أرشيف المقالات

الحكمة وبعد النظر وحسن التنظيم والتخطيط للداعية

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
الحكمة وبعد النظر وحسن التنظيم والتخطيط للداعية

بعد النظر هو: الاستفادة من الحاضر في التخطيط للمستقبل، مع التمتع بموهبة الفراسة وحسن تقدير الأمور الراهنة، -وعكسه ضيق الأفق وقصر النظر- مع اتخاذ التدابير الضرورية لمعالجة كل أمر محتمل، دون أن يترك المصير للظروف المتغيرة[1]، بل يبذل الأسباب المناسبة للوصول إلى الغاية المطلوبة.
 
أما التنظيم فهو: العملية التي تفرق بين جزء وآخر من الناحية الوظيفية، وتنشئ في نفس الوقت كيانا مركبا متكاملا من العلاقات الوظيفية داخل الكيان الكلي.
 
أما التخطيط فهو: أسلوب في التنظيم، يهدف إلى استخدام الموارد البشرية والمادية والمعنوية، على أفضل وجه ممكن، بالتكلفة المثلى، والزمن الأمثل، وفقا لأهداف محددة، بعبارة أخرى: هو وضع الخطة التي يسير عليها العمل والقائمون به[2].
 
وهذه الصفات مهمة للداعية بشكل خاص إذا كان ضمن جهاز دعوي جماعي متكامل، يستلزم التفاهم بين الدعاة تنسيق خطواتهم في الدعوة، حيث يكمل بعضهم جهود بعض، ويكونون بمنأى عن الفوضوية والارتجالية، التي قد تثبط هممهم وتؤدي بهم إلى القعود والانقطاع عن الدعوة.
 
ومما يدل على حكمة تخطيطه وحسن تنظيمه صلى الله عليه وسلم: دعوته لمختلف القبائل العربية للسير معه، وقد أفاد من ذلك عدة أمور، منها: الكثرة العددية التي أخافت قريشا وأرعبتها، واستغلال العنصر القبلي الموجود عند العرب، حين تحرص كل قبيلة على نجاح هذه المسيرة، واعتباره شرفا لها، وقد نتج عن ذلك أن دفعت كل قبيلة بأعداد من رجالها وفرسانها لتنافس في الخير، ومن جهة أخرى فإن اشتراك هذا العدد الكبير من القبائل أحرج قريشا، وخذلها عن التفكير في مواجهة القبائل الكثيرة المتعددة[3].
 
ومما يدل على بعد نظر المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتحسبه لأسوأ الاحتمالات عند الإقدام على فتح مكة: حبسه لأبي سفيان رضي الله عنه عند مدخل الجبل حتى تمر به جيوش المسلمين، فيحدث قومه عما رآه عن بينة ويقين، ولكي لا يكون إسراعه في العودة إلى قريش- قبل أن تتحطم معنوياته وخطوطه الدفاعية- سببا لاحتمال وقوع أي مقاومة من قريش، مهما يكن نوعها ودرجة خطورتها، وفعلا اقتنع أبو سفيان بأن قوة المسلمين لا قبل لقريش بها[4].
 
كذلك حرص صلى الله عليه وسلم على الاستفادة من الجهود المبذولة للدعوة من الضياع أو الإخفاق، فاهتم بالإشراف على الدعاة ومتابعة أعمالهم التي انتدبهم لأجلها، لأن الشعور بالمتابعة المتمثلة في المساءلة والمجازاة، تقوي الإرادة وتشد العزيمة، وتحرِّص على الإتقان، أما إذا شعر الإنسان أن هناك إهمالا أو عدم متابعة من الآخرين، فإن همته قد تفتر وعزيمته تضعف، ولعل هذا من دوافع النبي صلى الله عليه وسلم في محاسبته لأصحابه في تصرفاتهم وسلوكياتهم[5]، كمتابعته للسرايا التي بعثها لتحطيم الأصنام ولدعوة إلى الله تعالى.
 
