المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار


الحلقة مفرغة

وقائع غزوة الفتح وأحداثها كثيرة وشهيرة وذات مدلولات عظيمة لمرحلة تاريخية مفصلية في هذا الأمة، إذ وجد مجرمون كانوا ينالون من الإسلام ونبيه ويعملون على هدمه ومحوه، فهؤلاء كانوا ضمن لائحة عدم العفو العام عنهم يوم الفتح وكان عددهم ثمانية، كما أن المسلمين الجدد كان لهم لقاء بيعة على جبل الصفا مع الحبيب المربي صلى الله عليه وسلم، يبايعهم على السمع والطاعة فيما استطاعوا إليه سبيلاً.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم بارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعـد:

فسنتحدث -أيها الإخوة- في هذه الليلة -إن شاء الله- عن موضوع من موضوعات سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض ما يستفاد منها، وهو: "المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار" التي حصلت في المجتمع المدني عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .

أما المدينة وكان اسمها القديم يثرب فكانت واحة خصبة التربة تحيط بها الحرات من جهاتها الأربع، وأهمها: حرة واق من الشرق، وحرة الوبرة في الغرب.

وكانت حرة واق أكثر خصوبة وعمراناً من حرة الوبرة، ويقع جبل أحد شمال المدينة ، وجبل عير في جنوبها الغربي، وتقع فيها عدة وديان أشهرها وادي بطحان ومذيميم ومأزور والعقيق، وهي تنحدر من الجنوب إلى الشمال حيث تلتقي عند مجمع الأسيال من رومة.

اليهود وهجرتهم إلى المدينة

استوطن اليهود يثرب ، وجاءوا إلى الحجاز عامة نازحين من الشام في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد، عندما هيمن الرومان على بلاد مصر والشام ، فأدى ذلك باليهود إلى الهجرة إلى شبه جزيرة العرب ، ووصلوا إلى يثرب على مجموعات واستقروا بها، ومنهم يهود بني النضير وبني قريظة، واستقر يهود بني النضير وقريظة في حرة واق وهي أخصب بقاع المدينة ، وكذلك جاء بنو قينقاع الذين قال بعض المؤرخين: إنهم كانوا عرباً تهودوا، وقال بعضهم: إنهم كانوا يهوداً أصليين، وغير هؤلاء من اليهود، مثل بني عكرمة ومحمر وزعورة والشطيبة وجشم وبهدل وعوف وغيرهم.

وكان عدد هؤلاء بالمئات، حتى إن المؤرخين قد ذكروا أن المقاتلين من بني قينقاع كانوا سبعمائة، ومثلهم تقريباً من بني النضير، وما بين السبعمائة والتسعمائة من بني قريظة، فالمقاتلون من يهود القبائل الثلاث يزيدون قليلاً على الألفين، وهناك غيرهم ممن يسكنون في أماكن متناثرة من يثرب .

وقد خضع ذلك المجتمع لسيطرتهم قبل أن يقوى كيان العرب في ذلك الوقت، ونقلوا من الشام أفكاراً مثل: بناء الآطام وهي الحصون، حيث بلغ عددها في يثرب تسعة وخمسين حصناً، وكذلك حملوا معهم بعض الخبرات الزراعية والصناعية من بلاد الشام مما أدى إلى ازدهار البساتين في المدينة ، وكذلك تربية الدواجن والماشية، وبعض الصناعات الأولية كالنسيج والأواني، وكان على رأس الأعمال الاقتصادية التعامل بالربا الذي يتقنه اليهود في كل مكان.

هجرة العرب إلى المدينة

بالنسبة للعرب فإنهم قد جاءوا من اليمن وسكنوا يثرب وهم الأوس والخزرج، وكانوا بعد اليهود؛ لأن اليهود قد سبقوهم إلى ذلك المكان، وتملكوا أخصب البقاع وأعذب المياه، ولذلك اضطر الأوس والخزرج إلى سكن الأراضي المهجورة، وهم ينتمون إلى قبيلة الأزد اليمنية التي خرجت من اليمن إلى الشمال في فترات مختلفة، وبعض المؤرخين يقول: إن خروجهم كان بسبب انهيار سد مأرب وحدوث سيل العرم، وهي عقوبة ذكرها الله لـسبأ بسبب إعراضهم عن الحق.

