من الأدب الوجداني
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
(نفثة). أخرى! للأستاذ علي الطنطاوي توالت عليّ الذكريات، فألقيت كتابي، وأقبلت على ماضيَّ أفتش في حدائقه القاحلة عن وردة اخطأتها رياح الشتاء العاتية، وثلوجه وأمطاره، فتوارت في كنف صخرة، أو في حمى جدار، تكون صورة من الربيع الغابر، فلم أجد إلا رفات الأوراق التي كانت مخضرة زاهية، وهياكل الأشجار العارية التي كانت تلبس من حلل الربيع سندساً وحريراً، وقد خيم عليها الموت، وشملها برده القارس؛ فحولت وجهي شطر المستقبل، فلم ألق إلا ظلاماً فوقه ظلام، ووجدت حاضري راكداً ركود الفناء، ساكناً سكون العدم، فضاق صدري، وأغرقتني في بحرها الهموم، فجعلت أفتش عن رفيق يأخذ بيدي، وصديق أبثه همي، وأشكو إليه بثي، فلم أجد لي صديقاً إلا القراء، أولئك هم أصدقائي الذين لا أعرفهم، ولا أنتفع منهم بشيء، وما لي منهم إلا اعتقادي بأنهم يعطفون عليَّ، ولا يشاركون الحاسدين المؤذين حسدهم إياي وإيذائهم لي، فكتبت إليهم أحدثهم بشكاتي، وأروي لهم ذكرياتي.
ولعل هؤلاء القراء يضيقون بحديثي صدراً، ويعرضون عنه ويستثقلونه، ولعل اعتقادي بصداقتهم وهم من الأوهام، غير أنني لا أحب أن أرزأ هذا الوهم، ولا أن أتيقن فساده، لأني أعيش به في دنيا الحقائق المرة.
ومن كان مثلي غريباً في بلدته التي يعرف نصف أهلها ويعرفه ثلثاهم، يمشي في المدنية الحافلة بالناس مستوحشاً منفرداً كأنه في صحراء، لا يلقى إلا رجالاً، لا يثني تعدادهم أصابع اليدين يجول في هذه الحلقة المفرغة، لا منفذ له منها ولا مخرج، قد خلت حياته من الفرح والألم، وغدت كالماء الآسن، لا تموج فيه موجة ولا تحركه ريح؛ ومن كان يتمنى أن يجد ما يشغله، ويحرك سواكن نفسه، وما يدفعه إلى الفكر والعمل، ولو كان البلاء النازل، أو الحريق المشبوب، أو النفي أو السجن.
ومن كان يصبح فلا يدري ماذا يعمل في يومه، وكيف يدفع هذا اليوم، ويمسي فلا يعرف ماذا يصنع في مساءه، وكيف ينام ذلك الليل، ومن يحس بثقل الأفكار على عاتقه، ولكنه لا يجد إلى بثها سبيلاً، ويرى الوقت طويلاً والقوة حاضرة، ولكنه لا يعلم فيم ينفق وقته ويصرف قوته؛ ومن كان منعزلاً مثلي، لا زاهداً في الحياة ولا هرباً من معاركها، ولكن يأساً من مقبل أيامها، وقنوطاً من خيرها، فهو يخلو إلى ذكرياته يتعلل بها ويتمززها، ويحادثها ويناجيها، ويحيا في خيالات ماضيه حين عجز عن الحياة في حقيقة حاضره؛ ومن كان مثلي لا يشكو الفقر في اليد ولا في النفس، ولكن الفقر في العمل؛ ومن كان يجمد بحمد الله من المال ما يكفيه في يومه ويفضل عن حاجته، ولكنه لا يدري ما يكون في غده؛ ومن كانت شكواه فرط الحس، وحدة الشعور، وجحود الناس وكان يشكو دنياه يتقدم فيها الهجين، ويتأخر الجواد الكريم، دنيا فسد فيها كل شيء حتى غدا عقلائها ينتظرون الساعة. أدرك حقيقة حالي، وفهم مغزى مقالي، ولم يلمني مع اللائمين، ولا كان علي مع العداة الحاسدين.