ومن حسن تنظيمه لأمور الحكم، انتدابه من ينوب عنه في المدينة أثناء غيابه، وتوليته عتاب بن أسيد رضي الله عنه أميرا على مكة بعد انضمامها تحت لواء الدولة الإسلامية، وصرف مرتب ثابت له ليتفرغ لأداء المهمة، وتنظيم شؤونها الإدارية مثل تعيين مؤذن المسجد الحرام وتعيين معلم لأهل مكة.
 
كما أن حسن استغلال الداعية لقدراته التخطيطية و التنظيمية في الدعوة، يعزز من قدرته على القيام بالدعوة بنجاح وإتقان، ويرسخ قدمه في طريقها، مما يساعد على بذل الجهود المدروسة بعناية، وتحقيق الأهداف المرسومة، فالوصول إلى النتائج الطيبة الدائمة -وإن كانت قليلة- خير من بذل الجهود الكبيرة الفوضوية الارتجالية والحصول على نتائج كبيرة ثم الانقطاع بعد ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(( سددوا[6] وقاربوا[7]، واعلموا أن لن يُدخل أحدكم عملُه الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قلّ))[8].
 
إن الدعاة هم الركن المؤثر في العملية الدعوية، وذلك يستلزم إعدادهم إعدادا خاصا يتناسب مع المهمة الملقاة على عواتقهم، بدءًا بمفاهيم مهمة تتعلق بالدعوة، لا بد لهم من فهمها واستيعابها: كأهمية نقاء مصدر التلقي، وإدراك الغاية من الدعوة، والتمييز بين التدرج في الدعوة إلى الله والتدرج في أمور الشريعة، وعدم الغفلة عن السنن الإلهية النافذة في الكون.
 
ومن القواعد المهمة في ذلك - والمستقاة من مشكاة النبوة -: مراعاة الشمول والتوازن في إعدادهم وتربيتهم، واستغلال الطاقات والمواهب وتنميتها، والاهتمام بالإعداد المعنوي للجهاد في سبيل الله إلى جانب الإعداد المادي، مع مراعاة عدم إغفال دور المرأة المسلمة في الدعوة إلى الله.
 
وإن كان الاتصاف بالصفات الحسنة الرفيعة، هو مطلب كل مسلم إلا أنه في حق الدعاة أولى، ومن ذلك الإخلاص لله تعالى، وصدق التوكل عليه والثقة بنصره، وعلو همة الداعية وقوة عزيمته، وحرصه على طلب العلم والتفقه في دين الله، مع العمل به، ومن أهم هذه الصفات التحلي بحسن الخلق، فهو مفتاح القلوب، كذلك التجمل بالحكمة، فهي ضالة المؤمن، مع الرفق بالمدعوين، والحرص على هدايتهم، والوقوف على طبائعهم ومعرفة أمثل الطرق للتعامل معهم، وذلك لا يأتي إلا بمخالطتهم والتعرف على أحوالهم.
 
ومن المهم كذلك للداعية معرفة أسباب صدود المدعوين وإعراضهم عن الدين الحق، والأمور التي يلزمه مراعاتها أثناء دعوتهم، ليكتب له القبول بإذن الله.



[1] بتصرف، الرسول القائد 349.


[2] بتصرف، فقه الأخوة في الإسلام ص 158.


[3] بتصرف، العبقرية العسكرية في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم: محمد فرج، ص 580، دار الفكر العربي ط: 3، 1977م، وانظر الآثار التشريعية في فتح مكة 1/ 409.


[4] بتصرف، الرسول القائد 349.


[5] بتصرف، آفات على الطريق 2/ 120


[6] أي اقصدوا السداد، أي الصواب، أي اتباع السنة من الإخلاص وغيره، ليقبل عملكم.
بتصرف،   فتح الباري 11/ 297 ح 6464.


[7] أي لا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة، لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال فتتركوا العمل فتفرطوا.
المرجع السابق الصفحة نفسها.


[8]صحيح البخاري كتاب الرقاق باب القصد والمداومة على العمل 7/ 182.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