ولما هاجر هؤلاء الأزد واستقروا بـيثرب إلى جانب اليهود، وكان هؤلاء قد أحكموا سيطرتهم عليها -كما قدمنا- ويمكن أن يقدر عدد الأوس والخزرج من المقاتلين الرجال بأربعة آلاف وهو ما قدموه لجيش الفتح الإسلامي الذي فتح مكة .

اليهود والكيد بين الأوس والخزرج

وقد حاول اليهود الدفاع عن تسلطهم بتفتيت وحدة العرب من الأوس والخزرج، ولذلك أذكوا بينهم نار العداوة والحروب، وكان آخر معركة قامت بينهم هي يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنوات، حيث هزم الأوس الخزرج الذين طالما غلبوهم من قبل، ولجأت الأوس إلى محالفة بني النضير وبني قريظة.

لكن هؤلاء المتنافسون من قبائل العرب فطنوا إلى خطورة الإجهاز على بعضهم البعض، فسعوا إلى المصالحة، حتى يكون هناك شيء من التوازن مع اليهود الذين يسكنون يثرب ، فاتفقوا على ترشيح رجل من اليهود، وهو عبد الله بن أبي بن سلول ليكون رجلاً متوجاً على الجميع في يثرب ، ولاشك أن هذه الوقائع قد ولدت شعوراً بالمرارة عند الطرفين، وكان عبد الله بن أبي على وشك تولي هذا الملك على الجميع بعد وقعة بعاث الذي قتل فيها أعداد كبيرة من الأوس والخزرج، وكانت هذه الموقعة تهيئة هيأها الله تعالى للنبي عليه الصلاة السلام قبل أن يأتي المدينة ، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: كان يوم بعاث يوماً قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افترق ملؤهم، وقتلت سرواتهم وجرحوا. قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم الإسلام، فجاء على قوم متفرقين يلملمون جراحاتهم، قد قتل معظم ساداتهم.

ولذلك كان هذا الحدث مما سهل قدوم النبي عليه الصلاة والسلام، وبروز المسلمين واجتماع الكلمة عليهم، ولو كانوا قوماً أقوياء متحالفين من الأصل لربما كان دخول المسلمين بينهم صعباً، فكان يوم بعاث منة من الله قدمها لنبيه صلى الله عليه وسلم.

هذه لمحة سريعة عن حال يثرب قبل قدوم النبي عليه الصلاة والسلام، ولاشك أن الشائع عندهم عبادة الأصنام والأوثان، وكانت عندهم العادات الجاهلية السيئة، وكذلك كان عندهم الظلم والبطش والبغي، ولا يوجد عندهم انضباط في أخلاق أو في عادات تهيمن عليهم، ولذلك كان الغالب عليهم الفوضى.

وكان كذلك من الأمور المتفشية الربا وأكله، والخمر وشربه، وغير ذلك من العادات السيئة، ولما حصلت الهجرة، وهو الحدث العظيم الذي أرخ المسلمون به تاريخهم، حيث جعل عمر رضي الله عنه العام الهجري هو الأصل، فأرخ المسلمون من الهجرة؛ لأنها كانت فعلاً البداية الحقيقية لظهور الإسلام؛ لأن المسلمين في مكة كانوا مستضعفين مغلوبين مقهورين، وكانت الهجرة هي الحدث الذي كان الانطلاقة القوية الحقيقية لانتصار الإسلام وهيمنة المسلمين في ذلك الوقت.

استوطن اليهود يثرب ، وجاءوا إلى الحجاز عامة نازحين من الشام في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد، عندما هيمن الرومان على بلاد مصر والشام ، فأدى ذلك باليهود إلى الهجرة إلى شبه جزيرة العرب ، ووصلوا إلى يثرب على مجموعات واستقروا بها، ومنهم يهود بني النضير وبني قريظة، واستقر يهود بني النضير وقريظة في حرة واق وهي أخصب بقاع المدينة ، وكذلك جاء بنو قينقاع الذين قال بعض المؤرخين: إنهم كانوا عرباً تهودوا، وقال بعضهم: إنهم كانوا يهوداً أصليين، وغير هؤلاء من اليهود، مثل بني عكرمة ومحمر وزعورة والشطيبة وجشم وبهدل وعوف وغيرهم.

