قصة أبي هريرة وإناء اللبن


الحلقة مفرغة

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على النبي المصطفى الأمين، خير خلق الله وخاتم رسله أجمعين، وعلى آله وصحبه والذين ساروا على هديه واقتفوا سنته ومنهجه القويم، ومن تبعهم بإحسان وتأسى بهم إلى يوم الدين.

أيها الإخوة: سنتحدث إن شاء الله إليكم في هذه الليالي المباركة عن سلسلة من القصص من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع ذكر شرحها وفؤادها، وفي هذه الروائع من الكلام الذي جاء عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم مما رووه عن نبينا صلى الله عليه وسلم دروسٌ عظيمة وفائدة كبيرة لنا جميعاً.

وفي هذه الليلة نتحدث عن قصة أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مع أهل الصُّفة في إناء اللبن، وهذه القصة تبين عيش النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف كان عيش أصحابه رضي الله تعالى عنهم.

روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: (آلله -وفي رواية-: والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: يا أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق، ومضى فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبناً في قدح، فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية، أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أنا أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: يا أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: خذ فأعطهم، قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إليّ فتبسم، فقال: أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله! قال: اقعد فاشرب فقعدت فشربت، فقال: اشرب فشربت، فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً، قال: فأرني، فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة).

هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب الرقاق من صحيحه ، وأخرجه الترمذي وأحمد في كتبهم.

هذا الحديث يبين كيف كانت عيشة النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن اليوم في هذا الشهر من رمضان على طعام الإفطار نضع ألواناً من الطعام والشراب، فحريٌّ بنا أن نتذكر كيف كانت عيشة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن نستحضر في أنفسنا ما كانوا عليه من شظف العيش، فقد كانوا يعانون ويقاسون ومع ذلك صبروا، واجتمعت عليهم أمم الأرض فلم يغيروا ولم يبدلوا.

لقد كان بإمكان النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيش ملكاً من الملوك، لقد كان بإمكانه أن تجبى إليه خزائن الدنيا، ولكنه صلى الله عليه وسلم فضَّل أن يعيش على الزهد وعلى هذا الحال، حتى أن زوجته عائشة رضي الله عنها تقول لـعروة : (يا بن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار -شهران كاملان لا يوجد طبخ، ولا توقد نار؛ لم يكن عندهم شيء يطبخونه- فقلت: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء -سميا بالأسودين من باب التغليب، وإلا فالماء شفاف لكن أطلق عليه الأسود تغليباً مع التمر الأسود- قالت: إلا أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كان لهم منائح -والمنحة هي العطية من الشاة أو البقر- وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبياتهم فيسقيناه)، وكذلك قال سهل رضي الله عنه: (ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله) ما رأى الخبز الأبيض النقي حتى قبضه الله، فقلت: (هل كانت لكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مناخل؟ قالت: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله، قلت: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ قالت: كنا نطحنه وننفخه فيطير ما طار وما بقي ثريناه فأكلناه) رواه البخاري رحمه الله أيضاً.

وروى مسلم، عن عائشة قالت: (جئنا بـعبد الله بن الزبير إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحنكه، فطلبنا تمرة فعز علينا طلبها) بحثنا عن تمرة فعز علينا طلبها.

وكذلك روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: [ ما شبعنا حتى فتحنا خيبر ] ما شبعوا من التمر إلا في العام السابع من الهجرة، وقال الصحابي: (ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً ولا شاةً مسموطةً حتى لقي الله) الشاة المسموطة: الصغيرة ذات الجلد الطري التي تطبخ مع جلدها ثم تقشر فتؤكل، وهي من طعام المنعمين، هذه ما رآها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أكلها.

وكذلك روى البخاري رحمه الله عن عائشة أنها سُئلت: (أنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث؟ قالت: ما فعله إلا في عام جاع الناس فيه، فأراد أن يطعم الغني الفقير، وإن كنا لنرفع الكُراع -الكُراع: ما استدق من الساق ما فيه إلا شيء قليل من اللحم- فنأكله بعد خمس عشرة، قيل: ما اضطركم إليه؟ فضحكت، قالت: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز بر مأدوم ثلاثة أيام حتى لحق بالله).

وقالت أيضاً فيما رواه البخاري رحمه الله: [ لقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وما في رفي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير -نصف- في رفٍ لي، فأكلت منه حتى طال عليّ، فكلته ففني ] لو تركته بدون كيل لبقي، فلما كالته انتهى وفني.

