نتائج مهمة للتدرج في الدعوة إلى الله
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
نتائج مهمة للتدرج في الدعوة إلى اللهأحمد الله تعالى وأُثنِي عليه بما هو أهله، فهو سبحانه المتفضِّل بالنِّعَم، وأشكرُه على توفيقه وهدايتِه، وأُصلِّي وأسلِّم على خاتم أنبيائه ورسله، وبعد:
فإن هذ المقالات - المنشورة قبل هذه المقالة - إنما هي دراسة قرآنية لسنة من سنن الله تعالى في الخلق والتكوين، وفي التعليم والتربية؛ لأن الوصول إلى الكمال لا يتم إلا خطوة خطوة، وشيئًا فشيئًا.
ليس بين الليل والنهار حدٌّ فاصل؛ وإنما يبدأ الصبح بالإسفار، والشمس تُشرِق ويشتد حرُّها شيئًا فشيئًا، وظلام الليل لا يأتينا فجأة؛ وإنما يبدأ بالشفق، وكذا القمر، فإنه يبدأ هلالاً ثم يكتمل نِصْفُه، ثم يستدير بدرًا بتدريجٍ ما أجملَه!
وظلام الكفر، وزَبَد الباطل، وظلمات الجهل: لا يمكن أن يُبدِّدها الدعاة المسلمون والمصلحون الصالحون في يوم وليلة، ولا يتم ذلك بالأماني والأوهام؛ إنما يتم بالعمل المخلص والجهد الدائب.
إن أهل الفجور يمكرُون بالليل والنهار للتَّرويج لفجورهم، وأنصار الباطل يدافعون عن باطلهم ويناصرونه، فأين أهل الخير وأنصار الحق من ذلك؟
أرى أن الكِفَّة راجحة لأنصار الباطل؛ فصوتهم أعلى، وسلطانهم أقوى، ولا منازع لهم!
إن هدم الأفكار المنحرفة والعقائد الباطلة، لا يتم إلا بقانون التدرج، كما أن بناء العقيدة الحقة وتكوين الجيل الرباني يحتاج إلى جهد وعمل، ووعي وانتباه، وصبر وأناة.
والبَدْء هو دراسة الواقع لتحديد الأدواء، ووصف الدواء، والدواء لا يُعطَى بجرعات عالية، ولا يُؤخَذ دفعةً واحدة؛ إنما يُعطَى بجرعات متزايدة أو متناقصة حسب حال المدعوين وبيئة الدعوة.
واستجابة الناس لداعي الله متفاوتة؛ لأن طبائع الناس وأخلاقهم، واستعدادهم لقَبول الحق أو رفضه - ليس في درجة واحدة: فمنهم المستجيب، ومنهم المجادل، ومنهم المعاند الرافض، ومنهم المعادي المحارب، ولا عجب في ذلك، فالناس معادِنُ كمعادن الأرض التي خُلِقوا منها:
• فمن حيث المادة؛ فالمادة التراب، وله حالات مختلفة، فيكون طينًا، أو صلصالاً، أو يتحوَّل إلى حمأٍ مسنونٍ.
• ومن حيث التكوين؛ فتتكون الأرض من عناصر ومركبات، (فلزَّات ولا فلزَّات وأشباه فلزَّات، وعناصر خاملة، وعناصر نادرة مشعَّة)، وكما تتدرج هذه العناصر في صفاتها، يختلف البشر كذلك في طبائعهم وأخلاقهم، وقَبولهم للحق أو رفضهم.
لقد عشتُ مع كتاب الله تعالى أقرؤه وأتدبَّره، وأنظر في سوره وآياته، وأُتابِع ترتيب المصحف، وأبحثُ في ترتيب النزول، وأستخرج بعض سننِه، وأقف منبهرًا أمام عظمته وإعجازه وروعته، ووجدت فيه ضالَّتي، فكان كتاب الله تعالى هو المرجعَ الأساس في هذا البحث، وثبت لديَّ أن التدرج قانون إلهي، وسنة ربانية، ومنظومة كونية.
