الدعايا السوداء والحرب على الإسلام - (4) - رحاب حسَّان
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
ثقافة الأغبياء:هذا الجزء يتناول الموضوع مِن جانب نفسي، ويرتبط بوسائل الاتِّصال ذاتها، ومدى تحكمها -سواء بقصد أم دون قصد- في تشكيل رؤية جديدة، تكوِّن وعي المتلقِّي، وتؤثِّر ضمنًا على ردود أفعاله؛ بل على سُلُوكيَّاته المختلفة.
فتقنية الاتِّصال -في الإعلام المرئي والسمعي على وجْه الخصوص- يمكن أن تضيف بذاتها بُعدًا جديدًا إلى العملية التضليليَّة، والواقع أن شَكْل الاتِّصال على النحو الذي تطوَّر به في البلدان، هو تجسيد فعْلِيٌّ للتحكُّم في الوعي، وذلك عن طريق تقنيتين:
الأولى: تقنية التجزيئية (Fragementation):
بوصْفها شكْلاً للاتِّصال، ويلاحظ فرير أن: "إحدى السمات المميزة للعمل الثقافي القمعي، التي لا يدركها أبدًا المتخصِّصون المخلصون والسُّذَّج في وقت واحد، والمشاركون في النشاط الدائر -هي التأكيد على النظرة التي تحصر المشكلات في بؤر Focalized View، بدلاً من رؤيتها بوصْفها أبعادًا لكلِّ واحد، فالتجزيئية، أو الحصر داخل بؤر، هو الشكل العام السائد والوحيد في الواقع لعملية توزيع المعلومات والأخبار.
فأخبار المذياع والتلفزيون تتَّسم بطابع التكرار الآلي -آلية طلقات المدفع- لموضوعات كثيرة لا رابط بينها، أما الصحف فهي حشْد منَ الصفحات المحشوة، والتي يتم تدبيجها على نحو جزافي في أغلب الأحيان، وتؤدي اللامبالاة الكاملة التي يتعامل بها الإعلان مع أيِّ حدث سياسي، أو اجتماعي بإصراره على إقحام نفسه عنوة، بغَضِّ النظر عن طبيعة الموضوع إلى اختزال جميع الظواهر الاجتماعية، إلى مجرد حوادث غريبة، لا معنى لها.
فالإقحام العرَضي لموضوع خلافي، أو لشخصية مثيرة للجدل في برنامج متعدد الفقرات -يؤدي إلى تهدئة وتسطيح أي جدل يمكن أن يثار، وسرعان ما يتوارَى كل ما قيل من آراء، خلف ما يعرض بعد ذلك من إعلانات، ونكات، ودردشات، أو أخبار اجتماعية خفيفة؛ لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فبرامج هذه طبيعتها يتم جيدها بوصفها شاهدًا على التسامح المطلق، وتتباهى وسائل الإعلام والمسيطرون عليها، بانفتاح الجهاز الإعلامي الذي يسمح بإذاعة تلك المادة النقدية على الأمة، ويقبل جمهور المشاهدين بهذا الكلام، ويقنع تمامًا بأنه يحصل على تدفق حر للآراء"[1].
إنها ثقافة الأغبياء، والتي تساعد على تمييع الشخصية المسلمة، وجعلها كالفسيفساء في تناثرها وتجزئتها، وذلك بتنوع المواد المتاح مشاهدتها، بصورة تناقضية واضحة، فمن بعد نشرة أخبار مثججة بالدماء لكل من هو مسلم، يتم عرض برنامج أو فيلم، يتعارض قلبًا وقالبًا مع النشرة الإخبارية، وكأنهم يحاولون تدريبنا على قتْل المشاعر، وتدمير ولائنا، عن طريق جريمة التجزئة، والتي تنتهي آخرًا إلى شعور بالفتور واللامبالاة.