وقال سعد : (لقد رأيتني سابع سبعة مع النبي صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الحُبلة أو الحَبلة -أي: ورق الشجر- حتى يضع أحدنا ما تضع الشاة ما له خلط) لا يتبرز إلا مثل الشاة.

وكذلك فإن هذا الحديث الذي سقناه في بداية الدرس دليل على ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعانون.

هذه القصة العظيمة التي رواها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (آلله -أو- والله الذي لا إله إلا هو -يحلف- إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع) أي: ألصق بطني بالأرض من الجوع، فإما أن يكون المعنى أنه كان يشد الحجر على بطنه حتى لا يشعر بالجوع، أو أنه كناية عن سقوطه إلى الأرض مغشياً عليه، كما قال هو رضي الله عنه (فمشيت غير بعيد فخررت على وجهي من الجهد والجوع)، فكان يصل إلى درجة الغشيان، قال: (لقد رأيتني وإني لأخر ما بين المنبر والحجرة -يطوف بينهما ما عنده شيء في غاية الجوع- مغشياً عليّ من الجوع، فيجيء الجائي -يراه مغشياً عليه- فيضع رجله على عنقي يرى أن بي جنوناً وما بي إلا الجوع) كأنه كان يريد أن يقرأ عليه ليخرج الجن، يحسبه مصروعاً فيه جن، فيخرج الجن وما به جن ولا صرع ما به إلا الجوع، وقال: (كنت من أهل الصفة، وإن كان ليغشى عليّ فيما بين بيت عائشة وأم سلمة من الجوع)، وفي رواية: (وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطني) يلزمه بأخذ الأحاديث والعلم وليس له إلا الطعام فقط، وقال في رواية: (وكنت ألصق بطني بالحصى من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية وهي معي -أي: أحفظها وأعلم بها منه كي يتفطن لحالي- كي ينقلب بي فيطعمني، وكنت إذا سألت جعفر بن أبي طالب -وكان يلقب بأبي المساكين رضي الله عنه- لا يعطيني جواب السؤال حتى يذهب بي إلى منزله ويطعمني)، قال: (وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع) وفي رواية: يقول عبد الله بن شقيق : [أقمت مع أبي هريرة سنة، فقال: لو رأيتنا وإنه ليأتي على أحدنا الأيام ما يجد طعاماً يقيم به صلبه، حتى إن كان أحدنا ليأخذ الحجر فيشد به على أخمص بطنه، ثم يشده بثوبه ليقيم به صلبه] الحجر في حالة الجوع الشديد إذا شد على البطن يفيد في الاعتدال والانتصاب، لأن الإنسان مع الجوع الشديد ينحني، فيشد الحجر على بطنه ويساعده على الاعتدال والانتصاب، أو يمنع كثرة تحلل الغذاء الذي في البطن فيبقى الطعام أكثر لكي يقتات به أكثر، أو حتى يبرد بالحجر حرارة الجوع في بطنه، فهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في شظف العيش، صبروا معه وما ذهبوا عنه يميناً ولا شمالاً.

يأخذون صفائح رقاق من الحجر بطول الكف أو أكبر قليلاً، فيربطها الواحد منهم على بطنه وتشد بعصابة فوقها فتعتدل قامته بعض الاعتدال، قال أبو هريرة : (ولقد قعدت على طريقهم الذي يخرجون منه)؛ لأن طرق الصحابة من منازلهم إلى المسجد كانت متحدة في طريق واحد إلى المسجد (فمر بي أبو بكر فسألته عن آية ما سألته إلا ليشبعني -وفي روية- ليستتبعني) أي: يطلب مني أن أتبعه ليطعمني، ما كان أبو هريرة يريد أن يقول: هات وأعطني، كان متعففاً عن السؤال، لكنه كان مع ضرورة الحال يسأل السؤال وهو يعلم الجواب لعل المسئول يتفطن لحاله فيدعوه لطعام أو يعطيه شيئاً، مرَّ أبو بكر رضي الله عنه ولم يفطن لحال أبي هريرة ، ثم مرَّ به عمر رضي الله عنه فسأله أبو هريرة فلم يفطن عمر رضي الله عنه لذلك أيضاً.

و عمر بعد ذلك علم، يقول أبو هريرة : (فلقيت عمر فذكرت له وقلت له ما حصل، أو ما كان مني) فتأسف على عدم إدخال أبي هريرة داره، وأنه لم يفطن له، وقال: لـأبي هريرة معتذراً بعد أن عرف القصة: [ والله لئن أكون أدخلتك أحب إليّ من أن يكن لي حمر النعم ].

