نداءات الرحمن لأهل الإيمان 22


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. وكنا بالأمس مع النداء الحادي والعشرين، وقد كان مضمونه ومحتواه: حرمة الصلاة حال السكر، فإذا كان العبد سكران لم يحل له أن يدخل في الصلاة أبداً؛ إذ قد يقول ما لا ينبغي أن يقوله، فقد يقول الهجر والكفر وهو بين يدي الله، مع فسقه وخروجه عن طاعة الله.

وقد علمتم أن هذا الآية نزلت قبل تحريم الخمر، إذ كانت الخمر مباحة، ثم حرمها الله تدريجياً، فلما كانت مباحة، تقدم أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بجماعة، فإذا به يقول الباطل، وينطق بما لا يحل، فندموا وبكوا، وإذا بهذه الآية النورانية تنزل كوكب من السماء، ونصها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]. وإن فسق مؤمن وشرب الخمر، أو تعاطى مسكراً من المسكرات فلا يحل له اليوم وبعد اليوم وقبله أن يدخل في الصلاة وهو ثملان سكران.

وقوله: إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43] يدل على أن عابر السبيل إذا كان جنباً يجوز أن يمر بالمسجد، لكن لا يجلس فيه، وأما المرور فجائز إذ كان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم أبواب إلى المسجد، فيمرون إلى بيوتهم من المسجد، وقد كان الصديق له باب يدخل منه المسجد، ومع هذا فقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإغلاق وسد تلك الأبواب، فقال: ( أغلقوا كل باب إلا خوخة أبي بكر ). ففيه إشارة أفصح من عبارة بأن الصديق سيخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته، قفبيل وفاته أمر بإغلاق كل خوخة إلا خوخة أبي بكر ، وحسبه أنه لما ثقل صلى الله عليه وسلم قال: ( ادعوا أبا بكر يصلي بالناس ). وتململوا، ومع هذا جاء أبو بكر وصلى وراء رسول الله، ثم قدمه رسول الله فأتم الصلاة بالناس، ولا يشك بعد هذا في خلافة الصديق لولا الزندقة والمجوسية واليهودية والصليبية الماكرة لتمزيق شمل المسلمين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43]. ولا تقربوا المساجد؛ لأن الصلاة أساساً في المسجد، فإذا كان لا يقربها السكران فالمسجد كذلك. فمن هنا: استثنى الله تعالى المار العابر في المسجد، وكثيراً ما كنا نحتلم في المسجد، فأيام أن كنا أحداثاً كنا ننام في المسجد، فإذا احتلم أحدنا خرج على الفور، وإذا استيقظ ووجد نفسه محتلماً يخرج يغتسل ويعود، ولا يجلس يقول: أتم نومتي.

وجوب الغسل من الجماع

قال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء:43]. في هذه الآية بيان إثبات موجبات الغسل، فالذي يوجب الغسل الجماع، أي: ملامسة النساء، وقد كنى عن الجماع بالملامسة؛ لأن القرآن كتاب الله العليم الحكيم يقرأ بين أفراد العائلة، فالأم تقرؤه على بناتها، والابن يقرؤه على أمه وأخته، فلم توجد فيه عبارة تثير الغريزة أو تحرك شهوة، أو تجعل القارئ يستحيي ويخجل ويسكت عن القراءة. هذا كلام الرحمن الرحيم.

فإذا جامع الرجل امرأته وجب الغسل، وحرم أن يدخل المسجد إلا عابر سبيل، والجماع هو الاختلاط، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فيه ولنحفظ هذا الحديث: ( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ). فإذا سمعت أيها المؤمن! حكمة نبوية فحاول أن تنطق بها، ولا تظن أنها رخيصة، فهي والله لخير من ملء الأرض ذهباً.

وقوله: ( إذا التقى الختانان ) الختان الأول: ختان الرجل، والثاني: ختان المرأة، أي: موضع الختان، وسواء كان أمنى أو لم يمنِ، أفرز الماء أو لم يفرز.

وقوله: ( فقد وجب الغسل ) هذا الغسل بيناه أمس.

