عرفنا الحق فاتبعناه
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
عرفنا الحق فاتبعناهرضوا أم غضبوا نعم عرفنا الحق فاتبعناه ولا نبالي.
كنا بين قوم بِوَطننا المحبوب، نسير معهم حيث ساروا ونسلك الشعب التي يسلكون، اعتقاداً منا أنها - كما يقولون - مؤسسة على الكتاب والسنة.
وكنا على حسب ما يأمرنا الدين أطوع لأولئك القوم من بنانهم، فإن قاموا قمنا، وإن جلسوا جلسنا.
نبذل النفس والنفيس معهم في تشييد القباب وزخرفة القبور فإن أصابنا جدب استسقينا بمن دفن بهذه القبور من الموتى، وأن أبطأت علينا الإجابة سارعنا إلى تقديم القرابين وذبح الذبائح ونذر النذور الكثيرة من مطعوم وغيره لهؤلاء الموتى.
ونقف بين يدي خالقنا سبحانه وتعالى في اليوم والليلة خمس مرات نكرر فيها سبع عشرة مرة ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5، 6] أي لا نعبد إلا الله ولا نستعين على كل أمورنا إلا به، فإذا دهمنا أي أمر عكسنا الأمر ونقضنا العهد الذي وثقناه مع الله سبع عشرة مرة وذهبنا نستعين على ذلك الأمر بمن لو نبشنا قبره لا نجد فيه إلا ترباً أو عظاما نخرة، ونترك الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وإذا طلب من أحد منا حلف على تأكيد أمر من الأمور لا يقبله المحلوف له إلا على قبر من يعتقد فيه عقيدة باطلة إنه لا يمهل الكاذب ينتقل من مكانه خطوة واحدة فإن مرض لنا مريض عقدنا النذر بمال معلوم لأحد أصحاب تلك القباب، ولو قدر الله تعالى وشفى المريض كان حقاً علينا أن نفي بذلك النذر شكراً له وخوفاً من غضبه بزعمنا.
وننسى من بيده الشفاء والعافية والمرض والموت والحياة الذي إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون ﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ [النحل: 20، 21].
وهكذا كان قادتنا يحبذون لنا هذه الأعمال ويبذلون غاية جهدهم في تثبيتها في عقول الكبار وإنشاء الصغير عليها، ويعقدون الألوية لتحصيل ثمرات جهودهم من تلك النذور ويأكلونها أموالا باطلة وهمهم في الدنيا جمع هذه الأموال وملء بطونهم مما في أيدي الناس من بواد وحضار.
ولما تداولنا الأسفار واستقر بنا النوى وألقينا عصا التيسار في بلد الله الحرام ومهبط الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقر الله أعيننا برؤية الحق فيها قائماً ومنار الدين عالياً ورأينا أن قد قيض الله لهذه البلاد المقدسة من يقيم فيها حدود الله بين عباده ويرفع سيف الحق ليقطع دابر الباطل وأهله قارناً بين تلك الحالة في هذه البلاد المقدسة وبين ما عليه سادتنا وكبراؤنا في بلادنا التي بها نشأنا وبمعتقداتها تغذت أرواحنا فوجدنا الفرق بينهما بعيداً، فوقفت على رأس الطريق أسائل نفسي أيهما أسلك وأي العقيدتين أختار؟ ما كنت عليه، أم ما رأيته الآن في هذه البلاد المقدسة، فسمعت صارخاً من بين جوانحي يقول ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].
فنظرت ورائي إلى العقيدة القديمة الشائعة في بلادي علي أرى معها من قول الله وقول الرسول ما يؤيدها فلم أجد عليها أثارة من ذلك، وما رأيت معها إلا قال المشايخ فعل الآباء، هذه سنة الأجداد، وهذا ما نشأنا عليه، وهذا ما عليه سواد الأمة وعامتها وهذا هو المعروف والشائع في غالب الأقطار الإسلامية، فهل يعقل أن تكون هذه العقيدة بعد كل تلك الحجج والبراهين باطلة؟ فإذا كانت باطلة كيف يقر عليها هذا العدد العظيم؟ وكاد ذلك القول الزائف يملك علي إحساسي وشعوري فأقتنع به وأنصرف عن الاستماع إلى الحجة الأخرى، وكدت أمضي في طريق الأول مستهجناً ما عليه أهل هذه البلاد المقدسة الآن، فسمعت صوت العدل والإنصاف ردني عن غروري وأيقظني من غفلتي وألزمني أن أسمع حجة العقيدة الأخرى كما سمعت الأولى وإلا فيكون ذلك هو الإجحاف والظلم بعينه، ومن هنا ضل الكثير الذين يظلمون أنفسهم ويظلمون الحق بعدم استماع حجته والنظر في دليله.
أصغيت بقلب منصف وضمير عادل إلى حجج عقيدة أهل البلاد المقدسة فكان منها قول الله تعالى في كتابه ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الأعراف: 194] وقوله ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ﴾ [الإسراء: 56، 57] وقوله ﴿ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾[فاطر: 13، 14] وسمعنا قوله - صلى الله عليه وسلم - "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" وسمعنا من هذا القبيل ما لا يعد ولا يحصى من الآيات والأحاديث، وبحثنا فوجدنا أن هذا هو ما كان عليه سلف الأمة وخيارها في العصور الفاضلة، فوضعنا كلا الحجتين في ميزان العدل فرجحت حجة القرآن على تزيينات الشيطان، وعلت كلمة الله وحقت كلمة الهلاك والمحق على الزور وأهله المخرفين وقلنا كما قال مؤمنو الجن ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾ [الجن: 1، 2] ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81] نعم ولم نملك أنفسنا أن أصغينا وسمعنا واطعنا لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتركنا ما كان عليه آباؤنا وأجدادنا لأن الله لم يأمرنا أن نتبع آباءنا ولا أن نقلد شيوخنا بل قال ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 3، 4].
وبعد:
فإن النصيحة لكل إخواني المسلمين أن يزيلوا عن قلوبهم أغشية هذه الأباطيل وأن يمتعوا أبصارهم بنور الحق، وأن يطلقوا عقولهم وقلوبهم من هذه الأغلال التي طالما حالت بيننا وبين الهدى والرشاد.
أيها الناس:
لا يفتننكم الشيطان بغضب الأهل والأقارب أو السادة والرؤساء عليكم فإنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافوا الله وحده الذي بيده ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ﴾ [الطلاق: 3].
يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين.
المصدر: مجلة الإصلاح، العدد الرابع، ربيع الثاني سنة 1347هـ، صـ18