نداءات الرحمن لأهل الإيمان 13


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على ما نحن عليه بحمد ربنا تعالى وشكره وحسن الثناء عليه، مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان، جعلنا الله تعالى وإياكم منهم، وحشرنا في زمرتهم، ورضي عنا كما رضي عنهم، اللهم آمين.

معاشر المستمعين والمستمعات! نتذكر نداء الأمس من الله لنا ولا ننساه، والنسيان من طبعنا، إنه قوله جل ذكره بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:100-101]. وهذا النداء ذو شأن عظيم، فقد علمنا من طريق تعليم ربنا لنا أن طاعة بعض أهل الكتاب تؤدي بالمطيع إلى الكفر، وبعض أهل الكتاب هؤلاء هم المتغيظون على الإسلام، الحانقون عليه، الذين يودون إطفاء نوره، الذين يسمونهم في لغة العصر (الانتفاعيون)، أي: الذين ينتفعون بالديانة الباطلة، فهم يخافون من نور الإسلام أن يضيء تلك البلاد، ويحرمون سلطتهم وسيادتهم، وما كانوا يحصلون عليه؛ لأن الله ما قال: ( إن تطيعوا الذين أوتوا الكتاب)، وإنما قال: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]. وقد حذرنا الله تعالى بهذا الإعلام حتى لا نطيع يهودياً ولا نصرانياً، ولا غير اليهودي والنصراني كالمجوسي؛ لأن طاعتهم معناها: أن يأمرونا بفعل كذا، أو بترك كذا فنطيعهم، وهم لا يأمرون إلا بما يكره الله، ولا ينهون إلا عما يحب الله؛ وبذلك يصبح المطيع كافراً.

وقوله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] هذا تعجب عن كيفية حصول الكفر، وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]. ففهمنا فهماً سليماً أيها السامعون والسامعات! أن من لازم كتاب الله وسنة رسول الله هداه الله إلى صراط مستقيم، ولن يستطيع يهودي ولا نصراني ولا غيرهما أن يحمله على الكفر بعد الإيمان، وعلى الضلالة بعد الهداية.

فالمناعة كل المناعة في الكتاب والسنة، والله الذي لا إله غيره، ولنستمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي ). والرسول صلى الله عليه وسلم يقتبس كلامه من كلام ربه، وهو معنى قوله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]. ومن هنا إذا لم يصبح المسلمون في بلادهم .. في قريتهم .. في سهولهم .. في جبالهم يجتمعون على كتاب الله ولا على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك بدون تدخل من اليهود أو النصارى أو المجوس أو البوذيين أو غيرهم فلا عجب أن يرتدوا، وأن ينسوا الله والدار الآخرة، ويصبحوا ماديين كالبلاشفة والملاحدة ولا خيار، فالمسلمون إن أعرضوا عن كتاب الله ولم يجتمعوا عليه ويتدارسوه ويعملوا بما فيه، وأعرضوا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعودوا يذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، ولا يعرفوا له هدياً ولا طريقة ولا منهجاً فسيعودون قطعاً إلى الجاهلية الأولى، ومن عنده غير هذا فليتفضل، ولينصح به المسلمين، والله يقول: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101]؟ فمن أين يأتيكم الكفر، وكيف يصل إلى قلوبكم، والنور يغمركم، وكلام الله يتلى عليكم صباح مساء، وأنتم تتلون وتسمعون، والرسول يقول: كلوا من كذا، وأطعموا كذا، واتركوا كذا، ومن سنتي كذا، فمن أين يأتي الكفر؟ فهو لا يأتي إلا عند فقد القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم.

