نداءات الرحمن لأهل الإيمان 19


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان، جعلنا الله تعالى منهم ورضي عنا كما رضي عنهم.

وكان النداء الكريم الذي سمعناه أمس وفهمنا مراد الله تعالى منه هو قول الله عز وجل: بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]. فتضمن النداء الكريم لعباد الله المؤمنين أربعة أوامر:

الأمر الأول: الأمر بالصبر، فقال: اصْبِرُوا [آل عمران:200]، أي: احبسوا أنفسكم وهي كارهة على طاعة الله ورسوله، وعلى فعل الأمر وترك النهي، هذا هو الصبر، فهو حبس النفس على طاعة الله حتى لا تخرج عن طاعته، وعلى طاعة رسول الله حتى لا تهرب أو تشرد من طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: المصابرة، وهذا للمجاهدين، ولكن لنا النفس عدواً، ولنا الهوى والدنيا وأبو مرة إبليس عليه لعائن الله، فنحن في جهاد، وهم يصابرون ونحن نصابر، والغلبة للصابرين.

ثالثاً: الرباط، وهذا أيضاً للمجاهدين الذين يرابطون في الثغور الإسلامية، وفي حدود البلاد الإسلامية، وهذا الرباط أجره عظيم، ( رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ).

وهناك رباط آخر سهل وميسر لمن يسره الله عليه، وهو: أن يدخل أحدنا بيت الله ليصلي صلاة العصر، ويحبس نفسه إلى أن يصلي صلاة المغرب، فهذا رباط، أو يدخل ليصلي المغرب، ويحبس نفسه إلى أن يصلي العشاء، وهذا رباط، وبين هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ألا أدلكم على ما يمحو الله تعالى به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: دلنا يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة إلى الصلاة، فذالكم الرباط، فذالكم الرباط، فذالكم الرباط ). وحقاً إنه رباط؛ لأنه في وجه العدو إبليس عليه لعائن الله، الذي لا تسكن نفسه ولا يهدأ باله ما دام عبد الله في بيت الله، ولا يستريح إلا إذا أخرجه من بيت الله ليسخره إن قدر عليه فيما هو معصية لله، فهذا النداء الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا [آل عمران:200].

ولعلكم تذكرون مواطن الصبر، فهي ثلاثة:

الموطن الأول: حبسها على الطاعة وعدم مفارقتها.

الموطن الثاني: حبسها بعيدة عن معصية الله ورسوله، فلا تغشَ كبيرة من كبائر الذنوب.

والموطن الثالث: الصبر على ما يبتلى به العبد من مرض أو فقر أو غربة أو أي ألم يريد الله أن يطهره به، ويرفع درجته، فيصبر عبد الله وتصبر أمة الله، فلا جزع ولا سخط، ودائماً كلمة الحمد لله على لسانه. هذه مواطن الصبر.

قال: [ النداء التاسع عشر: في تحريم إرث النساء ومنعهن حتى يُسَلِّمن ما أخذن من المهور ] وهذا أمر غريب؛ لأنهم كانوا قبل نزول هذه الآية إذا مات الرجل عن امرأته ورثها أولاده، وهي قطعاً ليست أمهم، وإنما امرأة أبيهم، فقد كان إذا مات الزوج الولد يرثها حتى ترد المهر الذي مهرها أبوه، أو هو يزوجها على رجل آخر، ويتسلم المهر. وقد كان هذا شائعاً في الجاهلية إلى عهد الإسلام، فأبطل الله هذا الإرث وحرمه. فهذا النداء في تحريم إرث الولد امرأة أبيه إذا مات أبوه، وتحريم منعها من أن تتزوج بزيد أو عمرو أو تذهب إلى ذويها وأهلها حتى تعطيه المهر الذي دفعه أبوها كما كانت عادة جاهلية، فقد جاء الإسلام لتنقية وتصفية المجتمع الجاهلي؛ وذلك بهذه الأنوار الإلهية من الكتاب والسنة.

قال: [ الآية (19) من سورة النساء

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].

الشرح ] ونشرح هذا النداء بتأنٍ عسى الله أن يفتح قلوبنا لفهمه ووعيه، وأن يهيئنا للعمل بما فيه.

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ...)