وأستطيع - بعون الله تعالى - أن أُلَخِّص نتائج هذا البحث فيما يلي:
أولاً: ثبت أن التدرج سنة إلهية في دعوة الأنبياء جميعًا، خصوصًا هؤلاء الرسل الكرام الذين ذكرتُهم في البحث، وهم:
أ- نوح عليه السلام: الذي مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا؛ حيث بدأ دعوته بالحوار الهادئ، والجدال بالتي هي أحسن، ورغَّبهم في نعيم الدنيا ومغفرة الذنوب، ولكنه وجد منهم إعراضًا وإصرارًا واستكبارًا، وأمام هذا العناد رفع شكواه إلى الله عز وجل، فأخبره تعالى أنه لن يستجيب له أحدٌ بعد ذلك، فدعا على قومِه بالهلاك، وكان ذلك في آخر أيام الدعوة، وبعد إخبار الله تعالى له أنه لن يُؤمِن أحد، فاستجاب الله لدعائه وأغرق القوم الكافرين.
ب- موسى عليه السلام: وقصته هي أكثر القصص سردًا في القرآن الكريم، لأسباب ذكرتها في البحث، وقد تجلَّى قانون التدرج في دعوته عليه السلام؛ حيث بدأ بالقول اللين، وبالمناظرات العقلية والسحرية، لكنه لَمَّا وجد أن فرعون يريد قتْلَه، والملأ من حوله موافِقون على إجهاض الدعوة، توجَّه موسى عليه السلام بالدعاء على فرعون وحاشيته، فأغرقهم الله تعالى وأنجى موسى وبني إسرائيل معه، فكانت الدعوة باللِّين أولاً، ثم التعنيف، ثم الدعاء عليهم بالهلاك.
جـ- إبراهيم عليه السلام: وقد سارت دعوتُه كذلك حسب سنة التدرُّج، وقد تمثَّل ذلك في دعوته لأبيه أولاً، وقد كان صانعًا للأصنام، وهكذا يكون البَدْء، وهذه هي الحكمة، وعلَّمنا عليه السلام كيف نُواجِه الخصوم باستدراجهم، وإقناعهم عن طرق زحزحة الخصم بموافقته ظاهرًا، ثم التدرج في الأدلة؛ حتى يتخلَّى المعاند صاحب الحجة الواهية عن عقيدته الزائفة الموروثة إلى دلائل الحق الجلية.
إن أصحاب المذاهب الوضعية يستخدمون أسلوب الإقناع القسري (غسيل المخ)، لإجبار الناس على اعتناق مذاهبهم، ولكن الإسلام يرشدنا إلى أساليبه النظيفة للوصول إلى الأهداف النبيلة، ويحترم في الإنسان عقله، فيُبيِّن له دلائل الحق وبراهين التوحيد؛ كي يصل إلى الإيمان الراسخ، ويحمل الحق قضية يعيش بها ومن أجلها؛ حتى تكون عنده أحبَّ إليه من كل شيء.
د- محمد صلى الله عليه وسلم: وقد تجلَّت سنة التدرج في كل مرحلة من مراحل دعوته، فبدأ الوحي بتدرج، ونزل القرآن مفرَّقًا حسب الوقائع، وكان البَدْء بالتوحيد، وبدعوة الأقربين، وفرضت التكاليف الشرعية بتدرج، وكان من حكم التدرج في دعوته ما يلي:
1- مراعاة بيئة الدعوة، وهذا من فقه الواقع.
2- مراعاة أحوال المدعوين، فكانت القضايا المطروحة هي:
أ- إبطال منطق الكفر، المتمثِّل في عبادة الأصنام.
ب- بيان دلائل التوحيد.
جـ- بيان أحوال السابقين.
د- إثبات البعث والنشور.