وكان عدد هؤلاء بالمئات، حتى إن المؤرخين قد ذكروا أن المقاتلين من بني قينقاع كانوا سبعمائة، ومثلهم تقريباً من بني النضير، وما بين السبعمائة والتسعمائة من بني قريظة، فالمقاتلون من يهود القبائل الثلاث يزيدون قليلاً على الألفين، وهناك غيرهم ممن يسكنون في أماكن متناثرة من يثرب .

وقد خضع ذلك المجتمع لسيطرتهم قبل أن يقوى كيان العرب في ذلك الوقت، ونقلوا من الشام أفكاراً مثل: بناء الآطام وهي الحصون، حيث بلغ عددها في يثرب تسعة وخمسين حصناً، وكذلك حملوا معهم بعض الخبرات الزراعية والصناعية من بلاد الشام مما أدى إلى ازدهار البساتين في المدينة ، وكذلك تربية الدواجن والماشية، وبعض الصناعات الأولية كالنسيج والأواني، وكان على رأس الأعمال الاقتصادية التعامل بالربا الذي يتقنه اليهود في كل مكان.

بالنسبة للعرب فإنهم قد جاءوا من اليمن وسكنوا يثرب وهم الأوس والخزرج، وكانوا بعد اليهود؛ لأن اليهود قد سبقوهم إلى ذلك المكان، وتملكوا أخصب البقاع وأعذب المياه، ولذلك اضطر الأوس والخزرج إلى سكن الأراضي المهجورة، وهم ينتمون إلى قبيلة الأزد اليمنية التي خرجت من اليمن إلى الشمال في فترات مختلفة، وبعض المؤرخين يقول: إن خروجهم كان بسبب انهيار سد مأرب وحدوث سيل العرم، وهي عقوبة ذكرها الله لـسبأ بسبب إعراضهم عن الحق.

ولما هاجر هؤلاء الأزد واستقروا بـيثرب إلى جانب اليهود، وكان هؤلاء قد أحكموا سيطرتهم عليها -كما قدمنا- ويمكن أن يقدر عدد الأوس والخزرج من المقاتلين الرجال بأربعة آلاف وهو ما قدموه لجيش الفتح الإسلامي الذي فتح مكة .

وقد حاول اليهود الدفاع عن تسلطهم بتفتيت وحدة العرب من الأوس والخزرج، ولذلك أذكوا بينهم نار العداوة والحروب، وكان آخر معركة قامت بينهم هي يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنوات، حيث هزم الأوس الخزرج الذين طالما غلبوهم من قبل، ولجأت الأوس إلى محالفة بني النضير وبني قريظة.

لكن هؤلاء المتنافسون من قبائل العرب فطنوا إلى خطورة الإجهاز على بعضهم البعض، فسعوا إلى المصالحة، حتى يكون هناك شيء من التوازن مع اليهود الذين يسكنون يثرب ، فاتفقوا على ترشيح رجل من اليهود، وهو عبد الله بن أبي بن سلول ليكون رجلاً متوجاً على الجميع في يثرب ، ولاشك أن هذه الوقائع قد ولدت شعوراً بالمرارة عند الطرفين، وكان عبد الله بن أبي على وشك تولي هذا الملك على الجميع بعد وقعة بعاث الذي قتل فيها أعداد كبيرة من الأوس والخزرج، وكانت هذه الموقعة تهيئة هيأها الله تعالى للنبي عليه الصلاة السلام قبل أن يأتي المدينة ، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: كان يوم بعاث يوماً قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افترق ملؤهم، وقتلت سرواتهم وجرحوا. قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم الإسلام، فجاء على قوم متفرقين يلملمون جراحاتهم، قد قتل معظم ساداتهم.