قال الشارح لهذا النداء الكريم: [ اعلم أيها القارئ الكريم! ] أو المستمع المستفيد! [ أن لهذه الآية سبباً اقتضى نزولها، وما رواه البخاري رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كانوا إذا مات الرجل عن زوجته، كان أولياؤه ] من أخ أو ابن أو أب أو ما إلى ذلك من الأقارب الوارثين [ أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاء زوجها ] غيره [ وإن لم يشاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها ] بحكم أن الذي تزوجها ملكها، ولما دفع المهر كأنما دفع قيمة هذه المرأة، فإذا مات فأولياؤه من ابن وأخ وعم وقريب هم أولى بها كتركة تركها وليهم يرثونها. فإذا شاء الولي تزوجها حتى الابن كان يتزوج امرأة أبيه، كما قال تعالى: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]. أو يزوجها رجلاً آخر، أو يمنعها حتى تسلم المهر الذي دفعه وليه [ فنزلت هذه الآية ] الكريمة: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ [النساء:19] إلخ ] وَلا تَعْضُلُوهُنَّ [النساء:19]، أي: تمنعوهن من الذهاب إلى ذويهن لتستردوا ما أنفقه والدكم [ فنادى الله تعالى ] أي: بعد أن عرفنا سبب هذا النداء، وهو أنه كان عادة أهل الجاهلية: أن الرجل إذا مات عن امرأته كان أولياؤه أحق بها من أولياء المرأة، فإن شاء أحدهم تزوجها بلا مهر؛ إذ المهر قد دفعه أبوه أو أخوه، وإن شاء زوجها ليأخذ المهر هو؛ عوضاً عن المهر الذي دفعه أبوه، وإن شاء حبسها ولا تذهب حتى تدفع ما دفع أبوه من مهر، ولا عجب من هذا؛ لأن الشيطان هو الذي يشرع لهم، ولم يكن هناك كتاب ولا حكمة، والقرآن الكريم كتاب الرحمن الرحيم نزل لهداية الخلق وإصلاحهم، وأخذ يطهر المجتمع المظلم حتى أصبح أمثل مجتمع في الأرض بهذه الأنوار الإلهية، وكان كل عام .. كل شهر ينزل حكم يبطل حكماً جاهلياً، ويحل حكماً رحمانياً ربانياً.

تكريم الإسلام للمرأة في الإرث

هنا نادى الله تعالى [ عباده المؤمنون بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:19] ] ناداهم [ لينهاهم عما كانوا متعارفين عليه في الجاهلية، وهو أن الرجل إذا مات وترك زوجة ورثها أكبر أولاده، وهي كارهة لذلك قطعاً، ثم هو إن شاء تزوجها، أو زوجها غيره وأخذ المهر له، وإن شاء أبقاها حتى تعطيه ما أخذت من مهر من والده. فحرم ] الله [ تعالى هذا الإرث الجاهلي الجائر ] الظالم [ فقال عز وجل: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19] ] وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19] [ فأصبحت المرأة ] بعد نزول هذا الحكم الإلهي [ إذا مات زوجها ترث منه ما أعطاها الله، وهو الثمن إن كان له ولد، وإلا فترث الربع ] إن لم يكن له ولد، فانظر عدالة الله عز وجل وانظر ظلم الجهل والجاهلية، فقد كانت إذا مات زوجها تورث كالشاة، فإن شاء الولد يزوجها أو يتزوجها، وإن شاء منعها من الخروج من المنزل حتى تفدي نفسها وتدفع ما دفع أبوه من مهر، فجاء الإسلام رحمة الله للخلق فأصبحت المرأة إذا مات زوجها ترث بدلاً من أن تورث، فإن كان لزوجها المتوفى ولد ورثت الثمن من تركة هذا الرجل، وإن لم يكن له ولد ولا بنت ورثت الربع من ماله والباقي لإخوانه أو لأعمامه، وتجلت حقيقة الرحمة الإلهية، وما زال العميان الضلال يلوكون كلمات منتنة عفنة، وهي أن الإسلام اضطهد المرأة، وأنه خنقها ومنعها حقوقها، وأنه كذا، ويرددون كلمات الملاحدة والمسيحيين الناقمين من الإسلام الساخطين عليه كالببغاوات، ووالله ما وجدت على الأرض شريعة أعدل من هذه الشريعة قط، فقد كانت المرأة تورث وليس هذا عند العرب في الجاهلية، بل كانت عند النصارى أسوأ من هذا.

والله تعالى نادى عباده المؤمنين بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:19]. والسر في هذا النداء أن المؤمنين أحياء، يسمعون ويعون ويقدرون على النهوض، فيعطون أو يأخذون لكمال حياتهم، وسر حياتهم هو إيمانهم بالله ورسوله ودينه، فاستحقوا النداء لكمال حياتهم.