نستفيد من هذا أن أوضاعنا هابطة، وأننا في أردأ الأحوال وأسوئها، بعدما كنا في علياء السماء نهدي البشرية، وننير حياتها بعلم الكتاب والسنة، فقد هبطنا، والحيلة لنعود إلى ما كنا عليه بسهولة فقط أن نصدق الله في إيماننا، وأن نعلم الآن بيننا أنه لا سبيل لإنقاذنا .. لوحدة كلمتنا .. لتطهير قلوبنا .. لإبعاد الخبث من ديارنا .. لإقامة العدل وإشاعة الرحمة بيننا إلا بالعودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وهذا منهج نهجه رسول الله وأصحابه وأبناؤهم وأحفادهم، فنجحوا وسادوا وفازوا وكملوا، فلننهج ذلك المنهج، ولا نجلس مسحورين، ولنمش وراء رسول الله كما مشى أسلافنا ففازوا وكملوا. فعلى أهل كل قرية من قرى المسلمين في بلاد العجم أو في بلاد العرب أن يجتمعوا في بيت ربهم، وإن لم يكن عندهم مسجد فليبنوا مسجداً، ولا يعقل أن توجد قرية أهلها مسلمون ليس فيها مسجد، وهذا ليس معقولاً، وإن وجد نادراً فالنادر لا حكم له، فأهل القرية يجتمعون في صدق .. في ربانية .. في إخلاص بنسائهم وأطفالهم ورجالهم في بيت ربهم، ولن يلومهم أو يكرههم على الخروج أو يتعرض لهم أحد، فيجتمعون في بيت ربهم من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، ويوقف دولاب العمل، فلا تبقى تجارة ولا صناعة ولا زراعة، فهم يشتغلون من صلاة الصبح أكثر من عشر ساعات، وحسبهم ذلك العمل، وهذا وقت الراحة، والكفار يستريحون من العمل الساعة السادسة، ويذهبون إلى المقاهي .. إلى الملاهي .. إلى المراقص .. إلى الملاعب؛ لأنهم أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ [النحل:21]. وأنتم أيها الأحياء الشاعرون الواعون البصراء العارفون العالمون! تذهبون بعد نهاية عمل الدنيا الساعة السادسة إلى بيوت الله، فإن لله بيوتاً في الأرض، وليست الكعبة وحدها، فكل بيت يبنى باسمه من أجل أن يذكر فيه ويعبد هو بيت الله، ونحمل نساءنا وأطفالنا ونذهب إلى بيت ربنا، وكلمة نحمل ليست ضرورية، بل تمشي أنت وزوجتك وأولادك، فالمسجد أمامكم في القرية، وليس بينك وبينه مدن شاسعة، وكذلك أهل المدن أيضاً أهل كل حي أو منطقة في مسجدهم، ولا يحتاجون إلى أن يركبوا البعير أو السيارة، فالمساجد أمام الناس، فيجتمعون في بيت الله بعد صلاة المغرب مباشرة، ويجلس لهم المربي أو المعلم الذي يجب طاعته واحترامه، وإجلاله وإكباره، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا [البقرة:104]. وهذا شأن المربي، وسواء كان رسول الله أو خليفته في أمته ممن يعلمون الكتاب والسنة، ونجلس بين يديه، والنساء وراء والأطفال دونهن والفحول أمام الكل، والمربي بين أيديهم، وآية فقط يتغنون بها، ويتلذذون بكلماتها، ويستنيرون بأنوار هدايتها ربع ساعة، وإذا بهم قد حفظوها نساء وأطفالاً ورجالاً، وهي عبارة عن طاقة من النور تدخل قلوبهم، فتشرح صدورهم وتنير بصائرهم، فقد اتصلوا بالملكوت الأعلى، فكلام الله في صدورهم ينطقون به، وهذا إنعام الله وإفضاله على المؤمنين، فكلام الله في صدورهم وعلى ألسنتهم، ولما تحفظ الآية يقول المربي: هذه الآية تضمنت كذا، والمطلوب منا هو أن نعتقد كذا إن كانت تحمل معتقداً، أو المطلوب منا أن نلتزم بكذا إذا كانت تأمر بالتزام عبادة من العبادات أو خلق من الأخلاق أو أدب من الآداب، والآية تحمل تحريم كذا علينا، فهذا القول باطل فمن الآن لا نقوله، أو هذا العمل لا نعمله، أو هذا الطعام لا نأكله، أو هذا الشراب لا نشربه؛ لأننا من أولياء الله، وفي الليلة الثانية حديث نبوي شريف، كلمات نطق بها أبو القاسم، وخرجت من فيه صلى الله عليه ألفاً وسلم، تحمل الهدى .. تحمل النور .. تشرح الكلام الإلهي .. تفسر كلام الله .. تبين مغازيه ومعانيه وهدايته، ويتغنون أيضاً بالحديث حتى يحفظ عن ظهر قلب، ويشرح لهم المربي مخاطباً لهم بلفظ أبنائي! إن كان كبير السن .. إخواني! إن كان نظيرهم .. آبائي وأمهاتي! إن كان دونهم، أمرنا نبينا بكذا، فهيا من الآن، وهكذا يوماً آية ويوماً حديثاً، والأنوار تتلألأ، والإيمان ينمو، والطهارة والصفاء، فلا تمضي سنة واحدة إلا وأهل القرية كأنهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والله العظيم في الوفاء والصدق والطهر والصفاء والكرم والكمال بمعناه؛ لأن الله لا تتخلف أبداً سننه، فالكتاب يحيي الأموات، والنور ينير الحياة، وهذا الأمر ليس صعباً إذا كنت تريد أن تنزل السماء السابعة في الجنة في الفردوس، فترك العمل بين المغرب والعشاء والاجتماع في بيت الله نتعلم الهدى ليس صعباً ما يطاق، وإلا فلن ننزل عند سدرة المنتهى، وسنترك العلو، ولن نخلص من هذا الغثاء والزنا والربا واللواط والجرائم والخيانة، وخلف العهد والسب والشتم والغيبة والنميمة والكبر والتعالي التي تعفنت منها ديار المسلمين، وإذا كنا نريد أن نتخلص من التكاليف، فلا إسلام ولا إيمان ولا جنة ولا نار، فهذا نوع آخر، وهذا هو الكفر والإلحاد والبلشفة والشيوعية والدهرية، والبرانيط والصلبان والأسواق والمقاهي والملاهي، فلا نخادع أنفسنا، ويبقى لنا فقط عذر واحد، وهو أن نقول: ما وجدنا يا شيخ! من يدعونا لهذا، ولم نجد من يجمعنا في بيت ربنا، وهذا حقيقة، ما وجد المؤمنون من يذكرهم ومن يجمعهم ومن يطهر قلوبهم، وكل ما في الأمر أننا وجدنا جماعات تتناحر، وأحزاب تتطاحن بالكلام والحياة واقفة، وعندنا كلمة غالية وسهلة: النجاة النجاة! فيا عبد الله! اطلب النجاة لنفسك، ويا أمة الله! اطلبي النجاة لنفسك، فأمسك عنك لسانك ولا تنتمي ولا تدعي، وقل: أنا مسلم، والزم بيتك وبيت ربك، وامش إلى عملك وعد منه، ولا تتكلم ولا تهرف ولا تقول ولا تتكلم، واصبر على ذلك وإن أوذيت، فإنك تنجو بإذن الله، ومن قرع باب الله ولج، والله لا يرد أبداً من قرع بابه، ويكفينا هذا البكاء، والحمد لله.