تفطن النبي صلى الله عليه وسلم وتفقده لأحوال أصحابه

قال: (ثم مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم أبو القاسم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي) فالتبسم يكون تارة للعجب، وتارة لإيناس الشخص الذي تتبسم إليه، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان متفطناً لحال أصحابه، فأول ما رأى أبا هريرة عرف في وجهه الجوع، وعرف أنه يحتاج إلى ما يسد رمقه، ( ثم قال لي: يا أبا هر !) وهذا نوع من التحبب وأبو هر على التكبير، وأبو هريرة على التصغير؛ لأن هريرة تصغير هر، وكان لـأبي هريرة هرة يلازمها فكني بـأبي هريرة ، قال: (يا أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله) وفي رواية: (فقلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: الحق ومضى فتتبعته فلحقته، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام على أهله فاستأذن)، وفي رواية: (فاستأذنت فأذن لي، فدخل أبو هريرة رضي الله عنه). وفي رواية: (فدخلت فوجد النبي عليه الصلاة والسلام في البيت عنده لبناً في قدح، فسأل عليه الصلاة والسلام: من أين هذا اللبن؟ -ما هو مصدره؟ من أين لكم هذا؟ يقول - قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة) والنبي عليه الصلاة والسلام كان يأكل الهدية، ولكن لا يأكل الصدقة، مقامه أرفع من أن يأكل صدقات الناس، لكن الهدية يأكل منها؛ لأن الهدية ليس فيها إزراء ولا تنـزيل من المقام، ولا إسفاف على النفس، والنبي عليه الصلاة والسلام لما وجد اللبن ما قال لـأبي هريرة: خذ واشرب، قال: ( الحق إلى أهل الصفة ).

تعريف بأهل الصفة ومكانهم وتحديد مكان الروضة

أهل الصفة: أضياف الإسلام، هؤلاء أناس فقراء أسلموا، جاءوا من القبائل إلى المدينة، ما عندهم أهل ولا مال، ولا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، وكان عليه الصلاة والسلام إذا جاءه الرجل وله قريب في المدينة أو عريف نزل عليه، فإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة، وكان أهل الصفة أناساً فقراء لا منازل لهم، فكانوا ينامون في المسجد لا مأوى لهم غيره، أين مكان أصحاب الصفة الآن في المسجد النبوي؟ هل القبلة شمال البيت النبوي والقبر النبوي أو جنوب البيت النبوي؟

جنوب؛ لأن مكة جنوب المدينة ، على الناحية الأخرى، أي: شمال القبر النبوي.

منبر النبي عليه الصلاة والسلام معروف، ومكانه موجود، وبيت النبي عليه الصلاة والسلام في حجرة عائشة التي دفن فيها صلى الله عليه وسلم ما بين البيت والمنبر روضة من رياض الجنة -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- لعله أراد تشجيع حلق الذكر في هذا المكان، وحلق الذكر من رياض الجنة.

والمكان هذا فيه فضل، وقد ذهب ابن القيم رحمه الله إلى أن ما بين البيت والمنبر روضة من رياض الجنة أي: على الحقيقة، وأن هذا المكان هو من الجنة، أو يكون هذا المكان في الجنة يوم القيامة.

كان النبي عليه الصلاة والسلام له حجرات، باب حجرة عائشة يفتح من جهة المنبر، وكذلك بيوت نساء النبي صلى الله عليه وسلم، لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم دفن في حجرة عائشة كما قال: (ما من نبي يموت إلا دفن حيث يموت).

ودفن أبو بكر إلى جانبه وإلى جانبهما عمر رضي الله عنهما، ثم في العهود السابقة جاء من أدخل الحجرة في المسجد في عهد الوليد ، وإلا لكانت الحجرات خارج المسجد، ولما جاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى سداً لذريعة الشرك والبدع بنى جدراناً مثلثة حول القبر النبوي، وقبر صاحبيه، بحيث لا يستطيع أحد أن يستقبل القبر مع القبلة، جعلها بطريقة مثلثة سداً لذريعة الشرك، ولذلك لا يوجد الآن باب يدخل إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام، لأن بناء عمر بن عبد العزيز بناء مثلث مصمت ليس له أبواب لكنه مفتوح من الأعلى إلى القبة، وفي القبة فتحة إلى السماء، لكن القبة بنيت بعد ذلك، وأساء من أساء في علو النجارين على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ودق الخشب، ثم تركت على حالها إلى الآن، وإلا فإنه لا يجوز البناء على القبور ولا وضع القباب عليها.