وسمي المنع عضلاً لأن المنع يكون بالعضلات، فقال: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ [النساء:19]، أي: لا تمنعوهن بالقوة.

قال: [ ثم تبقى في بيته حتى تكمل عدتها أربعة أشهر وعشراً ] فترث الثمن أو الربع ولها الحق أن تبقى في المنزل أربعة أشهر وعشرة أيام، ولا حق لولده ولا لآخر أن يخرجها من المنزل ولو كان الإيجار أغلى ما يكون حتى تكمل عدتها أربعة أشهر وعشر ليال [ ثم تذهب حيث شاءت ] فلا سلطان للورثة عليها أبداً، والذي حرر المرأة هو سيدها الله مولاها وربها.

حكم إيذاء ومضايقة الزوج زوجته لتخالعه

قال: [ وكما حرم تعالى إرث الزوجة ] بقوله: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19] [ حرم عضلها، أي: منعها أيضاً، وهو أن يكره الرجل امرأته لدمامتها أو لسوء خلقها فيضايقها ويؤذيها حتى تفتدي منه بمال، ثم يطلقها، فقال تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19]، أي: من مال، وهو المهر ] وهذا عندنا موجود، وهو أن الرجل يكره امرأته لأسباب، منها: دمامة وجهها، وعدم جمالها، ومن ذلك سوء خلقها، كأن تكون سليطة اللسان، أو بذيئة القول، أو أن خلقها سيئاً، أو أنها تعاكسه، فإذا قال لها: ضعي ترفع، وإذا قال: ارفعي تضع، وهذا يقع، فيأخذ يضايقها ويؤذيها حتى تفتدي منه بمال، ثم يطلقها، وهذا لا يحل أبداً.

تعريف الخلع وبيان حكمه

الخلع هو أن المرأة هي التي تكره الرجل ولا تحبه وتتسلط عليه، وهي راغبة في هذه الحال في أن تتطلق، وراغبة في الفراق، وتريد أن تتزوج غيره، ففي هذه الحال أذن الله تعالى لعبده المؤمن أن لا يطلقها إلا بعد أن تدفع ما أخذته من مهر لها. فهذه صورة، والأخرى التي بين أيدينا صورة ثانية، وهي أن الرجل لا تعجبه المرأة إما في سلوكها وإما في خلقها وإما في جمالها وقد دفع مهرها وأنفق عليها، فالشيطان يغويه ويزين له أذيتها، فيأخذ في المضايقة والتشديد عليها حتى تمل الحياة وتقول: أعطيك كذا وطلقني، فهذا حرام ولا يحل لمؤمن أن يفعله، وأما هي إذا لم يعجبها هذا الفحل لدمامة وجهه أو لسوء خلقه أو لعدم ارتياحها عنده أو معه فهو ليس عليه ذنب، فيقول لها: إذا أردت أن تفارقيني وأن تتطلقي فادفعي كذا ومع السلامة، فيخلعها وتخلعه من نفسها مقابل ثمن. وهذا شرعه الله عز وجل.

إذاً: الخلع شيء، وقضيتنا هذه شيء آخر، فهذه التي جاءت في هذا النداء، هي: أنه لا يحل لمؤمن أن يضايق امرأة مؤمنة ويشدد الخناق عليها حتى تفتدي هي منه بمال، فهذا لا يحل أبداً، وأما قضية الخلع فهي التي ما استراحت لهذا الرجل وتطلعت لآخر ومالت إلى سواه، وهو ما ظلمها ولا آذاها بأي أذى، وهي تريد الطلاق، فيجوز أن يطلقها بإذن الله، ولكن يأخذ عوضاً عن طلاقها، سواء مهرها أو زيادة على المهر، فليفهم السامعون والسامعات هذه التفرقة بين القضيتين، ففرق كبير بين أن يكون الرجل هو الذي كره المرأة، فيأخذ في مضايقتها وتشديد الخناق عليها حتى تصرخ وتقول: طلقني وأعطيك كذا، فهذا لا يجوز، وهذا هو الذي جاء في هذه الآية: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19]. وأما قضية الخلع فهي أن المرأة تكره الرجل، وتريد آخر أجمل منه، أو أغنى منه أو أشرف، وهو ليس له ذنب، فيقول: فلانة! إذا أردت غيري وأردت الطلاق فادفعي كذا وأطلقك، حتى ولو كان زيادة عن المهر يجوز.

حكم إيذاء ومضايقة الزوج زوجته الزانية أو الناشز لتخالعه

قال: [ هذا إن لم ترتكب الزوجة فاحشة الزنا ] فإذا زنت وعرف ذلك منها فله الحق أن يطلقها ويأخذ منها المال، فيضايقها حتى تفتدي نفسها؛ لأنها لا تصلح [ أو تترفع عن الزوج وتتكبر عليه وتبخسه حقه في الطاعة والمعاشرة بالمعروف، أما إن ارتكبت فاحشة واضحة بينة لا شك فيها ونشزت نشوزاً أو أعرضت عن الزوج إعراضاً فإن للزوج أن يضايقها حتى تفادي نفسها منه بمثل المهر ] أو زيادة، فإذا تطاولت عليه وآذته، وارتكبت فواحش بينة وليس مجرد اتهامات فله الحق أن يضايقها حتى تفدي نفسها منه

أمر الزوجين بالمعاشرة بالمعروف

قال: [ ثم وجه تعالى عباده المؤمنين إلى ما فيه خير الزوجين، فقال: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]. أي: على كل مؤمن أن يعاشر زوجته ] ويعيش معها [ بالمعروف ] وكذلك يعاشر النساء أزواجهن بالمعروف [ وهو الإحسان إليها وعدم الإساءة إليها بقول أو فعل ] و[ إن كره المؤمن زوجته فليصبر عليها ولا يطلقها، فلعل الله تعالى يجعل في بقائها خيراً، كأن تنجب له ولداً ينفعه الله تعالى به، أو تذهب تلك الكراهة التي كانت في نفسه، ويصبح يحبها وتحبه، ويودها وتوده، وهذا المراد من قوله تعالى ] في هذا النداء: [ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19] ] وهذه تربية ربانية [ وصدق الله العظيم، وله الحمد والمنة على إرشاده وتوجيهه لعباده المؤمنين إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم، ويزيد هذا الإرشاد الرباني وضوحاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر ). ومعنى يفرك: يبغض، أي: لا يجوز للمؤمن أن يبغض امرأته؛ فإنه إن كره منها خلقاً من أخلاقها فسيرضى منها خلقاً آخر ].

ونعيد تلاوة النداء، ونقف على ما فهمنا من هذا العلم الإلهي، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:19]. ونقول: لبيك اللهم لبيك مر أو انه. لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19]. وقد كانوا يرثون النساء كرهاً، فقد كان الرجل إذا مات وترك زوجة يرثها أولاده، فمن شاء منهم أن يتزوجها تزوجها، وإن لم يتزوجها زوجها غيره وأخذ المهر، وإلا حبسها حتى تعطيه مالاً أخذته من والده، ثم يسرحها، فهذا النداء نسخ وأبطل هذه العادة الجاهلية، والله تعالى هو الذي نسخ هذا وأبطله، ولم يبق بين المؤمنين أبداً.

وقوله: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19]. هذه قضية أخرى، وهي: أن الرجل قد يكره امرأته لدمامتها أو لسوء خلقها أو لمعنى آخر من المعاني التي من شأنها أن يكره الرجل المرأة، فإن كرهها بالفعل وهي ما آذته ولا ظلمته ولا قصرت في حقه وإنما هو فقط كرهها وما أصبح يحبها، فالمفروض أن يطلقها ويمتعها ويعطيها حقوقها وتلتحق بأهلها، فإن سول له الشيطان أن يضايقها ويشدد الخناق عليها حتى تفدي نفسها منه فهذا لا يحل. فليفهم المستمعون والمستمعات هذا، فإذا كره الرجل من امرأته خلقها فليصبر لعل الله أن يستبدل هذه الكراهة بالحب، وإن قال: أنا لا أريدها؛ فهي دميمة وسيئة فليطلقها، فإن قال: أنا أنفقت عليها المال فسأضيق عليها وأخنقها وأضربها وأسبها حتى تصرخ وتقول: طلقني وخذ مليون ريال مثلاً فهذا لا يجوز، قال تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19].

ثم جاءت قضية أخرى وهي قوله: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19]. فإذا هي آذته أو ظلمته أو ارتكبت ما لا يجوز أن يرتكب ففي هذه الحال له الحق أن يضايقها حتى تفدي نفسها، كما قال تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19]، كأن تتطلع إلى الرجال، أو تتصل بفلان وفلان، ففي هذه الحال يضايقها وله الحق؛ لأنها مذنبة وآثمة، وقد ارتكبت أعظم ذنب؛ إذ التفتت عن زوجها، ففي هذه الحال له أن يضايقها حتى يتسلم منها ما دفع من مهر.