قال:[ النداء الثالث عشر ] من نداءات الرحمن لأهل الإيمان من أمثالكم، مضمونه ومحتواه [ في الأمر بتقوى الله والموت على الإسلام ] وتقوى الله هي السلم الذي يرقى به صاحبه إلى الملكوت الأعلى وإلى دار السلام؛ لأن تقوى الله هي خوف منه يحمل الخائف على أن لا يعصي الله ورسوله، فإذا أطاع الله ورسوله زكت نفسه وطابت وطهرت، وأصبح لا يحجبها عن الملكوت الأعلى إلا الموت فقط، ويوم أن يأتي الموت يكون أخونا أو ابننا في الملكوت الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. فلا بد من تقوى الله والموت على الإسلام؛ إذ قد يتقي العبد الله دهراً وأخيراً ينتكس بحيلة محتال أو بوسواس شيطان، فيرجع إلى الوراء، ويموت على غير الإسلام، فهذا النداء الكريم يحوي هذين الأمرين العظيمين: تقوى الله والموت على الإسلام، ولو أعطينا الدنيا بما فيها على أن نرجع إلى الوراء وأن نرتد عن ديننا فوالله ما نقبل، وليس ملكاً أو سيادة، بل الدنيا بكاملها، بل ونرضى أن نقطع ونصلب ونحرق ولا نرجع عن ديننا أبداً، ولابد من وجود هذا في قلبك والعيش عليه؛ حتى تستطيع بإذن الله أن تكمل أيامك وتموت على الإسلام.

