أرشيف المقالات

تركيا الصغيرة!!.

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
الأستاذ سيد قطب ها نحن أولاء نخوضها في الأيام حرباً صليبية جديدة، بل ها نحن أولاء نخوضها معركة من معار الحروب الصليبية القديمة.
.
فما خمدت قط نار هذه الحروب بيننا وبين الصليبيين.
. ها نحن هؤلاء نخوضها حرباً مقدسة في وادي النيل، وفي الشمال الإفريقي، وفي إيران، وفي العراق.
.
ولقد كسبنا الجولة الأولى في إيران العظيمة، ونحن في طريقنا إلى كسب الجولة الثانية في وادي النيل.
ولن يقف الشعب العراقي القوي المتحمس دون خطوات إيران، ولا دون خطوات الوادي.
والشمال الأفريقي كله يتأهب استعداد للوثبة الكبرى.
. الظل الأسود يتقلص.
.
ظل الاستعمار البغيض.
ظل الصليبية التي عجزت عن مكافحة الإسلام باسم الدين، فقامت بحركة التفاف عن طريق الاقتصاد، وعن طريق الثقافة، وعن طريق الاستعمار.
وهي تحمل الصليب في قلبها وتخبئه، بدل أن كان تشهره على الرؤوس وترسمه على الحراب والسيوف! الظل الأسود يتقلص، وحطام الاستعمار يتطاير، فتنحني عليه الأساطيل، تلتقطه غارقا من اليم، كما انحنى الطراد الإنجليزي (موربتيوس) ليلتقط بقايا الإمبراطورية من مياه إيران العظيمة! الظل الأسود يتقلص والراية الإسلامية الكبرى تنشر ظلالها الشفيفة الحبيبة، تنشرها وتنشر معها القوة والثقة واليقين في النصر؛ وتنشر معها العزة والاستعلاء على الذل والقهر. لقد ارتفعت هذه الراية الحبيبة فأنمت في شهر ما ظل حزب تودة الشيوعي يحاوله في عشر سنوات ولا يستطيع! وامتدت عدوى الضربة الإيرانية الإسلامية القوية إلى وادي النيل، ولا غضاضة في أن نسجل أن إيران قد سبقتنا، فإيران بضعة من جسم الوطن الإسلامي الحي، ولا غضاضة في أن تتحرك الكف لتصفع، قبل أن تتحرك القدم لتركل، ولا غضاضة في أن تتحرك الذراع لتضرب قبل أن تتحرك الرجل لتسحق! - والعراق على الإثر - فشعب العراق الأبي الفتى لا يقبل أن يكون متخلفاً.
.
إن بترول العراف سيؤمم، وإن معاهدة العراق ستلغي.
.
ستضرب العراق ضربتها الواحدة لتحقق بها ما حققت إيران وما حققت مصر في ضربتين متتاليتين.
.
والشمال الإفريقي كله على الإثر.
.
ويتطهر العالم الإسلامي.
.
يتطهر من أرجاس الصليبية الغربية، ومن عار الاستعمار الغربي.
الظل الأسود يتقلص.
ولن تعصمه قوة الأرض عن التقلص.
(لقد دالت دولة الرجل الأبيض) - كما يقول برتر أند رسل الفيلسوف الإنجليزي المعاصر - وتلك سنة الله في أرضه.
ولن تجد لسنة الله تبديلا. ولكن الصليبية التي لم يهدأ لها بال، ولم تغمض لها عين منذ القرن الحادي عشر إلى اللحظة الحاضرة.

هذه الصليبية لن تلفظ أنفاسها الأخيرة في الشرق إلا بعد أن تبذل طاقتها، وقبل أن تنثر كنانتها. إنها تدرك أن حركات التحرير في الشرق الإسلامي إن هي إلا صحوة العقيدة التي ظنتها الصليبية قد ماتت إلى الأبد.

