نملة غلبت إنسانا
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
نملة غلبت إنسانًاإذا كان الإنسان قد أعطاه الله العقل، والقوَّة في الجسم، وأنعم عليه بوسائل الدفاع عن النفس، وميَّزه على سائر خلقه بأحسن صورة، وهداه النَّجْدَين، إلا أنه قد ينسى نِعَم الله عليه، ويظن أن ما يمتلكه من قوة ونِعَم عظيمة قد حصل عليها بعلمه وإرادته، وقد يُفسِد بها أكثرَ مما يُصلح، وقد يُدمِّر الناسُ بعضهم بعضًا بنِعَم الله التي أعطاهم إياها، ويسيئون الظنَّ ببعضهم البعض.
ومَن أبدى ضعفه للآخرين لا يُرحَم، ومَن قدَّم اعتذاره لا يُعذَر، فأي خلق هؤلاء؟ هل هم حيواناتٌ يفترس القويُّ منهم الضعيف؟ أم بهم مسٌّ من الجن، فلا يُلَاموا بما يصنعون؟ بل إن بعض الحشرات أرحم من بعض الناس اليوم، إنه أمرٌ يُحيِّر أولي الألباب، وأشد منه حيرةً المفارقة بين ما يفعله الإنسان من ظلم وبغي وعدوان على إخوانه، وبين قول تلك النملة الصغيرة، عندما رأت سليمان وجنودَه مُقبلين، لا يرون ما تحتهم، ولا تكاد تميِّز منهم الرحيم من الجبار، فصاحت في جماعتِها نذيرةً ومرشدة ومربية لهم في نفس الوقت: ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 18].
يا ألله! ما أعظمك، وما أعظم خلقك، سبحانك ربنا! مخلوقة صغيرة لا تكاد تُرى من بعيد، ذات جسم صغير، ووزن خفيف، لكنها تحمل قلبًا كبيرًا مُلِئ بالعاطفة، وتربى على المحبة والرحمة، ويحمل مبادئ الحب والسلام، ونبذ العنف والظلم والإجرام، ومع ذلك كله، فإن ما تراه يحدث في العالم من انتهاكات واعتداءات تظن أنها غير مقصودة، وتظن أن العالم يحمل نفس المبادئ التي لديها، معتذرة لهم: ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 18].
فأرادت أن تربِّي بقيةَ النمل على أهم مبدأين عظيمين؛ وهما: (حسن الظن، والاعتذار للآخرين)، إنها رسالة لكل إنسان على وجه الأرض أن يتمسَّك بهذين المبدأين، والخلقين العظيمين؛ لأن عاقبة سوء الظن وخيمة، وقد تجرُّ إلى ما هو أعظم خطرًا منها؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ [الحجرات: 12]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث)).
كما أن هناك رسالةً أخرى لكل إنسان على وجه الأرض، وهي: (إن كنت قويًّا، فلا تظنَّ أن العالم الذي تواجهه كله مثلك أقوياء، فقد تواجه الضعيف، والصغير، والشيخ، والمرأة، فكن رحيمًا بالآخرين).
يا سادة يا كرام، الحب والرحمة من أكبر عوامل السلام بين الناس؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحَموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء))؛ (الترمذي).
فهل طبَّق الناس اليوم هذه المعانيَ العظيمة التي حثَّ عليها المصطفى صلى الله عليه وسلم، أم تجاهلوها وكأنهم ما سمِعوا بها، حتى تجاوزوا الحد في طغيانهم وظلمهم للآخرين؟!
وتذكروا قول الرحيم بأمَّتِه صلى الله عليه وسلم: ((مَن لا يرحم لا يُرحم))، فاسمَعوا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا، وهو يوجه الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعدم مزاحمةِ الضعفاء حتى في العبادة التي أمر الله بها، فكيف بمَن يزاحم الآخرين حقوقَهم التي هي من أملاكهم، وخاصة الضعفاء الذين لا ناصر لهم إلا الله؟ فنِعْم المولى ونِعْم النصير.
كان عمر رضوان الله عليه رجلًا قويًّا، وكان يزاحم على الركن، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا حفص، إنك رجل قوي، وإنك تزاحم على الركن، فتؤذي الضعيف، فإذا رأيت منه خلوة فاستلمه، وإلا فكبِّر وامضِه))؛ مسند ابن عباس: 1 /86.
وعن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((إنك رجل قوي، فلا تزاحم فتؤذي الضعيف، إن وجدت فرجةً فاستلِمْه؛ وإلا فاستقبِلْه وهلِّل وكبِّر))؛ شرح مسلم لابن عثيمين: 4 /354، خلاصة حكم المحدث: فيه ضعف، ولكنه قد يتقوى [بغيره].
إنه توجيهٌ نبوي عظيم من الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، ولكل مسلم على وجه الأرض، بأن يتنازل الأقوياء للضعفاء، حتى عن المستحبات والفضائل؛ من أجل الرحمة بهم، ونشر معاني الأمن والسلام، من خلال التعامل مع الآخرين، هذا هو ديننا، إنه الإسلام، دين الرحمة والمحبة والسلام، جعَلنا الله وإياكم من أهل الإسلام والسلام.
وهناك رسالة أخيرة لكل إنسان أيضًا، وهي: (رُبَّ مخلوق صغير يحتقرُه الآخرون، لكنه يحمل قلبًا رحيمًا، وعقلًا راجحًا، خيرًا مما يمتلكه الأقوياء من عُدَّة وعتاد).
إنَّ ما يحدث اليوم من ظلم الشعوب بعضها لبعض، غير مبالين بصياح الأطفال والنساء، وتشريد الأسر وتهجيرها، وهَتْك لأعراض المسلمين، ما هو إلا نوع من قساوة القلوب التي نُزِعت منها الرحمة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
فعلينا جميعًا أن نُساهِم في دعوة العالم أجمع إلى نصرة المظلوم، ونشر الأمن والسلام، ونَبْذ العنف والظلم بأنواعه، من خلال دعوتهم إلى تدبر آيات القرآن الكريم، وبث سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، في الرحمة بالضعفاء، والعدل بين الناس، فإذا قرؤوها عرَفوا الإسلام ودعوته.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته