أرشيف المقالات

ميراث لا وارث له

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
للأستاذ عبد الله عفيفي بك لعلنا أعظم الأمم ميراثا من الذكريات ولعلنا كذلك أقل الأمم نصيبا من هذا الميراث العظيم. ما تمر بالمسلمين أيام حتى تساق إليهم ذكرى ينحني لها تاريخ الإنسان، وفي سياق هذه الذكرى تسمع الرأي الثاقب، والقول المهذب، والشرح والتحليل؛ ثم تنطوي تلك الصفحة، ولا يذكر الناس إلا أن شاعراً أرّق من شاعر، وكاتباً أبين من كاتب، وخطيباً أفصح من خطيب!! وما أسرع ما تستيقظ المشاعر وينتبه الرأي ويثور الوجدان! ولكن شيئا واحدا لا يستيقظ، ولا ينتبه، ولا يثور، وهو الروح.

والروح وحده مصدر الحياة ومصدر القوة ومصدر العزم ومصدر الاحتمال.
وليس بشيء أن تنتبه المشاعر، وتنفطر القلوب؛ فحسب المشاعر لتنتبه، وحسب القلوب لتنفطر، كلمة باكية من ممثل موهوب.
وليس بشيء أن يستيقظ الرأي، ويثوب التفكير، فما من أحد من المسلمين لا يعلم علماً لاشك فيه كيف كان المسلمون، وإلام صاروا، وما الذي أخافهم بعد أمن، وبددهم بعد التئام.
ما من رجل تراه إلا يعيب الخطيئة بلسان طلق وأسلوب مبين، ثم يجترح الخطيئة بقوة جامحة وهوى مبيح نحن إذن لا نشكو ضعف الرأي ولا هوان الشعور، ولكننا نشكو خمود الروح وضعف الروح ومن خمود الروح أن نرى الحق يثقل على الناطق به، والمستمع له، فلا ترى لرسالة الحق من وليّ ولا نصير ومن خمود الروح أن نبدأ العمل بقوة صاخبة، ثم ما يزال يذوي ويتساقط ويتبدد ذووه حتى ينقضي أثره ويصير خبره حديث السامرين، وسخرية الشامتين ومن خمود الروح أن نأخذ الهين التافه والغث المبتذل من ألوان المدنية، ونترك القيّم المكين الذي يحتاج إلى جهد وإيثار، حتى أصبحت حياتنا مجموعة من المناظر والصور والأشك ففيم الذكرى؟ وفيم القصائد والخطب؟ وفيم الفصول المتناسقة والبحوث المتلاصقة؟ وفيم الكلام عن رسول الله، وأعتقد أن لو بعث رسول الله بعثاً ثانياً للقي من تخاذل هذا العالم أضعاف ما لقي من عناد العالم الأول.
كان يجد عالماً مملوءاً بالكيد والأنانية والخداع والرياء - رياء في الدين ورياء في الدنيا، وبيع لجانب الله بالثمن الخسيس من جاه زائف ودنيا زائلة أرأيت كيف بعث محمد رسول الله عربياً، وكيف قامت رسالته على سواعد العرب؟ لم يكن العرب في شيء من عظمة الدولة، ولا نظام الجماعة، ولا سمو الفكرة، ولا علو الحياة ولكنهم كانوا في الذروة العليا من يقظة الروح وقوة الروح وبهذا الروح اليقظ القوي كانوا يعافون الضيم ويأبون الهوان، ويؤثرون النار على العار.
وكان الرجل يقول الكلمة فيرتهنها بروحه وأرواح ولده وأهله وعشيرته.
وكانوا يشبون الحرب لكلمة جارحة تصيب أدناهم، وقد يصمدون لها أربعين عاما وكان هذا الروح اليقظ أو هذا الأتون المشتعل في حاجة إلى من يوجهه ويهديه الطريق القويم وبهذا التوجيه تمت المعجزة التي لم تشابهها معجزة في الوجود فأخرج رسول الله من أبناء الصحراء الغارقين في الدماء، الخابطين في الجهالة الجهلاء، أعلام العلم، وأقطاب الحكمة، وأئمة السياسة، وأبطال الحرب، وكواكب الهداية، وهؤلاء الذين كافحوا في نطاق فارس والروم، ملكوا فارس والروم، وما وراء فارس والروم في طرفة عين ولعل أروع حادث تمثلت فيه يقظة الروح وقوته وسطوعه بنور الإيمان حادث الهجرة.
وما ظنك بهذا الرسول الأمين، وهو في غار نشر الموت ظله عليه، وأطل برأسه على من فيه، فالسيوف الطائشة الظامئة تترصده، والوحشة والظلمات والهوام القاتلة تطبق عليه - ما ظنك بهذا الرسول الكريم وهو في تلك الحال يقول لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا؟!! ثلاثة أيام تتقطع في كل ساعة من ساعاتها نياط القلوب ورسول الله أثبت قلباً من ذلك الجبل الذي يضم ذلك الغار وهذه الأيام الثلاثة تتمم ثلاثة عشر عاماً أقام بها محمد ﷺ يدعو أهل مكة إلى الله ولم يكن في يوم من أيامها أخف عبئاً ولا أقل اقتحاماً من هذه الليالي الثلاث وفي ظل ذلك الموت الجاثم على الجبل وما حوله في ليالي الغار كانت الصبية أسماء بنت أبي بكر تحمل الزاد والماء كل ليلة من دار أبيها فما تزال تخوض بحراً من رمال الصحراء، ترفعها رافعة، وتخفضها خافضة، حتى ترتقي الجبل، وتصل إلى الغار، فتقدم الزاد وتلقي ما تعلمه من خبر مكة ثم تعود في جنح الليل، فلا ينبثق الصبح إلا وهي في فراشها كأنه لم يكن ثم شيء وما كان أقوى تلك الطفلة الناشئة أسماء بنت أبي بكر حين اقتحم رجال قريش عليها البيت وامتحنوها بألوان من العذاب لتدلهم على مكان أبيها فما كان لهم منها من جواب، ولطمها الشريف النذل أبو جهل بن هشام لطمة أطارت قرطها من أذنها لتتكلم فما نطقت إلا بعبرة واحدة سقطت من عينها على الأرض هي إذاً روح قوي شديد كان ينتظم كل مسلم ومسلمة ولا يقف أمام هذا الروح شيء مما عساه يعترض الناس فهل في الإمكان أن يستيقظ الروح في صدور مسلمي هذه الأيام؟ إن هذه الأرواح كالأجساد، تختلف عليها الصحة والمرض، والقوة والوهن، والنشاط والخمول؛ وهي كالنحل تجتمع على اليعسوب القوي، وكالجند تقوى بالقائد الفادي المجيد.
فهل يقوم في المسلمين داعية من دعاة الله يهب نفسه لله، ويفني ذاته في ذات الله؟ داعية واحد لا يقوم بينه وبين الله شيء، لا يجمع المال ولا ينشد الجاه، ولا يؤثر نعمة الحياة على رضا الله.

وهو خليق إن وجد أن يجتمع حوله رجال على غراره.

داعية واحد من هذا الطراز إذا وجد أثمر الأمل وصحت الأحلام فهل يقوم المهدي المنتظر؟ لا أدري.
.
لعل أوانه قد آن عبد الله عفيفي

شارك الخبر

المرئيات-١