قال: [ الآية (102) من سورة آل عمران : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ].

وهذه الآية تصلى بها النافلة، بل تصلى بها الفريضة وتصح، فلنحفظها ونصلي بها نوافلنا وفرائضنا، ومنعنا من ذلك أن العدو الماكر لا يسمح لك أن تفتح فاك أبداً، ولا أن تردد هذه الآية، ولا أن تختزنها في مخزن العلم ألا وهو القلب والصدر، فعلى العامي أن يحفظها ويتغنى بها في الشارع وهو راكب على دابته، فهي أغلى من الجواهر واللآلئ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. أي: نعزم ونصمم على أن لا نموت إلا مسلمين، كيفما كانت الأحوال والظروف، فيكون هذا قصدنا وعزمنا حتى نلقى ربنا، هذا المطلوب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

قال: [ اعلم أيها القارئ الكريم ] لنداءات الرحمن! لأن هذه النداءات ستصبح إن شاء الله في بيوتنا، لا يخلو منها بيت مؤمن إن شاء الله [ أن هذا النداء الإلهي يحمل أمرين عظيمين من التكليف ] الإلهي لنا، وقد عرفنا هذين الأمرين العظيمين، وهما التقوى والموت على الإسلام، فقد قال: أَسْلَمُوا [آل عمران:20]، وقال: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ [البقرة:208]، وقال: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102] [ ولولا الله تعالى ما قدر مؤمن على النهوض بهما ] والآن ننسب إلى أنفسنا القدرة المطلقة بعد أن حرمنا الله هدايته وعونه، وبلايين البشر طاروا في السماء وغاصوا في الماء وحللوا الذرة وفعلوا غير ذلك وما عرفوا الله بعد، ولا آمنوا به؛ لأن الله ما أراد هدايتهم؛ لأنهم أعرضوا عنه وتكبروا عن نبيه ودينه فحرمهم، ولو قرعوا الباب وطالبوا الله لفتح الباب لهم [ إلا أن العبد إذا صدق ربه وأخلص النية والعمل له ولجأ في صدق إليه سبحانه وتعالى فإن الله عز وجل لا يخيبه، بل يسدده ويعينه حتى يأتي بهذين المطلبين العظيمين اللذين هما تقوى الله حق تقاته والموت على الإسلام ] وقد بلغني أن بعض الضائعين وهو يموت في حادث سيارة كانوا يلقونه لا إله إلا الله وهو يغني، فمات يغني، فهذا لم يمت على الإسلام، وإنما مات على عبادة الشيطان؛ لأنه في حياته ما ذكر الله، وما تغنى بكلام الله، وإنما تغنى بأغاني الشيطان المثيرة للغرائز والدافعة إلى الخبث والعياذ بالله تعالى [ إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ].