ولذلك كان هذا الحدث مما سهل قدوم النبي عليه الصلاة والسلام، وبروز المسلمين واجتماع الكلمة عليهم، ولو كانوا قوماً أقوياء متحالفين من الأصل لربما كان دخول المسلمين بينهم صعباً، فكان يوم بعاث منة من الله قدمها لنبيه صلى الله عليه وسلم.

هذه لمحة سريعة عن حال يثرب قبل قدوم النبي عليه الصلاة والسلام، ولاشك أن الشائع عندهم عبادة الأصنام والأوثان، وكانت عندهم العادات الجاهلية السيئة، وكذلك كان عندهم الظلم والبطش والبغي، ولا يوجد عندهم انضباط في أخلاق أو في عادات تهيمن عليهم، ولذلك كان الغالب عليهم الفوضى.

وكان كذلك من الأمور المتفشية الربا وأكله، والخمر وشربه، وغير ذلك من العادات السيئة، ولما حصلت الهجرة، وهو الحدث العظيم الذي أرخ المسلمون به تاريخهم، حيث جعل عمر رضي الله عنه العام الهجري هو الأصل، فأرخ المسلمون من الهجرة؛ لأنها كانت فعلاً البداية الحقيقية لظهور الإسلام؛ لأن المسلمين في مكة كانوا مستضعفين مغلوبين مقهورين، وكانت الهجرة هي الحدث الذي كان الانطلاقة القوية الحقيقية لانتصار الإسلام وهيمنة المسلمين في ذلك الوقت.

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى المدينة ، بعدما صارت بيعة العقبة الأولى والثانية، وصار هناك قاعدة من الأنصار من أهل المدينة تنصر النبي صلى الله عليه وسلم، فهب المسلمون متفانين بالهجرة، وضحوا بأوطانهم وأموالهم وأهليهم استجابة لنداء الله ورسوله، حتى إن قريشاً لما اعترضت صهيباً الرومي بحجة أنه جمع أمواله من العمل في مكة ، ولم يكن له مال قبل قدومه إلى مكة ، ترك لهم أمواله وهاجر بنفسه، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( ربح البيعأبا يحيى ).

ومنع المشركون أبا سلمة رضي الله عنه من الهجرة بزوجته وابنه فلم يمنعه ذلك من الهجرة وحيداً تاركاً زوجته وطفله في مكة ، وقد ظلت زوجته أم سلمة تخرج كل غداة بالأبطح تبكي حتى تمسي نحو سنة، حتى تمكنت من الهجرة بابنها ولحقت بزوجها، وهكذا كانت الهجرة في ظروف صعبة، وكانت تمحيصاً لإيمان المؤمنين، واختباراً لقوة عقيدتهم واستعلاء إيمانهم، وقدم لنا أولئك المهاجرون درساً عظيماً في كيفية ترك المسلم أعز ما عنده من أجل الله ورسوله.

كيف يهجر المسلم بلده التي يحن إليها والمكان الذي تربى فيه وترعرع وشب لله ورسوله؟ بل تركوا الأموال والتجارات وتركوا بيوتهم التي كانت لديهم مهاجرين إلى الله ورسوله، ولذلك كان المهاجرون فعلاً أعظم المؤمنين على الإطلاق في ذلك الوقت، وصاروا مؤهلين للاستخلاف في الأرض بما جعلهم الله تعالى في الرتبة العالية.

اختار الله عز وجل لنبيه المدينة للهجرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين) فاللابتان هما الحرتان، الحرة الشرقية والحرة الغربية ، وبينهما الأرض ذات نخل، وهاجر المسلمون وتأخر النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق ، حتى أذن الله تعالى له بالهجرة.

وقد أحس المشركون بهجرة المسلمين، فغاظهم ذلك فتعاقدوا على قتل النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن الله عز وجل أعمى أبصارهم فلم يروه، فخرج هو وصاحبه الصديق إلى المدينة يقطعان الصحراء، والنبي عليه الصلاة والسلام كان في الثالثة والخمسين من العمر، والصديق في الحادية والخمسين، ومع ذلك فإنهما خرجا إلى المدينة مهاجرين، ووصلا المدينة وقد جعل الله للمسلمين فرجاً ومخرجا، مصداقاً لقوله تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100].