كيفية الغسل من الجنابة

صورة غسل الجنابة: اجلس في مكان ما، وقل: بسم الله، ولا ترفع صوتك بها، واغسل كفيك ثلاث مرات، وأنت ناوٍ أي: في قلبك وفي نفسك أنك تريد أن تغتسل -إذ الله أوجب عليك الغسل للجنابة- وترفع المانع الذي منعك من أن تصلي أو تقرأ القرآن أو تدخل المسجد، وهذا المانع هو الجنابة، فلا بد وأن تحدث نفسك بهذا، ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ). ثم اغسل فرجيك قبلك ودبرك غسلاً كاملاً وما حولهما حتى لا تحتاج إلى إعادة الغسل مرة ثانية، وقد تمس فرجك بكفك فينتقض وضوءك، فمن الحيطة والأحوط: أن تغسل فرجيك وما حولهما، وبعد ذلك إن كانت هناك ترباً في جدار فادلك يدك بالتراب؛ لأن أبا القاسم فداه أبي وأمي والعالم أجمع كان يفعل ذلك؛ إذ لم يكن عندهم صابون، فلكي تطهر اليد وقد باشرت القذر والوسخ - إذ أنه لما غسل الدبر كان به عذرة- فادلك يدك بالتراب، والآن الصابون إلى جنبك، فإن استنجيت وفرغت فاغسل كفيك بالصابون، فإذا فرغت فتوضأ وأنت جالس وضوءك للصلاة، فاغسل كفيك ثلاثاً، ثم تمضمض ثلاثاً، واستنشق واستنثر ثلاثاً، واغسل وجهك ثلاثاً، وحد الوجه طولاً من منبت الشعر في الجبهة إلى منتهى الذقن، وعرضاً من وتد الأذن هذا العظم إلى هذا، ثلاث مرات، ثم اغسل يديك إلى المرفقين ثلاثاً ثلاثاً، ثم امسح رأسك هكذا بيديك وامسح أذنيك مرة واحدة، ثم اغسل رجليك إلى الكعبين، وبهذا تكون قد توضأت، وهذا هو الوضوء الذي تتوضأ للصلاة. ثم من الحكمة الطبية - وأبو القاسم سيد الأطباء هو الذي شرع هذا- اغمس يديك في الماء، وخلل أصول شعر رأسك حتى تستأنس البشرة والجلد بالماء، حتى إذا صب عليها ماء ساخن أو بارد لا تتأذى، وتخليل شعر الرأس بأن تغرف غرفة بكفيك، وتضعها على يمين رأسك، ثم تمررها على رأسك بكامله حتى أذنيك ظاهراً وباطناً. هذه واحدة. ثم أيضاً اغرف غرفة بكفيك وضعها على شقك الأيسر، واغسل بها كافة رأسك تماماً مع الأذنين في الظاهر والباطن، ثم الغرفة الثالثة ضعها فوق الرأس، ثم اغسل بها رأسك جميعه، والمرأة في هذا كالفحل، فلابد من غسل الرأس بهذه الطريقة، فإذا غسلت رأسك فقد بقي الجسم، فخذ الماء وصب من عنقك إلى كتفك، واهبط إلى ذراعك قطعاً إلى المرفق، وانزل بالغسل إلى كعبيك، وابدأ باليمنى وارجع إلى الجهة اليسرى.

تنبيهات حول الغسل من الجنابة

تنبيهات:

الأول: انتبه! فإن الإبط قد لا يصل إليه الماء، فارفع يدك واغسله من الجهة اليمنى واليسرى.

ثانياً: سرتك، فإن بعض الناس تكون سرته غليظة وطويلة، فعليه أن يغسلها ويتعاهدها بالماء.

ثالثاً: إذا كنت جالساً فمد رجليك واغسل تحت ركبتيك. مع أن علياً يقول: تحت كل شعرة جنابة. واسألوا الأطباء فسيقولون: هذا الإفراز الذي يفرزه ينفعل له الجسم بكامله، فكل خلايا الجسم تنفعل. هذا هو الغسل.