لكن حجرة النبي عليه الصلاة والسلام مفتوحة ليس مبني عليها في الأصل، وكان القبر داخل الحجرة، ثم جاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله وبنى عليها ثلاثة جدران ليس لها مدخل، ثم جاء بعده من بنى سوراً ثانياً حول الحجرة ثم وضع القفص الأخضر، فهو محاط بثلاثة أسوار، ولا يمكن الدخول إلى القبر مباشرة، وإنما يأتي الإنسان بمحاذاة القبر فيقول: السلام عليك يا رسول الله، ثم يخطو خطوة، فيقول: السلام عليك يا أبا بكر ، ثم يخطو أخرى، فيقول: السلام عليك يا عمر ، وفي العصور السابقة جاء من أدخل جزءاً من الحجرة في هذه الأسوار، فجزء من الروضة (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) مأخوذ داخل القبر، وإلا فإن الروضة أوسع من ذلك، ما بين المنبر وبيت النبي عليه الصلاة والسلام روضة من رياض الجنة، فهذا الذي كان أبو هريرة يطوف بينهما ويقع مغشياً عليه من الجوع.

كان طريقهم إلى المسجد من البيوت، والآن زيدت التوسعة، وأزيلت كل البيوت القديمة، بل مدينة النبي عليه الصلاة والسلام كلها الآن زالت بالتوسعة، ولم يبق منها شيء، ومن العجائب أن الإنسان في القديم لو نظر من جبل أحد لا يمكن أن يرى المسجد النبوي؛ لأنه بناء محدود وحوله بيوت، وحول البيت مزارع ونخل، أما الآن فقد وسع المسجد توسعة كبيرة، وصار حوله ساحة كبيرة، ويغلب عليه اللون الأبيض من الخارج، فالآن يمكن أن يرى من جبل أحد.

ومن العجائب ما رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده ، بسند رجاله ثقات (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس، فقال: يوم الخلاص وما يوم الخلاص! يوم الخلاص وما يوم الخلاص! يوم الخلاص وما يوم الخلاص! ثلاثاً، فقيل له: وما يوم الخلاص؟ قال: يجيء الدجال، فيصعد أحداً، فينظر المدينة ، فيقول لأصحابه: أترون هذا القصر الأبيض، هذا مسجد أحمد).

أي: يراه الدجال من جبل أحد ، وهو الآن كذلك، فهذا يعني أن الساعة قد اقتربت، ومن قبل لم يكن المسجد النبوي يُرى من جبل أحد، والآن يرى، وفي الحديث (ثم يأتي المدينة -يحاول دخول المدينة - فيجد بكل نقبٍ ملكاً مصلتاً -أي: بيده سيف، لا يستطيع الدجال الدخول إلى المدينة ، وهذه من ميزات المدينة ، ولا يدخل الدجال مكة- مصلتاً فيأتي سبخة الحرف -وهي الجانب والطرف- فيضرب رواقه في تلك المنطقة، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق ولا منافقة، ولا فاسق ولا فاسقة إلا خرج إليه، فذلك يوم الخلاص).

هذا يوم الخلاص.. يوم يخرج منافقو المدينة وفساقها إلى الدجال ولا يبقى فيها إلا المؤمنون.

أبو هريرة يدعو أهل الصفة إلى لبن رسول الله

جلس أبو هريرة رضي الله عنه على طريقهم فلم يتفطن له أحد، حتى فطن له النبي صلى الله عليه وسلم، فأدخله إلى بيته ووجد لبناً في قدح، فسأل: (من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: الحق إلى أهل الصفة) هات أهل الصفة، وأهل الصفة: أضياف الإسلام، هؤلاء أناس ليس عندهم مال ولا مأوى، كانوا يأوون إلى المسجد النبوي، يقول أبو هريرة في رواية: (كنت من أهل الصفة، كنا إذا أمسينا حضرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر كل رجل فينصرف برجل أو أكثر، فيبقى من بقي عشرة أو أقل أو أكثر فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعشائه فنتعشى معه، فإذا فرغنا، قال: ناموا في المسجد) ما عندهم إلا المسجد.