وكم قال لي: ألا تنسى هذا الماضي وتستريح من ذكره؟ ألا تدع المستقبل وتطرح التأمل فيه؟ ألا تعلم أن ما مضى فات والمؤمل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها؟ فأقول: بلى، إني لأعلم ذلك، ولكن أين السبيل إلى النسيان؟ وإذا أنا نسيت كل شيء، فكيف أنسى أياماً عشتها لم أكن فيها الطائر المقصوص الجناح، ولا الغصن الذي قصفته الرياح، بل كنت أواجه العاصفة أستند إلى الجذع المتين، جذع السنديانة الراسخة، وأطير فوقها بجناحين قويين، فهاض الدهر جناحي، وكسر جذعي، حين أفقدني أمي، وصيرني عرضة للعواصف، وجعلني معها كالريشة لا تستقر على حال من القلق والذعر والاضطراب.
وكيف أنسى أنه لو عاش أبي العالم الوجيه ذو المرتب الضخم ولم تخترمه المنية شاباً، لاحتمينا به من كيد الحياة، ولنشأنا في ظله كما ينشأ الفرع اللين وسط الدوحة القوية الممتدة الأفنان، ولما اضطررنا إلى مواجهة الدنيا، والتمرس بنكباتها، ومعرفة لؤم أهلها، ونحن فتية صغار، أطهار القلوب، مبرؤون من الذنوب، لا نلبث حتى نتلوث بأوضار الكيد والمكر، ونتلقف مبادئ (علم الحياة.
) كما يتلقف الصبي المخطئ مبادئ (فن الجريمة) في السجن الأول، فلا يخرج منه حتى يحمل شهادة البكالوريا في الإجرام. وكيف أنسى ما نثرت من قطع قلبي، وفلذات كبدي، في أرض الله الواسعة التي لا ترعى حق العواطف، ولا تحفظ عهد القلوب، في سفح قاسيون الحبيب، وفي الغوطة الغناء.
وفي حرش بيروت الذي يميس صنوبرة ميسان الغيد الحسان، وقد خرجن متبرجات، ينظرن إلى مياه البحر بعيون لها زرقة ماءه، وله سرارها بعد قراره.
ذلك الحرش.
لي تحت كل شجرة منه ذكرى لا يدريها إلا الله وقلبي وذلك القلب الذي سلا وقلى.
وما سلوت ولا قليت، وما أذعت له سراً ولا أفشيت. وفي طريق صيدا، كم صببت من العواطف، واستودعت من الذكر؟ سلوا تلاميذي طلاب الكلية الشرعية في بيروت، ألم يشهد لنا هذا الطريق أنا كنا خير من مر به من إخوان متوادين، قد جمعت صداقتهم قلوبهم فمزجتها كلها، ثم قسمتها، ثم أعادتها إليهم، فعاشوا جميعاً بقلب واحد، والأصدقاء يعيشون بقلوب شتى. هؤلاء الأخوان الذي وفيت لهم فوفوا لي، وأحببتهم فأحبوني، ورأيت منهم لما رضيت فيهم ما لو تخيله القصصي الأديب لاستُكثر وعد مبالغة من المبالغات. وفي العراق كم خلفت من حياتي، وما الحياة إلا خفقات القلوب، وتردد الأنفاس، ومظاهر العواطف. على طريق الأعظمية، وفي الكرخ الأقصى في حي الجعيفر، وعلى الجسر في الأعظمية، وفي البصرة، وفي كركوك، بقع أعزة علي وقوم أحبة إلي، لولا خوفي من ألا يصدقوني لحلفت لهم أنه لم يطب لي بعدهم عيش، فهل يكتب الله العودة لتلك الليالي، فيجتمع الشمل، ويلتئم الصدع، وتلتقي الذكريات بالآمال؟ إني أسأل الله، فنبئوني، هل مد يده أديب بغداد الأستاذ الأثري، فقال: آمين؟ يقولون لي: انس، ولكن كيف السبيل إلى النسيان؟ وكيف أنسى أيامي في مصر، مصر التي محت صورها السنون من نفسي، فلم يبق منها (ويا أسفي!) إلا صورة ميدان باب الخلق مجازي في غدوي ورواحي، وحديقة الاستئناف التي كنت أتأملها وأنا في المطبعة (السلفية) عند خالي، والتي استودعتها من العواطف عداد أوراقها وأزهارها وحبات ترابها، ودار الكتب التي كان بها الشاعر الكبير حافظ رحمه الله، وشارع محمد علي، والعتبة الخضراء (الضيقة) التي لم تكن تخلو يوماً واحداً من ميت مدعوس، وصورة زقاق حوله أنقاض مهدمة ومنازل حقيرة بالية، كنت أمر به كل يوم في ترام السيدة، في ذهابي إلى دار العلوم وعودتي منها، يسمى شارع الخليج، زعموا أنه صار اليوم شارعاً عظيماً، وصار به بنيان.