الأمر بتقوى الله عز وجل

قال: [ واعلم أيها المؤمن! أن الأمر بالتقوى أمر الله به تعالى عباده المؤمنين في عشرات الآيات ] في أكثر من سبعين مرة [ وإنما قوله هنا: حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102] هذا الذي حير عقول العلماء؛ إذ ليس في قدرة العبد ذلك ] أي: أن يتقي الله حق تقاته، فهو لا يستطيع ولا قدرة له على ذلك [ إذ لو ذاب العبد ] والذوبان هو التحول إلى ماء كصخرة الثلج عندما تذوب [ وتحلل وتبخر من خشية الله تعالى ] والخوف منه [ ما كان ذلك وافياً بتقوى الجبار الذي يقول للشيء: كن فيكون، والذي الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، والذي يحيي ويميت، ويعز ويذل، وهو على كل شيء قدير ] فلن نتقيه حق تقاته ولو ذبنا كل يوم سبعين مرة.

[ وقد ذكر أهل العلم من السلف الصالح أن تقوى الله حق تقاته هي: أن يذكر ] الله [ تعالى فلا ينسى، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر ] فتقوى الله حق تقاته ليست الذوبان، فنحن لا نستطيع أن نذوب، وإنما نذكر الله ولا ننساه أبداً، ونطيعه ولا نعصيه أبداً، ونشكره ولا نكفره، فمن كان هكذا فقد اتقى الله حق تقاته، فاذكره ولا تنساه، واشكره ولا تكفره، وأطعه ولا تعصيه؛ حتى تكون ممن اتقاه حق تقواه [ والذي يخفف على المؤمن همه في تقوى الله حق تقاته ] ويمده بالقدرة والاستطاعة على ذلك قبل أن يخسر ويهلك، فالذي يحمل هذا الهم هناك ما يخففه عنه، والذي لا هم له من أصحاب المقاهي والملاهي لا شأن له بهذا، حتى يلقى مصيره أحب أم كره [ هو قول الله تعالى في سورة التغابن ] وهي بين المنافقون والطلاق، وأولها: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ [التغابن:1] [ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] ] فهذا الذي خفف الحمل، اتقوا الله ما استطعتم، فإن عجزتم فلا شيء عليكم، فاتقوا الله عباد الله! ما استطعتم، فالذي تستطيع حمله احمله، والذي تستطيع أن تعطيه أعطه، والذي تستطيع أن تقوله قله، وما عجزت عنه فلا شيء عليك، ولم تخرج عن دائرة تقوى الله حق تقاته [ فهذه الآية كالمخصصة لعموم قوله تعالى في هذه الآية ] آية آل عمران: [ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102] ] فهذه عامة خصصتها الآية الكريمة من سورة التغابن [ والحمد لله.

ولنعلم أيها المؤمن! أن العبد إذا حمل هم تقوى الله حق تقاته فأصبح يذكر ولا ينسى، ويشكر ولا يكفر، ويطيع ولا يعصي، وذلك في أغلب أوقاته وأكثر أحواله، فإنه بحمد الله تعالى يحقق المطلوب منه، وهو أن يتقي الله حق تقاته في حدود طاقته البشرية وخوفه الإنساني.

بيان ما تتحقق به التقوى

قال: [ واذكر أيها المؤمن! ] وقلنا له: اذكر لأنه سبق أن عرف في النداءات السابقة [ أن تقوى الله عز وجل هي طاعته وطاعة رسوله ] صلى الله عليه وسلم [ بفعل الأوامر واجتناب ] وترك [ النواهي في حدود الطاقة البشرية ] فقد قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]. فلو كان هناك مريض لم يستطع أن يصوم فيفطر [ إلا أن هذه الطاعة ] طاعة الله والرسول بفعل الأمر وترك المنهي [ متوقفة ] على عمود وقاعدة عرفناها ونسيناها، ولا تتم إلا بها، فلن تستطيع يا عبد الله! ويا أمة الله! أن تتقي الله في الأمر والنهي إذ هذه التقوى متوقفة [ على معرفة الأوامر ] الإلهية والنبوية [ وكيف تفعل، ومعرفة النواهي وبم تترك ] أي: إلا بطلب العلم، وقد عدنا من حيث بدأنا، فيا عدنان ! اتق الله، فلا تشرب الخمر، ولا تقل الباطل، ولا تترك الصلاة، وأما الجاهل الذي ما عرف الله، ولا عرف ما أمر الله به ولا ما نهى، فلا يستطيع أن يتقيه، ومستحيل أن يتقيه، وعندنا سر وراء ذلك أيضاً وعرفناه [ وهنا يتعين ] ويجب [ طلب العلم، وهو معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته معرفة تثمر حبه تعالى في القلب، وخشيته في النفس، ومعرفة أوامره ونواهيه، ومعرفة محابه ومكارهه؛ ليحب العبد ما يحب ربه، ويكره ما يكره ] مولاه.