ولذلك كان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يقول: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث)، ( طعام الاثنين يكفي الثلاثة) خذوا واحداً من أهل الصفة، كل واحد من أهل المدينة معه طعام اثنين يأخذ ثالثاً من أهل الصفة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قسم ناساً من أصحاب الصفة بين أناس من أصحابه، فيذهب الرجل بالرجل، والرجل بالرجلين، حتى ذكر عشرة.

لما جاء هذا القدح من اللبن قال: (يا أبا هر! الحق إلى أهل الصفة ادعهم، وكان عليه الصلاة إذا أتته صدقة بعث بها إليهم -إلى أهل الصفة- ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم.. وفي رواية: شركهم فيها، وكان يَقبل الهدية ولا يَقبل الصدقة، وإذا قيل له: صدقة، قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل، وإذا قيل: هدية ضرب بيده فأكل معهم) فإذا كان صدقة، قال: اذهبوا بها إلى أهل الصفة، وإذا كان هدية قال: ائتوا بأهل الصفة فيشركهم في هذه الهدية، ويأكل هو وأهله صلى الله عليه وسلم.

والأحوال كانت مختلفة معهم بحسب ما يتيسر في ذلك الوقت، وقد جمع بعض العلماء أسماء أهل الصفة، كما فعل أبو سعيد بن الأعرابي وأبو عبد الرحمن السلمي، وجمع بينهما أبو نعيم في أوائل كتاب: الحلية فسرد جميع الأسماء، وقيل: إنهم كانوا سبعين، والصحيح أنهم كانوا يقلون ويكثرون بحسب الأحوال، فلما قال النبي عليه الصلاة والسلام لـأبي هريرة : (ادع أهل الصفة، قال أبو هريرة : فساءني ذلك.. وفي رواية: أحزنني ذلك) أي: أنا الآن في غاية الجوع، وغاية الجهد، ومحتاج إلى شربة لبن، يقول: اذهب إلى أهل الصفة! نعم. وأهل الصفة ماذا يكفيهم؟! وإذا كفاهم ماذا يبقى لي؟! لا شيء، لذلك أبو هريرة: (فأحزنني ذلك، فقلت -أي: في نفسي- وما هذا اللبن؟! -أي: ماذا يجزئ؟ وماذا يكفي؟- في أهل الصفة؟ وأين يقع هذا اللبن من أهل الصفة وأنا ورسول الله؟ وكنت أرجو أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها).

ثم الأمر سيكون -أيضاً- زيادة: (فإذا جاء أهل الصفة؛ أمرني عليه الصلاة والسلام فكنت أنا أعطيهم)، أي: بالإضافة إلى ذلك لو دعوت أهل الصفة ولو كنت أنا أول من يشرب، أو ثاني من يشرب أو ثالث من يشرب، كان ذلك طيب، لكن المشكلة سوف أدعوهم ثم أكون أنا المضيف، ويقول لي: ضيفهم، وسأمر بالقدح عليهم واحداً واحداً، فإذاً أنا ساقي القوم: (ساقي القوم آخرهم شرباً) إذاً ذهبت! (فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن) أي: ماذا سيصل إلي بعدما يشربوا منه؟ ولكن يقول أبو هريرة : (ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد) لكن لا يمكن أن نحيد، من يطع الرسول فقد أطاع الله.

قال: (فأتيتهم فدعوتهم، فجاءوا، فاستأذنوا فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت) قيل: إن هؤلاء كانوا سبعين، وقيل: مائة، ولكنهم كانوا يتفاوتون بسبب اختلاف الأحوال، مرة تأتي سرية يخرج بعضهم مع السرية، لتبليغ الدعوة، ويأتي أحياناً أناس من خارج المدينة يزيدون، إذاً كان عددهم يتزايد ويتناقص بحسب الأحوال.

معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في بركة اللبن

قال النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء أهل الصفة كلهم وجلسوا: (يا أبا هر ! خذ فأعطهم) خذ القدح الذي فيه اللبن وأعطهم (فجعلت أعطي الرجل فيشرب حتى يروى من إناء اللبن، ثم يرد عليّ القدح فأعطيه الرجل -أي: الذي إلى جانبه- فيشرب حتى يروى) وهكذا واحد وراء الآخر يشربون من القدح نفسه، حتى انتهوا كلهم حتى روي القوم جميعاً، (حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعدما شرب القوم كلهم من الإناء) وهذا معجزة من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام، بركة تكثير الطعام والشراب للنبي عليه الصلاة والسلام، بقي النبي عليه الصلاة والسلام، (أعطيته القدح، فأخذ القدح وقد بقيت منه فضلة) أي: هو نقص لكن بقيت منه فضلة ما انتهى، (فأخذ القدح فوضعه على يده صلى الله عليه وسلم، فنظر إليّ فتبسم) كأنه يقول: يا أبا هريرة! أظننت في نفسك ألا يبقى منه شيء؟ انظر لقد بقي منه، هذا معنى الابتسامة، (فوضعه على يده، فنظر إليّ فتبسم، فقال: أبا هر ! فقلت: لبيك يا رسول الله! قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله! قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فقال: اشرب فشربت، فما زال يقول: اشرب حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً، قال: فأرني، فأعطيته القدح فحمد الله -أي: على البركة التي حصلت ووقعت في اللبن مع قلته وكثرة القوم- وسمى وشرب الفضلة) أي: شرب البقية.

