لم يُبيِّنها بل كتمها، لم ينتفع أحد بها ولم تقم بها حجة؛ ولهذا ذمَّ سبحانه مَن كتم العلم الذي أنزله وما فيه من الشهادة، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 140]؛ أي: عنده شهادة من الله وكتمها، وهو العلم الذي بيَّنه الله، فإنه خبر من الله وشهادة منه بما فيه.
 
وقد ذم مَن كتمه كما كتم بعضُ أهل الكتاب ما عندهم من الخبر والشهادة لإبراهيم وأهل بيته، وكتموا إسلامهم وما عندهم من الأخبار بمثل ما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم، وبصفته، وغير ذلك، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة: 159].
 
وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146]، والشهادة لا بدَّ فيها من علم الشاهد وصدقه وبيانه، لا يحصل مقصود الشهادة إلا بهذه الأمور؛ ولهذا ذمَّ مَن يكتمُ ويُحرِّفُ، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135]"؛ اهـ[15].
 

المسألة الثانية: مصيبة موت العلماء الثقات:
الموت حق ولا بد منه، فلم يكتب الله لأحدٍ الخلود حتى لمن اصطفاهم بالرسالة والنبوة، كما قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 57].
 
والعلماء خلقٌ من خلق الله لا بد أن يذوقوا سكرات الموت، ولكن موتهم يُؤدِّي لمصائب جَمَّة، من أعظمها ضياع العلم، ولا يخفى أن الناس في حاجة لبيان الحكم الشرعي الصحيح في الأمور المستجدَّة من العلماء العاملين أصحاب القلوب النيِّرة التقية، وقد أمرهم ربهم بسؤالهم، فقال - جل في علاه -: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43].
 
وبموتهم يضيع العلم، وينتشر الجهل والشرك، وتضيع السنن، وتكثر البدع والخرافات، ولن يجد الناس مَن يُبيِّن لهم الحق بعدهم إلا أشباه العلماء، وهم أهل هوى ودنيا، الذين يفتون الناس حسب أهوائهم واتجاهاتِهم، وما في هذا من فساد وإفساد، ولقد بيَّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الله لا يَنْزِعُ العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعًا، ولكن ينتزعُه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهَّال، يُستفتون فيُفتون برأيهم، فيَضلُّون ويُضِلُّون))[16].
 
وليعلم كل عالِم دنيا أن الله - جل جلاله - لم يخلُقِ الخلق عبثًا، ويدل على ذلك قولُه تعالى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [المؤمنون: 115، 116].
 
قال السعدي - رحمه الله -:
أي: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ ﴾ أيها الخلق ﴿ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ﴾؛ أي: سُدى وباطلاً، تأكلون وتشربون وتمرحون وتتمتعون بلذَّات الدنيا، ونتركُكم لا نأمركم ولا ننهاكم، ولا نثيبكم ولا نعاقبكم؟ ولهذا قال: ﴿ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ﴾ لا يخطر هذا ببالكم، ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ ﴾؛ أي: تعاظم وارتفع عن هذا الظن الباطل، الذي يرجع إلى القدح في حكمته، ﴿ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾، فكونه ملكًا للخلق كلهم حقًّا في صدقه ووعده ووعيده، مألوهًا معبودًا، لِما له من الكمال، ﴿ رَبُّ الْعَرْشِ الكريم ﴾ فما دونه من باب أولى، يمنع أن يخلقكم عبثًا"؛ اهـ[17].
 
وختامًا لهذا المبحث نقولها واضحةً مما بيناه من أدلة شرعية:
إن الإسلام ليس دينَ عبادة فقط، ولا يدعو لترك الدنيا والزهد فيها، وإهمال ما تستقيم به حياة الناس من علوم دنيوية نافعة، ومتطلبات فطرية ضرورية لا غنى للإنسان عنها، كما يفهم المتنطعون، فنكون عالةً على غيرنا، بل ينبغي الجمع بين الدين والدنيا، والسعي للأخذ بالأسباب في إطار تعاليم شريعتنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
 
وكفى بيانًا ودليلاً قاطعًا لكل مَن يريد عزل الدين عن الدنيا؛ لأنها دار بلاء وفتن، ويذم مَن يبتغي الإصلاح فيها والاستفادة منها مما أباحه الشرع من الطيبات والعلوم التي لا تستقيم حياةُ الإنسان إلا بها - قولُ الله تعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77]، وللحديث بقية إن شاء الله.
 
والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على النبي الآمين
وعلى آله وصحبه أجمعين.



[1] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/ 59).


[2] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/ 40).


[3] تفسير العلامة محمد العثيمين - مصدر الكتاب: موقع العلامة العثيمين (3/ 167).


[4] انظر: الفوائد؛ لابن قيم الجوزية ص103.


[5] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/ 687).


[6] أخرجه أبو داود (4297)، وصحح الألباني إسناده في الصحيحة برقم 958، والمشكاة برقم 5369.


[7] تفسير العلامة محمد العثيمين - مصدر الكتاب: موقع العلامة العثيمين (4/113).


[8] انظر: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - جمع وترتيب/ فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، (26/53) سؤال رقم 17.


[9] أخرجه مسلم برقم 4358 - باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا دون ما ذكره من معايش الدنيا.


[10] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/ 788 - 789).


[11] انظر: تفسير معالم التنزيل؛ للإمام البغوي (8/474).


[12] شرح رياض الصالحين؛ لمحمد بن صالح بن محمد العثيمين (1/1579)، باب فضل السماحة في البيع.


[13] انظر: حديث رقم: 6297 في صحيح الجامع.


[14] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/160).


[15] مجموع الفتاوى؛ لابن تيمية (14/ 186)، فصل: وإذا كانت شهادة الله.


[16] أخرجاه في الصحيحين؛ البخاري برقم 6763- باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس، ومسلم برقم 4829 - باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان.


[17] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/ 560).

شارك المقال

ساهم - قرآن ٢