فإذا اغتسلت فصلّ .. اقرأ القرآن .. ادخل بيت الرحمن، وإن قلت: أنا مريض، أو ما وجدت الماء فكيف اغتسل؟ فقد أفتاك الرحمن: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]. والصعيد الطيب أي: تراب طيب، بمعنى: طاهر، وإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. و( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ). فالمراد من الطيب الطاهر.

وبهذا نكون قد عرفنا الغسل، وقد عرفنا الوضوء قبل الغسل، فأولاً يتوضأ ثم يغتسل.

كيفية التيمم

التيمم قال فيه تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [النساء:43]. وكيفيته أن تقول: بسم الله، ثم تضرب بيدك على التراب إن وجد، أو على صخرة أو على حجارة أو على سبخة، المهم على الصاعد على وجه الأرض، وقم صلّ، وابن عمر رضي الله عنهما كان يمسح ذراعيه كالوضوء، ولم ينكر عليه أحد والله؛ لأن الآية عامة، فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [النساء:43]. ومن أخذ برخصة عمار بن ياسر فنعم الرخصة، وأنا أنصح بها للذين يلبسون المعاطف الذين بلادهم باردة، فينزع كل شيء حتى يمسح ذراعيه، فلا تتعب نفسك ولا ترهقها، وأما التي ثيابه هكذا فهذا سهل.

وفقه هذه القضية حتى لا تتشدد: أنك لما تضع يديك على التراب لم يزل الوسخ من وجهك أو يديك، وإنما سر هذا لتعرف قيمة الطهارة في الإسلام، وأنك عندما عجزت عن استعمالها لانعدام الماء أو لعجزك عن استعماله فأشر إشارة عملية إلى أنك لو قدرت لغسلت وجهك ويديك؛ لتبقى هذه العبادة مرتبطة بك طول حياتك. فليفهم الأبناء هذا، ولنبقى دائماً ملتزمين بالطهر، فلما عدمنا الماء المطهر لعجزنا عن استعماله أو عدم وجوده فإننا لا نقوم نصلي فقط، بل نعمل هكذا إذعاناً منا وقبولاً لأمر ربنا ثم نصلي.

هذا درسناه أمس، ودرسنا من الشرح ما شاء الله، وبقيت هذه الوريقة، نسمعكم إياها، ثم ننتقل إلى النداء الثاني والعشرون إن شاء الله.

عفو الله ومغفرته للمؤمنين

قال: [ وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء:43]. فيه إظهار لرحمة الله بالمؤمنين وعفوه عن مسيئهم؛ إذ الآية نزلت فيمن صلوا وهم سكارى قبل تحريم الخمر رحمة بهم، فلم ينزل بهم عقوبة ] بل [ وغفر لهم ذلك الذنب الذي ارتكبوه بغير قصد ] هذه مظاهر عفو الله ورحمته بالمؤمنين.

غسل الجنابة

قال: [ وإن سألت عن كيفية الاغتسال فاعلم أن الجنب يصب الماء على كفيه قائلاً: باسم الله، ناوياً رفع الحدث الأكبر، أي: الغسل من الجنابة، ثم يغسل فرجيه القبل والدبر وما حولهما، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، وهو أن يغسل كفيه ثلاثاً، ثم يتمضمض ثلاثاً، ثم يستنشق ويستنثر ثلاثاً، ثم يغسل وجهه ثلاثاً، ثم يغسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثاً، ثم اليسرى ثلاثاً، ثم يمسح رأسه وأذنيه مرة واحدة، ثم يغسل رجله اليمنى، ثم اليسرى إلى الكعبين. وهذا هو الوضوء فاعرفه ] يا عبد الله! ولكن أدرج في الغسل [ ثم يخلل شعر رأسه بكفيه، ثم يغسل رأسه كله ثلاث مرات، ويغسل أذنيه ظاهراً وباطناً، ثم يغسل شقه الأيمن من رأسه إلى قدمه، ثم الأيسر كذلك، بحيث يعمم الماء على كل جسده، فلا يترك لمعة أبداً. بهذا عرفت ] أيها القارئ والمستمع! [ كيفية الغسل والوضوء معاً ].