قال: (ثم مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم أبو القاسم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي) فالتبسم يكون تارة للعجب، وتارة لإيناس الشخص الذي تتبسم إليه، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان متفطناً لحال أصحابه، فأول ما رأى أبا هريرة عرف في وجهه الجوع، وعرف أنه يحتاج إلى ما يسد رمقه، ( ثم قال لي: يا أبا هر !) وهذا نوع من التحبب وأبو هر على التكبير، وأبو هريرة على التصغير؛ لأن هريرة تصغير هر، وكان لـأبي هريرة هرة يلازمها فكني بـأبي هريرة ، قال: (يا أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله) وفي رواية: (فقلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: الحق ومضى فتتبعته فلحقته، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام على أهله فاستأذن)، وفي رواية: (فاستأذنت فأذن لي، فدخل أبو هريرة رضي الله عنه). وفي رواية: (فدخلت فوجد النبي عليه الصلاة والسلام في البيت عنده لبناً في قدح، فسأل عليه الصلاة والسلام: من أين هذا اللبن؟ -ما هو مصدره؟ من أين لكم هذا؟ يقول - قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة) والنبي عليه الصلاة والسلام كان يأكل الهدية، ولكن لا يأكل الصدقة، مقامه أرفع من أن يأكل صدقات الناس، لكن الهدية يأكل منها؛ لأن الهدية ليس فيها إزراء ولا تنـزيل من المقام، ولا إسفاف على النفس، والنبي عليه الصلاة والسلام لما وجد اللبن ما قال لـأبي هريرة: خذ واشرب، قال: ( الحق إلى أهل الصفة ).

أهل الصفة: أضياف الإسلام، هؤلاء أناس فقراء أسلموا، جاءوا من القبائل إلى المدينة، ما عندهم أهل ولا مال، ولا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، وكان عليه الصلاة والسلام إذا جاءه الرجل وله قريب في المدينة أو عريف نزل عليه، فإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة، وكان أهل الصفة أناساً فقراء لا منازل لهم، فكانوا ينامون في المسجد لا مأوى لهم غيره، أين مكان أصحاب الصفة الآن في المسجد النبوي؟ هل القبلة شمال البيت النبوي والقبر النبوي أو جنوب البيت النبوي؟

جنوب؛ لأن مكة جنوب المدينة ، على الناحية الأخرى، أي: شمال القبر النبوي.

منبر النبي عليه الصلاة والسلام معروف، ومكانه موجود، وبيت النبي عليه الصلاة والسلام في حجرة عائشة التي دفن فيها صلى الله عليه وسلم ما بين البيت والمنبر روضة من رياض الجنة -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- لعله أراد تشجيع حلق الذكر في هذا المكان، وحلق الذكر من رياض الجنة.

والمكان هذا فيه فضل، وقد ذهب ابن القيم رحمه الله إلى أن ما بين البيت والمنبر روضة من رياض الجنة أي: على الحقيقة، وأن هذا المكان هو من الجنة، أو يكون هذا المكان في الجنة يوم القيامة.

كان النبي عليه الصلاة والسلام له حجرات، باب حجرة عائشة يفتح من جهة المنبر، وكذلك بيوت نساء النبي صلى الله عليه وسلم، لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم دفن في حجرة عائشة كما قال: (ما من نبي يموت إلا دفن حيث يموت).