ولذلك نعى الله عز وجل ولام الذين قدروا على الهجرة فلم يهاجروا، بقوله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً [النساء:97-99] وعسى من الله موجبة، فإذا قال الله: عسى الله، أي: فإن هذا هو ما سيحدث.

والهجرة بطبيعة الحال أمر مهم جداً؛ لأن المسلم إذا بقي بين الكفار فإنه سيكون من المعينين لهم ويكثر سوادهم، وينتفع المشركون بطاقاته وإمكاناته، في الوقت الذي يحرم المسلمون من هذا الرجل المسلم ومن طاقاته وإمكاناته، من صناعة وزراعة وخبرة حربية ونحو ذلك، بالإضافة إلى أن المسلم إذا جلس بين الكفار فإنه يتعرض للفتنة، بالإضافة إلى أنهم قد يجبرونه على الخروج معهم في الحروب وتكثير سوادهم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من جاء مع المشرك وسكن معه فإنه مثله) رواه أبو داود . وهذا يدل على وجوب الخروج من بين المشركين إذا كان هناك مكان للمسلمين يأوي إليه الشخص آمناً مستقراً.

وفي حالة وجود بلد الإسلام الذي تطبق فيه شريعة الله تعالى، ويستقبل المسلمين لتكثير سوادهم وانتفاع البلد بهم، فإنه تجب الهجرة من بلاد الكفار إليه، وبعض المسلمين تأخروا عن الهجرة تحت ضغوط الأزواج والأولاد، فلما هاجروا بعد فترة ورأوا الذين سبقوهم من المهاجرين وقد تفقهوا في الدين، هموا بمعاقبة زوجاتهم وأولادهم، وكان ذلك سبب نزول الآية الكريمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14] ثم أمر الله تعالى بالصفح والعفو، وهذا يدل على أن الزوجة والأولاد قد يكونون من العوائق التي تعيق تقدم الشخص في الدين وتفقهه فيه، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (الولد مجبنة مبخلة مجهلة محزنة) مجبنة، أي: يريد الأب أن يجاهد في سبيل الله فيتذكر الولد وأنه يحتاج إليه ونحو ذلك فيقعد، يريد الأب أن ينفق في سبيل الله فيتذكر الأولاد، يقول: أولادي أحوج فلا ينفق، يريد أن يذهب لطلب العلم فيشغله أولاده عن طلب العلم فيبقى في جهل، محزنة: أي أن الولد يمرض -مثلاً- فيحزن الأب ويصيبه الكرب، وإذا كان الولد عاقاً فإن ذلك يكون الهم اللازم والمصيبة الكبيرة والحزن العظيم في نفس الأب.

ولذلك حذرنا الله من الركون إلى فتنة الزوجة والأولاد، وأمر بمجاهدتهم في الله عز وجل، وأن نحملهم على طاعة الله تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].

واستمرت الهجرة من مكة ومن غير مكة إلى المدينة ، حتى إن المدينة ضاقت بسكانها المتزايدين وما يحتاجونه من القوت وخصوصاً بعد الخندق، فلما صارت وقعة الخندق وبانت قدرة المسلمين على الدفاع عن كيانهم أمام الأحزاب مجتمعين، ولم تعد المدينة بحاجة إلى مهاجرين جدد، نظراً لأنه قد صار فيها القوة الأساسية التي يمكن الدفاع بها عن البلد ككل، وحصل نوع من الازدحام في المدينة ، وصار هناك شيء من الشح في القوت والمسكن - طلب النبي صلى الله عليه وسلم من بعض المهاجرين بعد الخندق العودة إلى ديارهم قائلاً لهم: (هجرتكم في رحالكم) لأنه لم تعد هناك ثمة حاجة لإقامتهم في المدينة ، بل صارت المصلحة أن يقيموا في أماكنهم وقبائلهم وأحيائهم، في الدعوة إلى الله خارج المدينة لتوسيع رقعة الإسلام.