ثمرة التقوى

قال: [ وبهذه التقوى تتحقق للعبد ولاية الرب عز وجل ] فيصبح فلان ولي الله، وأنتم أولياء الله، ولكن تتفاوتون في المراتب، كما تعرفون مراتب الجيش تتفاوت من عسكري إلى لواء إلى فوق اللواء، وهذه رتب كثيرة، فنحن أولياء لإيماننا وتقوانا، ولكن إيماننا فيه ضعف فيتفاوت، وتقوانا تتفاوت، فلن يكون أحد كـأبي بكر الصديق أبداً؛ إذ ليس فوق الصديق شيء، وقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( لو وضع إيمان أبي بكر في كفة ميزان، ووضع إيمان الأمة كلها في كفة لرجح إيمان أبي بكر ). ومن العجيب أنه يوجد بيننا من يكفره! فيا للعمى! ويا للضلال! ويا للحيرة والتيهان! في سوء الباطل والشر والخداع، وقد بلغنا أنه يوجد من المسلمين من يكفر أبا بكر ويكرهه، وإذا سمع كلمة أبو بكر يغضب، فلا إله إلا الله! [ ومتى ظفر العبد بهذا المطلب السامي وهو ولاية الله تعالى فقد فاز بالسعادة في الدارين، وتلك أمنية العاملين، وهدف الساعين من المؤمنين ] والحمد لله [ كان هذا بيان تقوى الله حق تقاته ].

النهي عن الموت على غير الإسلام

قال: [ وأما بيان قوله تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] فإن الله تعالى لما أمرنا بتقواه حق التقوى نهانا أن نموت على غير الإسلام كاليهودية أو النصرانية أو غيرهما من الأديان الباطلة ] كالمجوسية [ وهل يملك المرء أن يموت على الإسلام أو غير الإسلام؟ والجواب: أن على العبد أن يسلم قلبه ووجهه لله تعالى، فلا يتقلب قلبه إلا في طاعة الله وطلب مرضاته، ولا يوجه وجهه راغباً أو راهباً إلا إلى الله عز وجل، ويستمر على ذلك، فإنه لا يموت إلا على تلك الحال، وهي الإسلام ] فإذا كنت تريد أن تموت على الإسلام فأعط قلبك لله، ولا تدعه يتقلب دائماً إلا في طلب رضا الله، فإذا أردت أن تشتري الخبز للعائلة أو للأسرة، فأنت مأمور بالإنفاق عليهم كما أمرك الله، إذاً: فإتيانك بالخبز إليهم هذا لله، وهنا تقلب قبلك لله، ولطلب لرضاته، وخوفاً من معصيته، فاجعل قلبك لا يتقلب إلا في الله، ووجهك لا يتجه إلا حيث رضا الله، ولازم هذا فلن تموت إلا مسلماً [ ومعنى هذا: أن الاستمرار على طاعة الله ورسوله مع العزم على الموت على الإسلام سيؤدي قطعاً بالعبد إلى أن يموت مسلماً، وكيف وهو يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار؛ وذلك لما يوجده الإيمان الصحيح الذي يرضى صاحبه أن يقتل ويصلب ويحرق ويمزق ولا يرضى أن يكفر بعد إيمانه وطاعته لربه وحصوله على رضاه.

فاذكر هذا أيها المؤمن! وواصل طريق تقوى الله؛ فإنك ضامن أن لا تموت إلا على الإسلام بمشيئة الرحمن جل جلاله. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين] وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.