وجسر الزمالك حيث كان يطيب لي الوقوف بازائه كل مساء، أتبع ببصري الشمس الغاربة، علي أرى فيها صورة بلدي دمشق، فلا أرى إلا بريق الشعاع الحاد يتكسر خلال الدموع التي تملأ عيني، دموع ابن العشرين، وقد هاج في نفسه الشوق الذي يسميه لامرتين (مرض السماء) لو كان في السماء أمراض. وصورة حديقة الجيزة، التي كنت أقضي فيها الساعات الطوال، آنس بوحوشها وهوامها، وصورة بستان إلى جانبها فيه عمال يبنون، قالوا: وقد تم البناء، وصار شيئاً عظيماً يدعى جامعة فؤاد الأول، والله أعلم بصحة ما قالوا. صدقوني إذا قلت لكم إني آسف على شيء مما صنعت في حياتي أو تركت أسفي على ترك مصر، ولا أطمع في شيء طمعي في العودة إليها والحياة فيها، فهي التي سددت خطواتي في طريق الأدب، وهي التي علمتني، وهي بلد أسرتي، وهي التي جعلتني قبل اثني عشر سنة أكتب وأنشر الفصول في أكرم المجلات، حين كان هؤلاء المحترمون من تلاميذ الشيخ مارسيه على مقاعد المدرسة الابتدائية. أفليس عجباً أني على حبي لمصر كنت في نظر بعض زملائنا المدرسين المصريين في العراق، عدو المصريين رقم (1)؟ سامح الله زملاءنا هؤلاء، وغفر لهم ما كادوا لي ومكروا بي، وغفر لي ما آذيتهم بلساني السليط! وكيف أنسى ما أضعت على نفسي من خير، وما عرض لي من فرص فما افترصتها؟ إن من رفاقي في كلية الحقوق من هم اليوم من كبار المحامين الذين يشار إليهم، ومن ينال على وقفة واحدة في المحكمة مائة جنيه في دمشق الفقيرة، فلماذا أعرضت عن المحاماة لم أشتغل بها، وأقبلت على مهنة آخذ فيها خمسة جنيهات على مائة درس ألقيها على أربعين طالباً، يحتاج إسكاتهم وضبطهم إلى شرطيين مسلحين بالبنادق الرشاشة.
وإن من رفاقي في الثانوية من هو اليوم ناظر ثانوية كبيرة، وأنا أستاذ معاون، فلماذا درست الحقوق إذا كانت الوزارة لا تعرف أقدار الرجال إلا بما يحملون من شهادات الاختصاص، وكان صاحب اللسانس في الحقوق لا يعد أديباً في نظرها ولو كان شوقي زمانه، أو رافعي أوانه، وترى صاحب اللسانس في الأدب أديباً ولو كان أعيا من باقل، وأجهل من جاهل؟.
وكيف أنسى أني كنت من عشر سنين أقود طلاب دمشق كلهم، وأغامر بهم في ميادين السياسة، وأني لو شئت لكنت نائباً من زمن طويل.
إن الناس لم ينسوا ذلك فكيف أنساه أنا؟ إنهم يعلمون أن في قميصي خطيباً ما يقوم له أحد في باب الارتجال والإثارة، وإيقاظ الهمم وصب الحمم، ولكن من الناس من يعقد الحسد ألسنتهم عن شهادة الحق. أستغفر الله فما أحب الفخر، ولكني اضطررت فقلت، وهل أسكت إذا سكت الناس عن بيان حقي؟ إن للمظلوم كلمة وهذه إحدى كلماتي، فإن كانت فخراً فقديماً كان الفخر من فنون الأدب العربي، وإلا فهي ذكرى وتاريخ لأخلاق الناس وأطوار المجتمع. وكيف أنسى أني بين ماضٍ أضعت فرصه ونسيت ذكرياته وفقدت فيه ذخراً من العواطف الجياشة والشعور المضطرم، وحاضر بددت أيامه بالرجوع إلى الماضي، وصرفت بكره وعشاياه في نبش الذكريات والبحث في أطلالها عن الجواهر والكنوز.
فما كان إلا أن دفنت فيها كنز حياتي وجوهر عمري - ومستقبلاً لم اعد أرجو منه شياً، لأني يئست من أن ينتابني منه خير. ومن يصدق أني أتمنى لو كنت غبياً جاهلاً عيياً لأستريح وأهنا، لأني وجدت الذكاء يدفع إلى الألم ويؤدي إلى الشقاء؛ وأني لأهمل القراءة عمداً كي أنسى ما علمت فأغدو جاهلاً فلا آلم إن تقدمني الجهال من أمثالي، ولا ألوم الحياة على ظلمها إياي، فلا أستطيع، وأراني مدفوعاً إلى الازدياد من هذا العلم.