معنى الجنب والغائط والملامسة

قال: [ وأخيراً: أيها القارئ الكريم! ] لنداءات الرحمن [ هل تعرف معنى الجنب؟ إنه الرجل أو المرأة إذا جامع أو احتلم فخرج المني منه أصبح جنباً، أي: به جنابة، وهل عرفت معنى الغائط ] في الآية: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء:43]؟ [66 إنه مكان التغوط أي: التبول والخرء، وهل عرفت معنى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43]؟ إنه الجماع ].

نواقض الوضوء وموجباته

قال: [ وهل عرفت موجبات الوضوء أو نواقضه؟ إن الوضوء يجب من الخارج من السبيلين ] أي: [ القبل والدبر، وهو البول والخرء، والريح والضراط ] وذكر هذا ليس عيباً، فهذه قالها الحبيب عليه الصلاة والسلام، فقد قال: ( إذا نودي للصلاة ولى الشيطان وله ضراط ). حتى ما يسمع، فيهرب وله ضراط قوي كصوت المدفع حتى ما يسمع، فإذا انتهى الأذان رجع، ولما نأخذ في الإقامة يشرد، وإذا انتهت الإقامة يأتي حتى يدخل في قلوب الناس يوسوس، عليه لعائن الله؛ فإنه عدو.

قال: [ ومن مس المرأة ] سواء بيده أو برجله أو برأسه أو بكتفه [ بشهوة ] أي: أنه يريد أن يتلذذ بمماستها، فهنا يجب الوضوء، وإن كان متوضئاً انتقض وضوءه، كأنه بال. وأتباع الإمام الشافعي أو تلامذته، ولا نقول: أتباعه، فليس عندنا انقسامات، يفهمون أن من مس المرأة انتقض وضوءه؛ أخذاً بظاهر الآية: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43]. فالذي تتلمذ للإمام الشافعي يرى أنه إذا وضع يده على امرأته ومسها انتقض وضوءه؛ لأنه المفهوم من قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43]. وقال غيره من أئمة الهدى والعلم من الصحابة والتابعين وتابعيهم: المراد هنا الجماع؛ لأن السياق في بيان وجوب الغسل، فإن أنت حقاً أردت الشهوة ومسست فقد انتقض وضوءك بلا خلاف أبداً، أو ما قصدت شهوة لكن ما إن وضعت يدك على امرأتك وجدت لذة انتقض الوضوء بلا خلاف، وأما كونك ما تريد لذة ولا وجدتها وإنما مسستها فقط فإن الوضوء لا ينتقض. فليفهم السامعون والسامعات هذه، فهذه يدرسها الفقهاء فصل الشتاء بكامله، وهي كما علمتم. وحبر الأمة الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتأويل فأصبح أكبر مفسر لكتاب الله كان يدخل إصبعيه في أذنيه ويفسر الملامسة في قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43] بالجماع، وليس مجرد المس.

ويبقى إذا هممت أن تتلذذ بامرأتك ووضعت يدك عليها فقد انتقض وضوءك، وإذا أنت ما قصدت ولكن ما إن مسستها حتى تأججت نار الشهوة فقد انتقض الوضوء ويجب الوضوء، وأما إذا لم تقصد ولم تجد فوالله ما انتقض الوضوء. وقال أحد الطلبة الصلحاء: إذا طاف الحاج شوطاً واحتك بامرأة أو هي احتكت به قال بعضهم: انتقض وضوءه، فيخرج من الطواف يتوضأ، وعلى هذا لن يكمل ولن يتم طوافه، إلا إذا عملنا سياجاً من حديد وأصبحت النساء على جهة والرجال على جهة فهكذا ممكن، وأنت بين يدي الله تطوف ببيته كالملائكة تطوف ببيت الله في السماء، وليس لك أبداً قصد ولا إرادة ولا غريزة ولا شهوة، فإن دفعتك امرأة أو دفعك من دفعك فلا شيء عليك أبداً، ولا ينتقض هذا الوضوء.

[ وكذا مس الذكر، والنوم الثقيل. فهذه موجبات الوضوء، وهي نواقضه أيضاً، فاعرف هذا ].