ولكن ذلك لم يكن إيقافاً للهجرة؛ لأن الهجرة من مكة لم تتوقف إلا بعد الفتح، بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح) أي: لا هجرة من مكة إلى المدينة بعد الفتح؛ لأن مكة صارت دار إسلام، فلأي شيء يهاجر منها؟! فانقطعت الهجرة وما عاد هناك أجر للهجرة من مكة إلى المدينة ؛ وبذلك سقط فرض الهجرة إلى المدينة ، وبقي فرض الجهاد والنية.

وأدت الهجرة إلى تنوع سكان المدينة ، حيث صار فيها من الأحياء المختلفين غير الأوس والخزرج من العرب، وضم ذلك كله وحدة المسلمين، وكان أعداؤهم المنافقين واليهود، فانقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: المؤمنين والمنافقين واليهود، لما اجتمع هذا العدد من المهاجرين في المدينة ، كان لابد من إيجاد حل لهؤلاء الوافدين القادمين الذين كثيرٌ منهم ما عندهم أموال ولا بيوت ولا مأوى، فجاء الحل الشرعي وهو المؤاخاة، واعتبر الإسلام المؤمنين كلهم إخوة، فقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] وأوجب عليهم الموالاة لبعضهم، والتناصر في الحق بينهم، وحصلت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.

المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم

وذهب بعض المؤرخين إلى أنه قد حصلت مؤاخاة في مكة بين بعض المكيين، وقد أخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن عن ابن عباس أنه قال: (آخا النبي صلى الله عليه وسلم بين الزبير وابن مسعود) ولكن ذهب ابن القيم وابن كثير إلى عدم وقوع المؤاخاة بـمكة ، وأن المؤاخاة ما كانت إلا في المدينة ، وكذلك هو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي نفى وقوع المؤاخاة بين المهاجرين في مكة ، وخصوصاً ما روج من بعض الأخبار في المؤاخاة بين النبي عليه الصلاة والسلام وعلي ، ولأن المؤاخاة إنما كانت لإرفاق بعضهم بعضاً، وتأليف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لأحد، ولا لمؤاخاة مهاجري مع مهاجري.

وابن حجر رحمه الله ذهب إلى أن النص إذا جاء فإنه لابد من الأخذ به، وأن هناك حكمة أخرى للمؤاخاة وهي: أن بعض المهاجرين كان أفضل من بعض بالمال والعشيرة والقوة، فآخا بين الأعلى والأدنى من المهاجرين أنفسهم، حتى يرفق الأعلى بالأدنى، ويستعين الأدنى بالأعلى، فآخا بين حمزة وزيد بن حارثة ؛ لأن زيداً مولاهم، وإن كان هناك مؤاخاة في مكة فهي شيء يسير، ولو كان هناك في المدينة مؤاخاة بين بعض المهاجرين، فهي حالات خاصة من مهاجر عنده إمكانات.

المؤاخاة الأساسية بين المهاجرين والأنصار

المؤاخاة الأساسية كانت بين المهاجرين والأنصار، وكانت المدينة بطبيعة الحال فيها الزراعة والصناعة التي لم يكن المهاجرون قد تمرسوا بشيء منها؛ لأن وظيفة المهاجرين الأساسية في مكة كانت التجارة؛ لأن مكة لم تكن بلداً ذات زرع.

ثم إن هؤلاء المهاجرين لما قدموا إلى المدينة لم يستطيعوا ممارسة التجارة؛ لأن التجارة تحتاج إلى رأس مال، ولذلك لم يتمكنوا من شق طريقهم بأنفسهم في المجتمع الجديد، وكانت حياتهم في المدينة حياة صعبة، وكان الحنين إلى مكة شديداً، وأصابت المهاجرين حمى يثرب ، وهي وباء كان فيها، فالنبي عليه الصلاة والسلام دعا الله أن تنتقل الحمى إلى الجحفة ، ورفعت الحمى من المدينة ونزلت في الجحفة ، فهي المرأة السوداء التي رآها عليه الصلاة والسلام في المدينة في منامه.