وكما قال الشاعر:
يَا مُسْلِمُونَ رَأَيْتُمْ *** جُرْحِي وَجُرْحَ إِبَائِي
رَأَيْتُمُ القَصْفَ يَعْلُو *** مَنَازِلَ الأَبْرِيَاءِ
يَشُبُّ لَيْلِي فَيَمْحُو *** بِالنَّارِ لَوْنَ المَسَاءِ
رَأَيْتُمُ الطِّفْلَ يَبْكِي *** مُشَرَّدًا فِي العَرَاءِ
مُسَائِلاً أَيْنَ بَيْتِي *** وَلُعْبَتِي وَرِدَائِي؟
رَأَيْتُمُ أَلْفَ مَيْتٍ *** مُضَرَّجٍ بالدِّمَاءِ
رأَيْتُمُونِي حَيَارَى *** يِا أَعْيُنَ الضُّعَفَاءِ
يَا لَيْتَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ *** إِذًا لَهَانَ بَلاَئِي
أَطْبَاقُكُمْ عَلَّمَتْكُمْ *** ثَقَافَةَ الأَغْبِيَاءِ
وَبَعْدَهُ حَفَلاَتٌ *** رَقْصٌ وَعُرْيُ نِسَاءِ
هَذَا الَّذِي عَلَّمَتْكُمْ *** فِي يَوْمِ مَوْتِ الحَيَاءِ
كُلُوا وَنَامُوا وَأَحْيُوا *** فِي اللَّيْلِ سُوقَ الفَضَاءِ
التقنية الثانية: فورية المتابعة الإعلامية (Immediacy of Information):
ولعل هذه التقنية الحديثة مِن أهم وأخطر الأسباب، التي تُفَسِّر ظاهرة التبايُن في ردود الأفعال؛ حيث توضِّح هذه الظاهرة أن الشعور بالسلبية والإحباط يتناسب تناسبًا طرديًّا مع هذه التقنية، وبالتالي تتفاوَت ردود الأفعال بتفاوت التأثُّر بها ومتابعتها.
"وتتمثَّل هذه التقنية في تسجيل الأحداث، والتعليق عليها فور وقوعها، فعند وقوع أزمة فعلية -أو حتى كاذبة- ينشأ جو هستيري محموم بعيد تمامًا عن المعقولية، ويؤدي الإحساس الزائف بالطابع الملح للأزمة، المترتب على الإصرار على فورية المتابعة إلى النفخ في أهمية الموضوع، ومِن ثَمَّ تكون الخطوة التالية إفراغَه من أيَّة أهمية.
ونتيجة لذلك تضعف القدرة على التمييز بين الدرجات المتباينة للأهمية، فالإعلان متلاحق السرعة عن تحطم طائرة، وعن جريمة اختلاس محلي، وعن إضراب ما، وعن موجة الحر الشديدة، يَتَحَدَّى أي حكم أو تقويم، وفي وضع كهذا يتم التخلِّي عن عملية الفرز العقلي، التي تساعد عادة على بلورة المعنى، ويتحَوَّل العقل إلى غربال تُصب من خلاله يوميًّا عشرات التصريحات والإعلانات، أقلُّها مهم، وأكثرها لا أهمية له، وبدلاً من أن يساعد الإعلام على تركيز الإدراك، وبلورة المعنى، نجده يسفر عن الإقرار الضمني اللاشعوري، بعدم القدرة على التعامُل مع موجات الأحداث المتلاحقة، التي تظل تطرق بإلحاح وعي المرء، فيتعين عليه دفاعًا عن النفس أن يخفض باستمرار الدرجة التي تبدأ معها حساسيته.
وليس مما يسهل فهم هذه التطورات، أن تنقل الأقمار الصناعية رسائل الأخبار كل تسعين ثانية، فالانشغال التام باللحظة يدمر الروابط الضرورية بالماضي"[2].
إن التدافع اللحظي للأخبار يجبر المستمع على الانفصال اللاشعوري بالماضي والتفكير الدائم في اللحظة الحالية، وهذا يفصلنا بلا شك عن رؤية قضايانا بشكل كلي مطلق ويجعلنا نستغرق فقط في التفاصيل الآنية بلا تخطيط ولا تدبير ولا ربط بين الحاضر والماضي لصناعة المستقبل.
وحين يتحكَّم الإعلام وتلك الدعاية في عقولنا، ليصبح مجرد عقل اصطناعي، يستقبل ما يريدونه منا، وحين تُغذي الثقافات المتهارجة عروقنا بالدماء الزرقاء، لا بدَّ حتمًا أن نطلق عليها حقًّا ثقافة الأغبياء، فالتقليد الأعمى لتلك التقنيات أصبح أمرًا مُسَلَّمًا به في عالمنا العربي؛ لذا ينبغي علينا كأفراد أن نطور الدفاع النقدي لدينا.