حكم صلاة عدة صلوات بتيمم واحد

قال: [ واعلم أن من تيمم لعدم وجود الماء، أو لمرض يمنعه من مس الماء أو الحصول عليه فإنه يتيمم لكل صلاة، وإن تيمم للفرض صلى به النوافل القبلية والبعدية معاً ] وما شاء الله، فإذا تيمم للعشاء صلى معها التراويح كلها، فأولاً يتيمم للفرض، فإذا تيمم فله أن يصلي النافلة قبل الصلاة أو يصليها بعدها، فكله جائز بتيمم واحد، وإن حصل أنك تيممت وما انتقض تيممك حتى جاءت الفريضة الثانية فلا بأس، فتيممك معك، ولكن الأحوط لأن الزمان بعيد من الظهر إلى العصر أو من الصبح إلى الظهر - فقد تجد الماء إذا كان المانع هو عدم وجود الماء- فإذا دخل الوقت تيمم وصلي، فهذا أحوط لدينك [ فاعرف هذا زادك الله علماً.

وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].

هذا النداء الواحد والعشرون، فاسمعوه مرة ثانية حتى تكونوا من أهله إن شاء الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء:43]. فالحمد لله على عفوه ومغفرته، وأنا أنصح المستمعين والمستمعات أن يوجد هذا الكتاب في بيوتهم، وعنده رءوسهم، والآن عندنا الضوء فنقرأ، وحتى الفانوس لا بأس لمن ينام في غرفة مظلمة بلا فانوس، فقبل أن ينام يسمع نداء من نداءات الرحمن، فهو منادى، وإذا قال: أنا غير منادى فليجعل البرنيطة على رأسه والصليب وليخرج، وأما ما دمت تقول: أنا مسلم فأنت منادى، فيجب أن تسمع نداء الله، وتعرف ماذا يريد منك.

وهذا الكتاب باكورة جديدة، وهو لم يطبع بعد، ولكن من باب التفاؤل، ونرجو أنه ما تمضي سنة إلا وهو في بيوتكم، وأهل الخير موجودون.

ولقد درسنا الحياة وعرفناها، وعرفنا علة هبوطنا وسقوطنا وضلالنا وفرقتنا، وهو والله ما هو إلا الجهل، وهذا عامل قوي من عوامل العلم، فإذا كنت تحسن القراءة والكتابة وتقرأ الجريدة وتفهم ما فيها من الباطل فافهم نداء الرحمن، فضع عند رأسك هذه النسخة ولو كنت في الفندق، وقبل أن تنام اقرأ نداء فقط، وكرره حتى تحفظ كلماته، ثم تبحث عن الشرح فتفهم مراد الله وتعمل، ولا تزال تعلم وتعمل حتى لا تمضي عليك سنة إلا وأنت من علماء المسلمين.

حكم الصلاة على وسائل المواصلات

أيضاً: لا يصح أن نصلي فريضة على غير الأرض، فراكب الطيارة أو القطار أو السيارة ينزل ويصلي الفريضة، وأما النافلة فصلها كما شئت، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته النوافل، وأما الباخرة إذا ركبتها وكنت في وسطها فما تظن أنك في باخرة، بل في غرفة هادئة، فيصلي في الباخرة؛ لأنه قد يبقى شهراً كاملاً في البحر، فالباخرة هذه كالقرية ماشية، فيصلى فيها جماعة ويؤذن المؤذن، وقد فعلنا هذا، وأما في الطيارة والسيارة والقطار فصل النافلة كما شئت، لا الفريضة، إلا إذا كنت موقناً أن رحلة الطائرة لا تنتهي ولا تنزل على الأرض إلا بعد غروب الشمس، وأنت ما صليت الظهر والعصر، فهنا صل على الطائرة الظهر والعصر بالإيماء أو بالإشارة أو بما أمكنك، وإياك أن تتركهما حتى تغيب الشمس، وإذا كان وقت الصبح وأنت في الطائرة أو القطار أو السيارة وعلمت أن الرحلة تنتهي قبل طلوع الشمس فلا تصلي، والطائرة هي التي تطير، ولا يمكن أن تقف في غير مطارها، فإذا أدركتك الصلاة فاسأل الربان هل تنزل الطائرة قبل غروب الشمس أو لا؟ فإن قالوا: نعم، تنزل قبل غروب الشمس بساعة، فلا تصلي الفريضة في الطائرة، وأخر العصر والظهر، وصل عندما تنزل مباشرة، وإن قالوا: لا، لن نصل إلا بعد ساعة أو ساعتين من الليل فصل على الطائرة والقطار، فإن علمت أن الرحلة لا تنتهي ولا تقف الطيارة أو القطار إلا بعد طلوع الشمس فصل الصبح على سيارتك أو طيارتك كما أمكنك. فاعرف هذا.