ودفن أبو بكر إلى جانبه وإلى جانبهما عمر رضي الله عنهما، ثم في العهود السابقة جاء من أدخل الحجرة في المسجد في عهد الوليد ، وإلا لكانت الحجرات خارج المسجد، ولما جاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى سداً لذريعة الشرك والبدع بنى جدراناً مثلثة حول القبر النبوي، وقبر صاحبيه، بحيث لا يستطيع أحد أن يستقبل القبر مع القبلة، جعلها بطريقة مثلثة سداً لذريعة الشرك، ولذلك لا يوجد الآن باب يدخل إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام، لأن بناء عمر بن عبد العزيز بناء مثلث مصمت ليس له أبواب لكنه مفتوح من الأعلى إلى القبة، وفي القبة فتحة إلى السماء، لكن القبة بنيت بعد ذلك، وأساء من أساء في علو النجارين على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ودق الخشب، ثم تركت على حالها إلى الآن، وإلا فإنه لا يجوز البناء على القبور ولا وضع القباب عليها.

لكن حجرة النبي عليه الصلاة والسلام مفتوحة ليس مبني عليها في الأصل، وكان القبر داخل الحجرة، ثم جاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله وبنى عليها ثلاثة جدران ليس لها مدخل، ثم جاء بعده من بنى سوراً ثانياً حول الحجرة ثم وضع القفص الأخضر، فهو محاط بثلاثة أسوار، ولا يمكن الدخول إلى القبر مباشرة، وإنما يأتي الإنسان بمحاذاة القبر فيقول: السلام عليك يا رسول الله، ثم يخطو خطوة، فيقول: السلام عليك يا أبا بكر ، ثم يخطو أخرى، فيقول: السلام عليك يا عمر ، وفي العصور السابقة جاء من أدخل جزءاً من الحجرة في هذه الأسوار، فجزء من الروضة (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) مأخوذ داخل القبر، وإلا فإن الروضة أوسع من ذلك، ما بين المنبر وبيت النبي عليه الصلاة والسلام روضة من رياض الجنة، فهذا الذي كان أبو هريرة يطوف بينهما ويقع مغشياً عليه من الجوع.

كان طريقهم إلى المسجد من البيوت، والآن زيدت التوسعة، وأزيلت كل البيوت القديمة، بل مدينة النبي عليه الصلاة والسلام كلها الآن زالت بالتوسعة، ولم يبق منها شيء، ومن العجائب أن الإنسان في القديم لو نظر من جبل أحد لا يمكن أن يرى المسجد النبوي؛ لأنه بناء محدود وحوله بيوت، وحول البيت مزارع ونخل، أما الآن فقد وسع المسجد توسعة كبيرة، وصار حوله ساحة كبيرة، ويغلب عليه اللون الأبيض من الخارج، فالآن يمكن أن يرى من جبل أحد.

ومن العجائب ما رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده ، بسند رجاله ثقات (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس، فقال: يوم الخلاص وما يوم الخلاص! يوم الخلاص وما يوم الخلاص! يوم الخلاص وما يوم الخلاص! ثلاثاً، فقيل له: وما يوم الخلاص؟ قال: يجيء الدجال، فيصعد أحداً، فينظر المدينة ، فيقول لأصحابه: أترون هذا القصر الأبيض، هذا مسجد أحمد).

أي: يراه الدجال من جبل أحد ، وهو الآن كذلك، فهذا يعني أن الساعة قد اقتربت، ومن قبل لم يكن المسجد النبوي يُرى من جبل أحد، والآن يرى، وفي الحديث (ثم يأتي المدينة -يحاول دخول المدينة - فيجد بكل نقبٍ ملكاً مصلتاً -أي: بيده سيف، لا يستطيع الدجال الدخول إلى المدينة ، وهذه من ميزات المدينة ، ولا يدخل الدجال مكة- مصلتاً فيأتي سبخة الحرف -وهي الجانب والطرف- فيضرب رواقه في تلك المنطقة، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق ولا منافقة، ولا فاسق ولا فاسقة إلا خرج إليه، فذلك يوم الخلاص).

هذا يوم الخلاص.. يوم يخرج منافقو المدينة وفساقها إلى الدجال ولا يبقى فيها إلا المؤمنون.

جلس أبو هريرة رضي الله عنه على طريقهم فلم يتفطن له أحد، حتى فطن له النبي صلى الله عليه وسلم، فأدخله إلى بيته ووجد لبناً في قدح، فسأل: (من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: الحق إلى أهل الصفة) هات أهل الصفة، وأهل الصفة: أضياف الإسلام، هؤلاء أناس ليس عندهم مال ولا مأوى، كانوا يأوون إلى المسجد النبوي، يقول أبو هريرة في رواية: (كنت من أهل الصفة، كنا إذا أمسينا حضرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر كل رجل فينصرف برجل أو أكثر، فيبقى من بقي عشرة أو أقل أو أكثر فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعشائه فنتعشى معه، فإذا فرغنا، قال: ناموا في المسجد) ما عندهم إلا المسجد.

