الرفق واللين في الدعوة إلى الله
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
الرفق واللين في الدعوة إلى اللهالرفق هو: (لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل، وهو ضد العنف)[1]، وهو مفتاح الداعية في الدخول إلى عقول المدعوين وقلوبهم.
فالناس يمقتون العنف وأصحابه، وينفرون بطبائعهم من الفظاظة والخشونة، ويألفون الرقة وأهلها[2]، وقد قال تعالى﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [3]، فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى قلب رفيق يسعهم ولا يضيق بجهلهم، ويجدون عنده الرعاية والرفق واللين، وهكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم[4].
وقد قيل:( لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، إلا من كان فيه خصال ثلاث: رفيق بما يأمر رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر عدل بما ينهى، عالم بما يأمر عالم بما ينهى)[5]، فصفة الرفق واللين من الصفات الضرورية للدعاة، لأثرها العظيم في قبول الدعوة، والتفاف الناس حول الدعاة وتصديقهم والتلقي منهم[6].
ورغم كونها الطريق الأمثل الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الإسلام وحث أتباعه عليه، إلا أن هناك أحوالًا يعدِلُ فيها إلى الشدة والقوة، لإزالة العوائق التي تمنع الاستجابة لهذه الدعوة.
وقد جاءت الآيات القرآنية تبين سلوك كلا الطريقين للدعوة إلى الإسلام، فقال تعالى ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [7]، وفي الوقت ذاته تأمر بجهاد الكفار والقسوة عليهم، كما في قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [8].
ومن المواطن التي يلزم إظهار القوة والشدة فيها:
عند إقامة الحدود والعقوبات، أو أمام أهل الفواحش المجاهرين بمعاصيهم، والمستخفين بالدين، فإظهار اللين والرفق والرافة بهذا الصنف، قلة غيرة، وضعف إيمان، وليس كما يظن أنه من رحمة الخلق ولين الجانب ومكارم الأخلاق، وإنما ذلك دياثة ومهانة، وإعانة على الإثم والعدوان[9].
كما يلزم إظهار القوة عند أخذ الأهبة والاستعداد لقتال الكفار، بإعداد آلات الحرب حسب الطاقة والإمكان والاستعداد[10]، وقد قال تعالى ﴿ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [11]، فالله تعالى حين يأمر بإعداد القوة على اختلاف أنواعها، يخبرهم بأن هذا الإعداد وهذا الرباط يرهب أعداء الله ويخوفهم حتى لا يفكروا في غزو المسلمين وقتالهم، وهذا ما يعرف بـ( السلم المسلح)، فالأعداء إذا رأوا الأمة الإسلامية لا عتاد لها ولا عدة ولا قدرة على رد أعدائها، أغراهم ذلك بقتالها[12].
وفي ذلك دعامة مؤثرة، لأن الحق إذا لم تسنده القوة، تغلب الباطل عليه، بل إن الحق القوي يجعل الناس ينظرون إليه بفهم وإعجاب من خلال نظرتهم إلى قوة المسلمين وشجاعتهم، ويعرفون للإسلام قدره لما يرون التضحيات المبذولة في سبيله[13].
فالحكمة أن تكون الدعوة ابتداء بالرفق واللين، فإذا اعترض معترض طريق هذه الدعوة، أو حاول صدها عن المضي في طريقها، فإن الحكمة حينئذ في دحره وتطهير الأرض من شره وفساده، لتصل هداية الله إلى الخلق[14].
وفي فتح مكة تلازم منهج الدعوة باللين والرفق، مع منهج القوة والشدة، فقد كان حسن إعداد النبي صلى الله عليه وسلم للجيش الإسلامي وتعبئته، غاية في القوة وشدة البأس، مما أوقع أهل مكة في الحيرة والذهول، وجردهم من روح المقاومة، وكذلك كان غاية في الرفق والرحمة بهم حين حرص على حقن دمائهم، وتجنب القتال إلا لضرورة، ورفض قول سعد بن عبادة رضي الله عنه: اليوم يوم الملحمة، وأكد أن الإسلام دين الرحمة والسلام، وقال: (( اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله قريشاً)).
وظهرت القوة في إهداره صلى الله عليه وسلم دماء نفر من أهل مكة، ممن تجرؤوا على حرمات الإسلام واشتد أذاهم على المسلمين، فجعلهم نكالا وموعظة لغيرهم، جزاء ما اقترفت أيديهم، فقتل بعضهم، واستطاع الباقون الحصول على الأمان، وهنا تغلب صفة الرحمة واللين والرفق عليه صلى الله عليه وسلم، فيعفو عنهم وعن سائر أهل مكة، ليستلّ من قلوبهم بواعث الحقد والضغينة، ويزيل من نفوسهم الغل ويطهرهم من رجس الجاهلية.
وقد كانت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في أنه يعطي كل مقام من رفق أو غلظة حقه، فكان بالمؤمنين رؤوفا رحيما، وبمن يرجوا إسلامهم صبورا حليما، ويغلظ على الكفار والجاحدين وينتقم لله تعالى ممن انتهكوا حرماته، وظلوا على كفرهم وغيهم.
فالداعية الحكيم إذن هو الذي ينهج الحكمة في تقدير الأمور، بقدرها المناسب، دون إفراط أو تفريط، ويقدم الدعوة بالشكل الملائم للمدعو وحالته، مراعياً في ذلك الظروف والأحوال الملائمة.
[1] فتح الباري 10 /449 ح 6024.
[2] انظر الاستيعاب في حياة الدعوة والداعية ص 33، وانظر منهج أهل السنة والجماعة في قضية التغيير ص 70.
[3] سورة آل عمران جزء من آية 159.
[4] بتصرف، في ظلال القرآن 1 /501.
[5] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أبو بكر الخلال ص 80.
[6] انظر من صفات الداعية، اللين والرفق ص 3، والدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة ص 39، وصفات الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ص 40.
[7] سورة النحل آية 125.
[8]سورة التحريم آية 9.
[9] بتصرف، دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية: تحقيق د.
محمد السيد الجليند 3/385، مؤسسة علوم القرآن دمشق -بيروت، ط:2، 1404هـ 1984م، وقد بين الإمام ابن القيم رحمه الله أن من مكايد الشيطان للإنسان، أنه يأمره بإعزاز نفسه وصونها حيث يكون رضى الله تعالى في إذلالها، كالجهاد والاحتساب، ويخيل إليه أنه بذلك يعرض نفسه للذل، مما يؤدي إلى عدم السماع منه بعد ذلك أو القبول منه، كما يأمره بإذلالها حيث تكون مصلحتها في إعزازها، فيأمره بالتبذل لأصحاب الرياسات ويخيل له بذلك أنه يرفع قدرها بالذل لهم.
انظر إغاثة اللهفان 1 /120.
[10] بتصرف، تفسير القرآن العظيم 4 /23.
[11] سورة الأنفال جزء من آية 60.
[12] بتصرف، أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير 2 /152.
[13] بتصرف، الدعوة الإسلامية، أصولها ووسائلها ص 261.
[14] بتصرف، أسباب نجاح الدعوة الإسلامية ص 235.