والسيارة تقف للصلاة، إلا إذا كانت سيارة يهودي أو صليبي أو شيوعي وقال: أنا لا أعرف الصلاة، ومع هذا لو كنا فحولاً لقلنا: والله لتقفن حتى نصلي، فهم لا يخافون من انقلابها إذا توقفت، وهنا البطولات، فيقف وينزلون يصلون ثم يركبون، فالسائق إذا أراد أن يبول يوقفها ويبول، ولا يتوقف للصلاة، وهذا من هبوطنا. والقطار ممكن أنه لا يستطيع أن يقف إلا في محطات؛ لأنه يمشي على الحديد، فقد ينقلب القطار لو وقف، ففي هذه الحال اسكتوا حتى يصل إلى البر وصلوا.

والقصر شيء ثان، فإذا كانت المسافة مسافة قصر يقصر.

والآن عندنا في المملكة إذا دخلت الصلاة تقف السيارة رغم أنف السائق والمعاونين له على الباطل، فيصلون ويركبون، ولكن في ديار أخرى لا يوجد هذا النوع من الحياء، ولا يلتفت أحد إلى الصلاة، بل يقولون لك: صلي في بيتكم، والسبب في هذا الجهل، فهم ما عرفوا الله، ولا عرفوا ما يحب ولا ما يكره، ولا عرفوا ما عنده لأوليائه، ولا ما لديه لأعدائه، فلن يستطيعون الاستقامة على طريق أدق من السيف وهم ما عرفوا.

طريق نجاة المسلمين وعزتهم

الطريق العلم، فهيا نتعلم، ولا تقولوا: يا شيخ! لا نستطيع أن نتعلم، فنحن عمال وتجار، والدنيا فوضى، فلا نستطيع أن نتعلم، وأقول: والله إنكم تستطيعون، ولا يكلفكم ذلك شيئاً، وانظروا إلى اليهود والنصارى إذا مالت الشمس إلى الغروب ودقت الساعة السادسة، يوقفون دولاب العمل، ويوقفون كل شيء ويذهبون إلى الراحة، ويستريحون على المزامير والطبول والمراقص واللهو والباطل والعبث؛ لأنهم أموات، فهم حيوانات، وهذا مصيرهم. وأما أنتم أيها المسلمون الربانيون! فكتابكم من السماء نزل، وهو بين أيديكم، والجنة والنار أمامكم، وقد بين هذا الكتاب، فعندما ينتهي العمل نذهب إلى بيوت الرب بنسائنا وأطفالنا، ونجد العالم المربي يجلس لنا هكذا ونحن بين يديه، يعلمنا الكتاب والحكمة ويزكينا، كما كان رسولنا يفعل، والله يقول له: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]. وأتحدى من بقول: لا يعقل أن أهل القرية يجتمعون كلهم بنسائهم وأطفالهم ورجالهم كل ليلة من المغرب إلى العشاء وطول العمر ولا يبقى بينهم جاهل أو جاهلة، فهذا مستحيل، وإذا انتفى الجهل فمن المستحيل أن يبقى بينهم زان أو زانية، أو أن يبقى بينهم لص كاذب خادع، فهذا والله ما يكون، وقد جرت السنة أن الطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، ولم تتبدل هذه السنة، فهذه السنن لا تتبدل.