إن هذه الدعاية ووسائلها، لا تتحكم فينا إجبارًا ولا قهرًا؛ ولكن كما يقول (جي إي براون): "إن الدعايات لا تنجح عمومًا إلا حينما توجه إلى أفراد، يرغبون في الاستماع إليها، ويهضمون المعلومات المقدمة إليهم، ويعملون بمقتضاها إن أمكن وهذا لا يحدث إلا حينما يكون المجتمع المقصود بالدعاية في معنويات منخفضة، وحينما يكون قد بدأ يخسر المعركة فعلاً"[3].
أقولها لكل مَن أعزه الله بالإسلام: إن الإسلام لم يبخل يومًا، ولم تضق حروفه في سد هذا العجز الكائن، والذي يَتَمَثَّل في أهمية وجود عقلية نقدية للفرد المسلم، يستوعب جميع الثقافات، ثم يلفظ منها ما يخالف منهجه وعقيدته، ويحكم المسلم عقله في كل واردٍ يرد على جوارحه، فلا يستقيه بلا وعي، أو بوعْي منساق؛ يقول الله تعالى في كتابه الحكيم: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]، ويقول عز وجل: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8]، وقد أفهمنا إياها حبيبنا ومعلمنا الأكبر صلى الله عليه وسلم حين قال لحذيفة رضي الله عنه: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشْربها، نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيضَ مثلِ الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًّا، كالكوز مُجخيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب مِن هواه».
(الراوي: حذيفة بن اليمان، المحدث: مسلم، المصدر: المسند الصحيح، الصفحة أو الرقم: [144]،
خلاصة الدرجة: صحيح).
لنتأمل الحديث، ونتوقف عند كلمة «أنكرها»؛ لنستمع لتلك النصيحة الغالية التي يوجهها لنا النبي صلى الله عليه وسلم فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نتعامَل مع الأمور بنظرة مختلفة، أَمَرَنَا صلى الله عليه وسلم أن نراقبَ هذا المشهد عن قُرب، في قوله صلى الله عليه وسلم: «تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا»، ومن ثَمَّ يكون للقلب دورٌ في اصطيادها ولفظها بعيدًا، فإن رأينا شرًّا فلا نقبله؛ بل ننكره ولو بقلوبنا، فالإسلام لا يعرف السلبية، ولا يقبل الدونية أو الكسل، ولا يرضى بالانقياد والاستسلام، إنه دين البناء، دين العمل، دين الاجتهاد، يقول قتادة رحمه الله: "خلق الله تعالى الملائكة عقولاً بلا شهوات، وخلق البهائم شهوات بلا عقول، وخلق الإنسان له عقلٌ وشهوة، فمَن غلبت شهوته عقلَه، فهو كالبهائم، ومَن غلب عقله شهوته، فهو مع الملائكة، إلى أن قال: "الظاهر أن الكلام الآتي كلام ابن القيم "، وإذا تحرك سلطان العقل وقوي، استعان بجيش الصبر ؛ ولكن هذا السلطان وجنده لا يستقلان بمقاومة سلطان الهوى وجنده، فإن إشراق نور الهداية يلوح عليه[4]؛ يعني بذلك أن نور الهداية لا يشرق إلا باستخدام العقل، بالاستعانة بالصبر على الهوى وجندها من الفتن...
إلخ".
إنها كمال الحرية، وكمال العدل، تلك التي منحها الخالق سبحانه وتعالى لنا وعرفنا بها، عن طريق رسالة الإسلام؛ لنحكم عُقُولنا فيما نتشربه، هل هو سم أو عسل أو سم مخلوط بالعسل؟
لنشكل عقولنا، ومداركنا، ووعينا بأيدينا، لا بأيدي الآخرين، على منهاج من نور بهدي سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - وصحابته والتابعين.
------------------------------------
[1] "المتلاعبون بالعقول"؛ هربرت أ.
شيلر، ترجمة: عبدالسلام رضوان.
[2] نفس المصدر
[3] "أساليب الإقناع وغسيل الدماغ"؛ جي إي براون، ترجمة: د/ عبداللطيف الخياط.
[4] "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين"؛ لابن القيم.