ودعا النبي عليه الصلاة والسلام الله عز وجل أن يحبب المدينة إليهم كحبهم مكة أو أشد، وبالفعل صارت محبة المهاجرين للمدينة شديدة، حتى إنهم بعد فتح مكة ما جلسوا في مكة ، وإنما رجعوا إلى المدينة ، ورجع النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ، مع أنها فتحت مكة ورجعت إليهم بيوتهم ودورهم وأموالهم، ولكن مع ذلك بقيت محبة المدينة هي الأساس، فرجع النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه المهاجرون جميعاً إلى المدينة .

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار تحقيق للتكافل الاجتماعي

الذي حصل أن العلاج السريع الذي كان يتطلبه الموقف في قضية الفقر الذي كان عند المهاجرين، ومشكلة النازحين إلى المدينة كانت تتطلب حلاً جذرياً وسريعاً، ولذلك شرعت المؤاخاة، ولم يبخل الأنصار بشيء من العون، بل مدوا أيديهم لإخوانهم، وضربوا الأمثلة الرائعة في التضحية والإيثار، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] وقد بلغ كرم الأنصار حداً عالياً، حيث اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم نخلهم بينهم وبين المهاجرين، إلى هذه الدرجة؟! يعني يشاطره في ماله، نصفه لأخيه ونصفه يبقى له! ولكن المهاجرين ما كان عندهم علم بكيفية رعاية النخل؛ لأنهم ما كانوا أصحاب زرع في مكة ، ولذلك خشي عليه الصلاة والسلام أن لو انتقل إليهم النخيل تموت عندهم، لا يعرفون إدارتها، ولذلك أبقى النخيل للأنصار، ولكنَّ المهاجرين يشاركونهم في الثمرة.

وبذلك صار هناك مورد طعام -لأن التمر طعام- للمهاجرين من خلال هذه المشاركة، وبدأ المهاجرون يتعلمون الزراعة والاهتمام بها، وجاء في الحديث أن عمر وصاحبه الأنصاري كانا يتعاونان في طلب العلم والقيام على الزرع، فـعمر ينزل يوماً وصاحبه يعمل، واليوم الذي بعده ينزل صاحبه وعمر يعمل، وهكذا صار هناك بداية لاستيعاب القيام بالنخل وما تحتاج إليه، وصار للزبير وغيره نخل، تعلموا وتدرجوا في التدريب على رعايتها.

وابتنى النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه دوراً في أراضٍ وهبتها لهم الأنصار، وأراضٍ ليست ملكاً لأحد، ومع أن الأنصار قالوا: إن شئت فخذ منا منازلنا، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: خيراً، ولما جاء هؤلاء المهاجرون ووجدوا هذه الرعاية الكريمة، قالوا: (يا رسول الله! ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلاً من كثير، لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنة -أي: مؤنة النخل كفونا إياها، وأشركونا في المهنة: الثمرة والنتيجة- حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال عليه الصلاة والسلام: لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم).

فإذاً لو أن إنساناً صنع لك معروفاً، فأنت أثنيت عليه ودعوت الله له، فإنه يبقى لك نصيب من الأجر، ولذلك من المحاسن في الدين الإسلامي أن الإنسان إذا صنع له أخوه المسلم معروفاً أن يقول له: جزاك الله خيراً، ويدعو له بخير.

ورغم بذل الأنصار وكرمهم، فإن الحاجة كانت لا تزال إلى إيجاد نظام يكفل للمهاجرين المعيشة الكريمة، خاصة أن المهاجرين لا يريدون أن يشعروا أنهم عالة على الأنصار، فجاء نظام المؤاخاة في السنة الأولى الهجرية، قيل: بعد بناء المسجد أو أثناء بناء المسجد، أي: بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام بأشهر، حيث عقد النبي عليه الصلاة والسلام عقد المؤاخاة بين الطرفين: المهاجرين والأنصار، فآخا بين كل مهاجري وأنصاري، مع أن الأنصار تبرعوا وأعطوا، لكن الأعداد زيادة على التبرعات، فحلت القضية بما يلي: كل أنصاري معه مهاجري، لا يوجد مهاجري ما عنده مكان ما عنده بيت ما عنده مال، إلا ويوجد أنصاري يقوم بالتآخي معه، وشملت المؤاخاة تسعين رجلاً، خمسة وأربعين من المهاجرين وخمسة وأربعين من الأنصار، ويقال: إنه لم يبقَ مهاجري إلا وقد آخا النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أنصاري.