وكذلك العلم الإلهي إذا حل بالقلب وأناره، فصاحبه لا يفجر ولا يكذب ولا يسرق ولا يرتكب كبيرة، وهذه سنة لا تتبدل أبداً، وأنا أقول لهم: تعالوا، ودعونا كالعوام، ففي هذا المجلس الموجود والله لأعلمنا بالله أتقانا له من الآخرين، ولو تجري عملية نفسية لوجدت أن أعلمنا بالله أقلنا فساداً وشراً، وأجهلنا أفسقنا.

وأزيد بياناً آخر: الملائكة لا يعصون الله لأنهم مع الله، والأنبياء ما يعصون لأن الوحي ينزل، والله يكملهم، وأصحاب رسول الله كملوا وقلت فيهم الخيانة وندر فيهم الفسق لأنهم مع رسول الله يعلمهم الكتاب والحكمة، وأهل كل بلد أو بيت يجتمعون على الكتاب والسنة تقل فيهم الجريمة، ويقل الفساد ويندر، والآن نقول: ما نستطيع، ونريد أن نخترق مسافة سبعة آلاف وخمسمائة عام للطائر، وننزل دار الأبرار مع النبيين والصديقين، فلنفكر في هذا، ولا نعجز عن أن نجلس في بيت ربنا حيث لا شرطة ولا بوليس ولا سحر ولا شياطين ولا ظلم، ونساؤنا وأطفالنا وراءنا، ونتلقى الكتاب والحكمة، وفي كل يوم ينمو طهرنا، ويزداد صفاؤنا، وتتغير نظراتنا، ونصبح ربانيين، نعرف حقائق الحياة وأسرار الكون بكامله؛ لأنه كتاب الله. وإذا قلنا: لا نستطيع فلنبق على ما نحن عليه، وأما العروج إلى الملكوت الأعلى فيفتقر إلى روح شفافة، نقية طاهرة أكثر من بياض هذه الورقة، وأكثر من هذا النور؛ حتى تفتح لها أبواب السماء، وتدخل دار السلام، وأما وهي ملوثة منتنة عفنة خبيثة فليس لها ذلك، وهذا الكلام ذكره الله في قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]. ومستحيل أن يدخل البعير في عين الإبرة، إذاً: فالروح الخبيثة بأوضار الشرك والكفر والمعاصي لا تدخل دار السلام. فلا تقل: إنك لا تستطيع أن تجلس في بيت ربك، فلن يصيبك شيء.

ووالله لو أن أهل قرية التزموا بهذا المبدأ الإلهي وأصبحوا في بيت ربهم يتعلمون الكتاب والحكمة لتوفر لديهم المال، وأقسم بالله، ووجه توفره هو أن الشره والترف والحب للأكل يخف ويقل والله، وقد عرفنا هذا وجربناه، والتكالب على الدنيا يقل، فيتوفر المال، ولا يبقى في القرية من يجوع أبداً أو يعرى.

قال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء:43]. في هذه الآية بيان إثبات موجبات الغسل، فالذي يوجب الغسل الجماع، أي: ملامسة النساء، وقد كنى عن الجماع بالملامسة؛ لأن القرآن كتاب الله العليم الحكيم يقرأ بين أفراد العائلة، فالأم تقرؤه على بناتها، والابن يقرؤه على أمه وأخته، فلم توجد فيه عبارة تثير الغريزة أو تحرك شهوة، أو تجعل القارئ يستحيي ويخجل ويسكت عن القراءة. هذا كلام الرحمن الرحيم.

فإذا جامع الرجل امرأته وجب الغسل، وحرم أن يدخل المسجد إلا عابر سبيل، والجماع هو الاختلاط، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فيه ولنحفظ هذا الحديث: ( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ). فإذا سمعت أيها المؤمن! حكمة نبوية فحاول أن تنطق بها، ولا تظن أنها رخيصة، فهي والله لخير من ملء الأرض ذهباً.

وقوله: ( إذا التقى الختانان ) الختان الأول: ختان الرجل، والثاني: ختان المرأة، أي: موضع الختان، وسواء كان أمنى أو لم يمنِ، أفرز الماء أو لم يفرز.

وقوله: ( فقد وجب الغسل ) هذا الغسل بيناه أمس.