كأن القدر يسوقني بعصاه إلى الاستكثار من القراءة فأزداد بذلك علماً فأزداد بالعلم ألماً حين أرى علمي وبالاً علي وأرى الجهال يسبقونني ويسرقون منزلتي؛ ولو أني استبدلت بإحياء الليالي في المطالعة والدرس وثني الركب بين أيدي العلماء رحلة واحدة إلى (تلك) الديار أعود منها بعد شهرين بشهادة اللغة العربية لم تكتب سطورها بالعربية لكان ذلك خيراً لي وأجدى علي من علوم الأرض كلها لو حصلتها.
ولكني كرهت أن أتوكأ في سيري إلى غايتي على غير أدبي، ونزهت نفسي عن أن أجعل عمادي ورقة صار يحملها الغبي والعمي والجاهل واللص الذي يسرق مباحث الناس ويسطو على آثارهم.
إن عمادي هذا القلم، وإنه لغصن من أغصان الجنة لمن يستحقها، وإنه لحطبة مشتعلة من حطب جهنم لمن كان من أهل جهنم.
ولكن ما الفائدة من هذا الكلام؟ ما الفائدة وقد ولى ربيع حياتي، وأدبرت أيامي، واستبدل قلبي بالأصيل المذهب ليلاً حالك السواد؟ لقد شخت حقاً، وصرت كالعجوز الذي حطمه الدهر، وفجعه في أولاده فسيره في مواكب وداعهم الباكية، وما أولادي إلا أماني، وما قبور الأماني إلا القلوب اليائسة. فيا رحمة الله على تلك الأماني! يا رحمة الله على الأيام التي كنت فيها غراً مغفلاً أصدق كل خداع كذاب يزعم أن في الدنيا فضيلة وخلقاً وأن قيمة الإنسان بما يملكه منهما.
لقد خدعني المعلمون والأدباء، فلماذا أخدع تلاميذي؟ لماذا لا أقول لهم: إن المكر والكذب والنفاق هي في شرع الحياة فضائل، فأعدوا قواكم لإصلاح المعوج من شرائعها، أو فانزلوا على حكمها، فخاطبوها بلسانها، وادخلوها من بابها؟ إن المربين والمعلمين سينكرون ذلك ويكبرونه ويرونه إفساداً لعقول الناشئة، فليكن إذن ما يريد المربون والمعلمون! يا رحمة الله على تلك الأيام ومن يعيدها إلي؟ من يرجع إلي ثقتي بالحب واطمئناني إلى الكتب وسكوني إلى الناس؟ كنت أرى الحب أساس الحياة، عليه قام الكون، وبه استمر الوجود، وكنت أومن به فغدوت لا أومن إلا بالبغض، وصرت أحب أن أبغض، وأبغض أن أحب. فمن يدلني على مصنف في أساليب البغض حتى أتقنها وأفهمها فأبغض الناس كلهم؟ أبلغ الجفاف في القرائح والجدب في العقول ألا يصنف كتاب واحد في (البغضاء)، وقد ألف السخفاء ألف ألف كتاب في الحب؟ لا، بل من يرشدني إلى الفرار من مهنة الأدب والتخلص من الحب والبغض والعواطف كلها؟ من يحسن إلي فيدعو لي بظهر الغيب أن يصحح الله عزيمتي على ترك الأدب، أو ينقص من شقائي به؟ لقد أعطيت عدة الأديب، ولكن الناس آذوني حتى أهملت عدتي فأسلمتها إلى الصدأ، فأكلها، ففنيت غير مأسوف عليه، لا يأسف الناس لأنهم هم الآلي أفنوها، ولا آسف أنا لأني لم أنل منها خيراً. فلا يغضب القراء إذا أنا ودعت الأدب بالتحدث عن نفسي، فإنما أرثيها قبل موتها، أرثي مواهبي المعطلة، لقد مت، فدعوني لا تؤذوني بالانتقاد البارد، اذكروا محاسن موتاكم، وإذا لم تكن لهم محاسن فعفوا عن ذكر مساويهم. ولا تنفسوا على أخيكم (نفثة) يزيح بها عن صدره هماً ثقيلاً! علي الطنطاوي