ولذلك كان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يقول: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث)، ( طعام الاثنين يكفي الثلاثة) خذوا واحداً من أهل الصفة، كل واحد من أهل المدينة معه طعام اثنين يأخذ ثالثاً من أهل الصفة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قسم ناساً من أصحاب الصفة بين أناس من أصحابه، فيذهب الرجل بالرجل، والرجل بالرجلين، حتى ذكر عشرة.

لما جاء هذا القدح من اللبن قال: (يا أبا هر! الحق إلى أهل الصفة ادعهم، وكان عليه الصلاة إذا أتته صدقة بعث بها إليهم -إلى أهل الصفة- ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم.. وفي رواية: شركهم فيها، وكان يَقبل الهدية ولا يَقبل الصدقة، وإذا قيل له: صدقة، قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل، وإذا قيل: هدية ضرب بيده فأكل معهم) فإذا كان صدقة، قال: اذهبوا بها إلى أهل الصفة، وإذا كان هدية قال: ائتوا بأهل الصفة فيشركهم في هذه الهدية، ويأكل هو وأهله صلى الله عليه وسلم.

والأحوال كانت مختلفة معهم بحسب ما يتيسر في ذلك الوقت، وقد جمع بعض العلماء أسماء أهل الصفة، كما فعل أبو سعيد بن الأعرابي وأبو عبد الرحمن السلمي، وجمع بينهما أبو نعيم في أوائل كتاب: الحلية فسرد جميع الأسماء، وقيل: إنهم كانوا سبعين، والصحيح أنهم كانوا يقلون ويكثرون بحسب الأحوال، فلما قال النبي عليه الصلاة والسلام لـأبي هريرة : (ادع أهل الصفة، قال أبو هريرة : فساءني ذلك.. وفي رواية: أحزنني ذلك) أي: أنا الآن في غاية الجوع، وغاية الجهد، ومحتاج إلى شربة لبن، يقول: اذهب إلى أهل الصفة! نعم. وأهل الصفة ماذا يكفيهم؟! وإذا كفاهم ماذا يبقى لي؟! لا شيء، لذلك أبو هريرة: (فأحزنني ذلك، فقلت -أي: في نفسي- وما هذا اللبن؟! -أي: ماذا يجزئ؟ وماذا يكفي؟- في أهل الصفة؟ وأين يقع هذا اللبن من أهل الصفة وأنا ورسول الله؟ وكنت أرجو أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها).

ثم الأمر سيكون -أيضاً- زيادة: (فإذا جاء أهل الصفة؛ أمرني عليه الصلاة والسلام فكنت أنا أعطيهم)، أي: بالإضافة إلى ذلك لو دعوت أهل الصفة ولو كنت أنا أول من يشرب، أو ثاني من يشرب أو ثالث من يشرب، كان ذلك طيب، لكن المشكلة سوف أدعوهم ثم أكون أنا المضيف، ويقول لي: ضيفهم، وسأمر بالقدح عليهم واحداً واحداً، فإذاً أنا ساقي القوم: (ساقي القوم آخرهم شرباً) إذاً ذهبت! (فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن) أي: ماذا سيصل إلي بعدما يشربوا منه؟ ولكن يقول أبو هريرة : (ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد) لكن لا يمكن أن نحيد، من يطع الرسول فقد أطاع الله.

قال: (فأتيتهم فدعوتهم، فجاءوا، فاستأذنوا فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت) قيل: إن هؤلاء كانوا سبعين، وقيل: مائة، ولكنهم كانوا يتفاوتون بسبب اختلاف الأحوال، مرة تأتي سرية يخرج بعضهم مع السرية، لتبليغ الدعوة، ويأتي أحياناً أناس من خارج المدينة يزيدون، إذاً كان عددهم يتزايد ويتناقص بحسب الأحوال.


استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
قصص جميلة عن تأثير هذا الدين 3273 استماع
قصة النهاية 2784 استماع
قصة الحديبية 2755 استماع
قصة طالوت وجالوت 2578 استماع
قصة إشاعة طلاق أمهات المؤمنين 2470 استماع
قصة امرأة عمران 2440 استماع
قصة الأبرص والأعرج والأعمى 2343 استماع
قصة بناء البيت العتيق 2099 استماع