وترتب على هذا التشريع حقوق خاصة بين المتآخيين كالمواساة، والمواساة هي: تقديم جميع أوجه العون، سواء كان عوناً مادياً أو رعاية أو نصيحة أو تزاوراً أو محبة، وحتى التوارث، كان إذا مات الأنصاري يرثه المهاجري، وإذا مات المهاجري يرثه الأنصاري، يرثه بالتآخي، واستمر هذا فترة من الزمن حتى نسخ ذلك بقول الله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأنفال:75] فنسخ التوارث بين المهاجرين والأنصار، وكان مشروعاً يرثه تماماً إذا مات.

وذهب بعض المؤرخين إلى أنه قد حصلت مؤاخاة في مكة بين بعض المكيين، وقد أخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن عن ابن عباس أنه قال: (آخا النبي صلى الله عليه وسلم بين الزبير وابن مسعود) ولكن ذهب ابن القيم وابن كثير إلى عدم وقوع المؤاخاة بـمكة ، وأن المؤاخاة ما كانت إلا في المدينة ، وكذلك هو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي نفى وقوع المؤاخاة بين المهاجرين في مكة ، وخصوصاً ما روج من بعض الأخبار في المؤاخاة بين النبي عليه الصلاة والسلام وعلي ، ولأن المؤاخاة إنما كانت لإرفاق بعضهم بعضاً، وتأليف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لأحد، ولا لمؤاخاة مهاجري مع مهاجري.

وابن حجر رحمه الله ذهب إلى أن النص إذا جاء فإنه لابد من الأخذ به، وأن هناك حكمة أخرى للمؤاخاة وهي: أن بعض المهاجرين كان أفضل من بعض بالمال والعشيرة والقوة، فآخا بين الأعلى والأدنى من المهاجرين أنفسهم، حتى يرفق الأعلى بالأدنى، ويستعين الأدنى بالأعلى، فآخا بين حمزة وزيد بن حارثة ؛ لأن زيداً مولاهم، وإن كان هناك مؤاخاة في مكة فهي شيء يسير، ولو كان هناك في المدينة مؤاخاة بين بعض المهاجرين، فهي حالات خاصة من مهاجر عنده إمكانات.

المؤاخاة الأساسية كانت بين المهاجرين والأنصار، وكانت المدينة بطبيعة الحال فيها الزراعة والصناعة التي لم يكن المهاجرون قد تمرسوا بشيء منها؛ لأن وظيفة المهاجرين الأساسية في مكة كانت التجارة؛ لأن مكة لم تكن بلداً ذات زرع.

ثم إن هؤلاء المهاجرين لما قدموا إلى المدينة لم يستطيعوا ممارسة التجارة؛ لأن التجارة تحتاج إلى رأس مال، ولذلك لم يتمكنوا من شق طريقهم بأنفسهم في المجتمع الجديد، وكانت حياتهم في المدينة حياة صعبة، وكان الحنين إلى مكة شديداً، وأصابت المهاجرين حمى يثرب ، وهي وباء كان فيها، فالنبي عليه الصلاة والسلام دعا الله أن تنتقل الحمى إلى الجحفة ، ورفعت الحمى من المدينة ونزلت في الجحفة ، فهي المرأة السوداء التي رآها عليه الصلاة والسلام في المدينة في منامه.

ودعا النبي عليه الصلاة والسلام الله عز وجل أن يحبب المدينة إليهم كحبهم مكة أو أشد، وبالفعل صارت محبة المهاجرين للمدينة شديدة، حتى إنهم بعد فتح مكة ما جلسوا في مكة ، وإنما رجعوا إلى المدينة ، ورجع النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ، مع أنها فتحت مكة ورجعت إليهم بيوتهم ودورهم وأموالهم، ولكن مع ذلك بقيت محبة المدينة هي الأساس، فرجع النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه المهاجرون جميعاً إلى المدينة .