الصبر على الزوجة سبب للخير

مسألة ثالثة في قوله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]. فإذا كان الرجل قد كره حقيقة من امرأته شيئاً، إما سلاطة اللسان أو الرغبة في الدنيا والمال، أو غير ذلك، فالخطوة التي أرشد إليها الله وبينها الرسول أن يصبر عليها الشهر والشهرين والعام والعامين، عسى الله أن يزيل ذلك البغض منه ومن نفسه، أو يزول بغضها هي أيضاً، فلتصبر الزوجة عن خلق زوجها عسى الله أن يطهره، ويصبر الزوج عن خلق زوجته، وليس لمجرد إساءة يأخذ في مضايقتها حتى يطلقها، بل يصبر وتصبر؛ عسى الله أن يلقي في قلوبهم الحب لبعضهم البعض، ثم إن صبر عليها فقد يرزقه الله أولاداً منها خير من الدنيا وما فيها، لا يستطيع أن يحصل عليهم من امرأة أخرى أو ما يجدهم، وهذا عسى من الله تفيد التحقيق، فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]. فإذا كره المرأة لسوء خلقها وصبر عليها ولم يؤذها ولم يضطرها إلى المخالعة فقد يأتي يوم من الأيام يحبها وتحبه، وقد لا يحبها ولكن تنجب له أولاداً وتربيهم حتى يكبروا وينتفع بأولاده، وحسبنا أن يوجهنا الله مولانا، وهذا ليس توجيه واعظ أو مؤمن من المؤمنين يرشدنا، بل هذا توجيه الله عز وجل، واقرءوا: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]. وهذا قد يكون في السفر وفي الحضر وفي التجارة وفي أشياء كثيرة، فقد يكره الإنسان الشيء، والله عز وجل لما يصبر يعطيه الخير الكثير، والرسول صلى الله عليه وسلم وضح هذه فقال: ( لا يفرك رجل امرأته، فعسى إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر ). وليس من الرشد أنه كلما كره الرجل المرأة طلقها، ويتزوج في العام مرتين، بل يصبر، وهي كذلك فليس لمجرد سوء خلق زوجها تطالب بالطلاق، بل تصبر، فإذا تبادلا الصبر عوضهما الله بدل ذلك الكره حباً ورضا، وهذا وعد الله، فعسى من الله تفيد التحقيق.

قال الشارح لهذا النداء الكريم: [ اعلم أيها القارئ الكريم! ] أو المستمع المستفيد! [ أن لهذه الآية سبباً اقتضى نزولها، وما رواه البخاري رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كانوا إذا مات الرجل عن زوجته، كان أولياؤه ] من أخ أو ابن أو أب أو ما إلى ذلك من الأقارب الوارثين [ أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاء زوجها ] غيره [ وإن لم يشاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها ] بحكم أن الذي تزوجها ملكها، ولما دفع المهر كأنما دفع قيمة هذه المرأة، فإذا مات فأولياؤه من ابن وأخ وعم وقريب هم أولى بها كتركة تركها وليهم يرثونها. فإذا شاء الولي تزوجها حتى الابن كان يتزوج امرأة أبيه، كما قال تعالى: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]. أو يزوجها رجلاً آخر، أو يمنعها حتى تسلم المهر الذي دفعه وليه [ فنزلت هذه الآية ] الكريمة: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ [النساء:19] إلخ ] وَلا تَعْضُلُوهُنَّ [النساء:19]، أي: تمنعوهن من الذهاب إلى ذويهن لتستردوا ما أنفقه والدكم [ فنادى الله تعالى ] أي: بعد أن عرفنا سبب هذا النداء، وهو أنه كان عادة أهل الجاهلية: أن الرجل إذا مات عن امرأته كان أولياؤه أحق بها من أولياء المرأة، فإن شاء أحدهم تزوجها بلا مهر؛ إذ المهر قد دفعه أبوه أو أخوه، وإن شاء زوجها ليأخذ المهر هو؛ عوضاً عن المهر الذي دفعه أبوه، وإن شاء حبسها ولا تذهب حتى تدفع ما دفع أبوه من مهر، ولا عجب من هذا؛ لأن الشيطان هو الذي يشرع لهم، ولم يكن هناك كتاب ولا حكمة، والقرآن الكريم كتاب الرحمن الرحيم نزل لهداية الخلق وإصلاحهم، وأخذ يطهر المجتمع المظلم حتى أصبح أمثل مجتمع في الأرض بهذه الأنوار الإلهية، وكان كل عام .. كل شهر ينزل حكم يبطل حكماً جاهلياً، ويحل حكماً رحمانياً ربانياً.