إنها لا تخطيء عناصر هذه العقيدة الخالدة في وثبة التحرير الحاضرة، وفرنسا التي قادت الحروب الصليبية، فرنسا هذه أشد حساسية بذلك الروح الإسلامي النابض في كل حركات التحرير.
فهي تحذر من هذا الروح.
تحذر منه اليوم علانية، وتنذر خطر (العالم الإسلامي).
.
أحست به في قوة، وإن كانت طوال حياتها لم تنس وجوده، ولم تفتر عن مكافحته، كما لم تفتر إنجلترا وسواها من أمم العالم الغربي عن هذا الكفاح! وها هي ذي الصليبية تتجمع مرة أخرى لوقف المد الإسلامي الزاحف - ولكن هيهات! - لقد فات الموعد، ومضت عقارب الساعة ودارت دورة الفلك، وما عاد لقوة بشرية.
على الأرض أن تقف في وجه التيار. لقد انبثقت من ثنايا العدم باكستان.
وتفلتت من قبضة الاستعمار إندونيسيا وسوريا ولبنان.
وأفلتت من القراصنة إيران، وضربت مصر ضربتها المدوية، فوقفت الإمبراطورية المحطمة تترنح، وتطوح بيديها ورجليها في الهواء توهم الناس أنها قوية وأنها ستضرب، وإن هي إلا سكرات الموت، وصرعات الحمام! والشمال الإفريقي كله في الطريق، ولن يمتد الزمن طويلا قبل أن يضرب ضربته كذلك. الظل الأسود يتقلص، والراية الإسلامية ترتفع، وترف وخفق، والكتلة الثالثة تتجمع في ظل هذه الراية النورانية.
راية النصر والعزة والاستعلاء. وفي ضجة المعركة الفاضلة الأخيرة.
وفي عجيج الموقعة التي تحول سير التاريخ.
وفي اندفاع السيل المتدفق الفوار.
. في ثنايا هذا كله تتسلل من الصف ثعلبة غادرة، وتتخلف عن الميدان قطة لئيمة، وتتوارى عن الجمع فأرة حقيرة.
.
إنها.
.
تركيا الصغيرة! تركيا وحدها دون بقية العالم الإسلامي كله، تركيا وحدها هي التي تطعن مصر في ظهرها، وتتخنس مع أعداء الشرق، وأعداء الإسلام، وأعداء الإنسانية.
تركيا وحدها هي التي تقبل اليد التي صفعتها والقدم التي ركلتها.
تركيا وحدها هي التي تنحني على الخنجر الذي مزق أوصالها وأجهز على (الرجل المريض)! ويطير أمين جامعة الدول العربية إلى تركيا ثم يعود ليذيع البشرى على العرب بعودة تركيا إلى راية الإسلام وصفوف المسلمين.
.
ثم إذا تركيا هذه في مجلس الأمن تعانق إسرائيل! وتعلن مصر تحطيم النير الذي يشد عنقها إلى عجلة الإمبراطورية الفانية.
ويخرج شعبها يهتف للحرية، ويتنفس الصعداء.
.
ثم إذا تركيا هذه تحتج على هتاف الحرية من المصريين! وتتجمع الصليبية ممثلة في أمريكا وإنجلترا وفرنسا، فتتآمر على مصر المسلمة في صورة الدفاع المشترك، وترسل بسفرائها الثلاثة يحملون نتائج المؤامرة اللئيمة.
.
فإذا هم ثلاثة رابعهم كلبهم يحمل نفس النتائج! وإنها تركيا.
.
تركيا التي تستكثر على مصر أن ترفع رأسها، لأن الفلاحين العبيد لا يجوز أن يتحرروا.
.
هذه هي العقدة الحقيقية في نفس تركيا! والعقدة الأخرى هي الإيمان بأوربا والكفر بكل ما هو شرقي، وكل ما هو إسلامي، منذ أيام الانقلاب! إنها تركيا.
.
تركيا التي ما إن تصاب بكارثة أو زلزال حتى تتدفق عليها الأموال والتبرعات من هنا.
من المتمصرين الذين يعيشون في مصر، ومن خير مصر، ومن دماء مصر، وهواهم مع تركيا، واعتزازهم بالعنصر التركي وبالدم التركي! إن هذه الأموال التي تتدفق من مصر لهي دماء المصريين الكادحين، مقطرة ومكثفة ومبلورة.
فأما (الفلاحون) فهم الفلاحون.
هم العبيد.
هم رقيق الأرض.
وأما السادة فهم الذين يعتزون بالعنصر التركي وبالدم.
هم الذين يصوغون دماء الرقيق ذهبا يتقاطر على تركيا.
تركيا الخائنة لمصر وللشرق وللإسلام.
تركيا حليفة الصليبيين في القرن العشرين. إن الذين يعيشون هنالك في القصور على ضفاف البوسفور؛ حيث تجبي إليهم ثمرات العرق والكد والدماء من ضفاف الوادي.

إن هؤلاء الذين يطعمون تركيا الخائنة لحم المصريين وعظامهم.
وهم الذين يسقون تركيا الخائنة عرق المصريين ودمائهم (ولقد آن لمصر أن تضع لهذا كله حداً.
آن لمصر أن تمنع تسرب قرش واحد إلى تركيا الملعونة.
الملعونة من المسلمين أجمعين.
الملعونة من الإنسانية المنكوبة بالاستعمار في مشارق الأرض ومغاربها.
الملعونة من الأرض والسماء إلى يوم الدين. لقد آن أن تقول مصر لمن يعيشون في قصورهم هناك على ضفاف البوسفور.
إما أن تعيشوا هنالك من كدكم وعرقكم، أو في ضيافة تركيا التي تعتزون بها وتنتسبون إليها.
وإما أن تعودوا إلى مصر التي تطعمكم وتسقيكم.
فمصر لم تعد أمة من العبيد.
ولن تكون يوماً أمة من العبيد. إن العالم الإسلامي كله يتحفز للوثبة الكبرى.
وإن الكتلة الإسلامية كلها لتتأهب للظهور على المسرح العالمي، لتمسك بيدها ميزان التعادل والتوازن.
فلتلهث تركيا وهي تعدو في ذيل القافلة: قافلة الاستعمار وقافلة الصليبية.
وليركلها العالم الإسلامي بقدمه القوية.
فتركيا الصغيرة لم تعد ذات وزن في كفة الميزان.
لقد اختارت لنفسها أن تلهث وراء القافلة.
فلتلهث.
وليلهث معها المتمصرون والمتتركون.
.
ولكن لتعرف مكانها، ولتعرف عنوانها.
.
إنها.
.
إنها تركيا الصغيرة! سيد قطب

شارك الخبر

المرئيات-١