هـ- إثبات صدق الرسول، وأن القرآن الكريم نزل من عند الله عز وجل.
3- الأمر بالصبر والاحتمال، خصوصًا في مكة.
4- نزول التشريعات في المدينة المنورة بعد الهجرة.
5- فرض التشريعات حسب قانون التدرج.
وإذا كان البَدْء بالتوحيد، وبالأقربين من التدرج في الدعوة، فإن الدعوة إلى التوحيد في ذاتها لا تخضع لقانون التدرج؛ لأن التوحيد من القضايا الكلية التي لا تقبل التجزئة ولا المساومة، ولا أنصاف الحلول، أما التدرج، فهو في الأمور الأخرى؛ كفرض العبادات، والنهي عن المحرمات، ومراتب الاحتساب، وتربية العبد الرباني، وإقامة الأمَّة الإسلامية، وغير ذلك.
ثانيًا: ثبت من خلال هذا البحث أن التدرج سنة ربانية، بل هو منظومة الخلق؛ ليُعلِّمنا الله تعالى الإعداد والتمهُّل، ليكون البناء محكمًا، فكل شيء خلقه الله تعالى بدأ بالأساس وبالأهم، وبيان ذلك:
1- خلق الأرض أولاً؛ لأنها الأساس للبنيان.
2- إعداد الأرض للحياة الإنسانية.
3- خلق السموات السبع.
4- خلق الإنسان، وقد تجلى فيه قانون التدرج كما يلي:
أ- خلق آدم من تراب وعلى مراحل متدرجة.
ب- خلق الجنين في بطن أمِّه على مراحل متدرجة.
ج- النمو الجسمي والنفسي والعقلي للإنسان منذ الولادة حتى الشيخوخة على مراحل متدرجة.
د- التفاوت في أخلاق البشر ودرجاتهم وأرزاقهم، حسب تقدير الله عز وجل، وكما أن معادِن الأرض متدرِّجة في صفاتها، فكذلك البشر متفاوتون في طبائعهم ومدى قَبولهم للحق أو رفضهم.
ومن هنا، فإن التربية كذلك تقوم على فقه التدرج من حيث:
1- مراعاة المراحل العمرية المختلفة.
2- مراعاة (كمِّ) و(كيف) الجرعات الدعوية.
3- تحديد نقطة البَدْء للوصول إلى الهدف من التربية، وهو بناء العبد الرباني.
ثالثًا: أهمية التدرج في الدعوة، وبيان ذلك:
1- أهمية إعداد الداعي المثال أولاً.
2- أهمية ملازمة الحكمة للدعوة، وبيان أنها:
• الإصابة.
• توفيق العمل بالعلم.
• اختيار الأنسب.
• البَدْء بالأهم.
• فقه الأولويات.
• فقه الواقع.
وأضيف إلى ذلك: (فقه التدرج).
3- أهمية أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومراتب الاحتساب - وَفْق فقه التدرج.
رابعًا: الأثر العظيم والنتائج الطيبة لاتِّباع فقه التدرج، وتمثل ذلك فيما يلي:
• قَبول التكاليف الشرعية بارتياح.
• سهولة تطبيق الأوامر الشرعية من حيث المرونة في اختيار الأنسب للمرحلة، وجواز الأخذ بالحكم المرحلي وصولاً إلى الحكم النهائي.
• انتشار الإسلام، وثبوت صلاحيته لقيادة الحياة الإنسانية إلى بر الأمان وسعادة الدنيا والآخرة.
• صمود الإسلام عقيدةً وشريعةً أمام الغارة التي يشنها الكفار والعلمانيون.
خامسًا: من أهم نتائج هذا البحث ما يلي:
• إذا كانت الدعوة لا تكون إلا بالحكمة، والحكمة قاضية بالتدرج، فإن التدرج هو (فقه الدعوة).
ومن هنا، فإن هذا البحث هو نواة لما سميتُه: [فقه التدرج]، ولله الحمد والمنة.