طبعت على كدر..
مدة
قراءة المادة :
3 دقائق
.
طُبعَتْ على كَدرٍ..يَحدث أن نَرضى بالواقع ونألَفَه، فيرفضنا ويُعادينا، ويحدث أن نستجديَه ونستميل قلبه، فيصُدنا ويوصد في وجوهنا أبوابَ الأمل! حينها يقول الحزن بأعلى الصوت: هيت لك! فيرد تاعسٌ ضعيف الإيمان: كلِّي لك.
تُحاصر يا صديقي بالمصائد، وتجابه بالعوائد، وتميد بك الموائد، أقبلُ منك حينها أن تتذمَّر، أن تتوجع، أن تبثَّ همومك عبثًا، أن ترضخ لجِبلَّتك؛ وهنٌ على وهن، لكن لا أقبل أبدًا أن تتوقف.
إنما أشكو بثِّي وحزني إلى الله، ومَن غير الله يقدر؟! ومَن غير الله يعلم؟! ومن غير الله يرحم؟!
وحدك يا ألله، أشكو إليك وأبث إليك، وأنت وحدك من تقابل محيطات زلاتي بما لا نعلم عددَه من خيراتٍ وهِبات وأمان في الذات.
أنت يا صديقي مهما وهمت أن الحزن قد تفرد بك فقل: يا ألله؛ فها هم سادة الخلق وأشرفُهم ومن بعدهم تاجهم قد خصَّهم الله بأشد أنواع البلاء، وما يئسوا، وما بئسوا؛ بل كلما ابتُلوا زادوا قربًا وتقربًا، وجأروا بأعلى صوتهم: يا ألله!
أيَضيق بك أن تُكفَّر ذنوبك؟! أيؤلمك أن يَقوى عضدُك؟! أتزعجك كثرة حسناتك؟!
أتَحزن يا صديقي وقد اختار الله لك؟!
أتروم جنة بلا ثمن؟! أم تروم دنيا بلا سكن؟!
طُبِعَت على كدَر، وخُلِقنا في كبد، فسيبقى الكدر يتخلَّل كل لحظاتنا، وسنبقى نقاسيه؛ نهزمه، أو يهزمنا.
أنت يا من تظن أن الحياة بستانٌ لرغباتك ونزواتك وشهواتك، أفِق؛ أفِقْ يا صديقي قبل أن تتمكن شهواتُك منك فتدور بك متخبِّطة كعمشاء، فتُرديَك في درَكات الحياة.
أفِق، واعلم أن الأمر أكبرُ مِن وظيفة، ومن زوجة، ومن سيارة، ومن مال، ومن منصب، ومن جاه...
الأمر أكبر من كنوز الدنيا.
الأمر كلُّه هو كيف نَجتاز الصِّراط؟
ما بك من ألم؟
أعايَنتَ طفلًا يعشش الحزن في أحشائه بفراق عائلته كلِّها؟! ما بك من وجع؟
أمررت بقعيد يلهف قلبُه لخطوات على الشاطئ؟ ما مسَّك ألم؟
أشاهدتَ أمًّا أنفقَت حياتها لوحيدها ليُجازيها أن يُحلَّها دار المسنِّين؟ ما بك من قهر؟
أنظرتَ كيف يترقرق الدمع في عين أبٍ يتعرض لشفقات أرباب العمل؟ ما بك من حزن؟
تضيق يا رفيقي حتى تراها كأنفاس تعذِّب موشكًا على الغرق!
لكن...
لكن سيَشدو الحمام، وسيتَنحَّى الصمت ويحلو الكلام، وسيُداعبنا نسيم رهيف، نطرد عنده كلَّ من كان للحزن حليفًا.
فتُقْصى الخيبات، وتحلُّ المسرَّات.
وحدك يا ألله تَعلم سرَّنا، ترحم عجزَنا وقلة حيلتنا، عليك اتِّكالنا، وإليك مآبنا.