لقاء الباب المفتوح [219]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو اللقاء التاسع عشر بعد المائتين من لقاءات الباب المفتوح التي تتم كل يوم خميس، وهذا الخميس هو التاسع عشر من شهر رجب عام (1420هـ).

نبتدئ هذا اللقاء بالكلام بما ييسره الله عز وجل على ما انتهينا إليه من تفسير القرآن.

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون..)

في سورة الحديد قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ [الحديد:19] الإيمان بالله سبق أنه يتضمن أربعة أشياء: الإيمان بوجوده، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، وتكلمنا على هذا.

أما الإيمان بالرسل فإنه يتضمن تصديقهم فيما أخبروا كلهم من أولهم إلى آخرهم، يجب أن نصدق بما أخبرت به الرسل إذا صح عنهم، وأما العمل بشرائعهم فإننا لا نعمل -أو لا يلزمنا العمل- إلا بشريعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذلك لأن الشرائع السابقة كلها نسخت بهذه الشريعة، لقول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3].

وقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] وقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة -يعني أمة الدعوة- يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار).

إذاً.. الإيمان بالرسل يتضمن شيئين:

أولاً: تصديقهم فيما أخبروا به، لكن بشرط أن يصح عنهم.

ثانياً: العمل بالشرائع، ولكن هذا لا يكون إلا بشريعة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأن شريعته نسخت جميع الشرائع.

قوله: أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ (أولئك) أي: الذين آمنوا بالله ورسله.

(هم الصديقون) أي: البالغون في الصدق مبلغاً كبيراً؛ لأن الصديق صيغة مبالغة، والصدق يكون بالقصد وبالقول وبالفعل، فأما الصدق بالقصد فأن يقصد الإنسان بعبادته وجه الله تبارك وتعالى لا يقصد غيره، فمن قصد بعبادته شيئاً غير الله فقد أشرك ولا يقبل عمله، لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث القدسي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).

الثاني: الصدق في القول، بأن يكون الإنسان صادقاً فيما يخبر به، وقد أثنى الله تعالى على الصادقين وأمر أن نكون معهم، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] وأثنى على المهاجرين الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون.

وأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالصدق وحث عليه ورغب فيه، فقال: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).

أما الصدق بالفعل: فمتابعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأن من كان صادقاً فيما يدَّعي من محبة الله ورسوله فليتبع الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31] وقد سمَّى بعض السلف هذه الآية آية المحنة -أي: آية الامتحان- فمن ادعى أنه يحب الله ورسوله قلنا له: اتبع الرسول، فإن اتبعه فهو صادق، وإن خالفه فليس بصادق.

تفسير قوله تعالى: (والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم)

قال تعالى: وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ [الحديد:19] (الشهداء) جمع شهيد، والمراد بهم: من قتلوا في سبيل الله، والقتال في سبيل الله: أن يقاتل الإنسان عدو الله لتكون كلمة الله هي العليا، هذا هو القتال في سبيل الله، قال ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين سُئل: (الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل ليرى مكانه أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) (يقاتل شجاعة) معناها يحب القتال فهو شجاع كالصياد يحب أن يصيد، الصياد الذي يهوى الصيد تجده يحب هذا، ويخرج ويتجشم المصاعب ليصيد الصيد، وإذا صادها صارت عنده أرخص من كل شيء.

فهذا يقال فيه شجاعة؛ لأنه شجاع يحب أن يقاتل.

(ويقاتل حمية) أي: عصبية لقومه.

(ويقاتل ليرى مكانه): أي: رياءً، كما جاء في اللفظ الآخر (ويقاتل رياء) قال صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) من قاتل ليسترد أرضه المغصوبة فقتاله من باب الحمية، إلا إذا قاتل يريد أن يستردها ليقيم عليها شعائر الإسلام فهذا في سبيل الله، وأما من قاتل؛ لأن هذه أرضه ويريد أن ترد عليه فهذه حمية، ليس له أجر الشهداء إذا قتل.

هؤلاء شهداء (لهم أجرهم عند ربهم) أي: ثوابهم العظيم، كما قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171].

قال تعالى: وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ [الحديد:19] ولما ذكر عز وجل أصحاب اليمين وثوابهم ذكر أصحاب الشمال بعد ذلك، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [الحديد:19] وهذا لأن القرآن مثاني، أي: تثنى فيه الأمور والمعاني، ولهذا تجد القرآن الكريم في الغالب إذا ذكر الله الجنة ذكر النار، وإذا ذكر أولياء الله ذكر أعداء الله، والحكمة من ذلك: ألا يمل الإنسان؛ لأنه كلما تنقل المعنى إلى معنى آخر نشط الإنسان.

وحكمة أخرى: أن يكون الإنسان سائراً إلى الله -أي: متعبداً لله- بين الخوف والرجاء؛ لأنه إذا ذكر صفات المؤمنين أو إذا مرت به صفات المؤمنين قوى جانب الرجاء، وإذا ذكرت أحوال الكافرين غلب جانب الخوف، ولهذا قال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا [الحديد:19] عطف التكذيب على الكفر وهو نوع منه، لكن لأنه أشد، الذي يكفر ولكن لا يكذب أهون من الذي يكذب، فعطف (كذبوا بآياتنا) على (كفروا) من باب عطف الخاص على العام كعطف الروح على الملائكة وهو منهم، قال الله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [القدر:4] والروح جبريل وهو من الملائكة.

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم)

قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [الحديد:19] (الجحيم) اسم من أسماء النار وأصحابها، أي: الملازمين لها، ولهذا إذا مرت بك آية فيها (أصحاب) فالمعنى أنهم ملازمون لها مخلدون فيها نسأل الله العافية.

في الآيات الأولى الترغيب بالأوصاف التي توصل إلى الجنات، لأن الله تعالى لم يذكر لنا هذه الأمور لنطلع عليها فقط، ولكن لنسعى لها، وفيها التحذير من الكفر والتكذيب، لئلا يقع الإنسان في هذا العقاب الأليم أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [الحديد:19].

تفسير قوله تعالى: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعبٌ ولهوٌ ...)

قال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20] لما ذكر الله أحوال المؤمنين وأحوال الكافرين وهم في الدنيا كل يعمل على شاكلته، بين حقيقة الدنيا ما هي، وأمرنا أن نعلم ذلك من أجل أن يجتهد الإنسان في التأمل والتفكر، فالأمر في العلم بشيء واقع يعني أن المطلوب أن تتأمل كثيراً حتى يتبين لك الأمر.

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وهي حياتنا هذه لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ خمسة أشياء، اللعب بالجوارح، واللهو بالقلوب.

أما اللعب بالجوارح: كأن يعمل الإنسان أعمالاً تصده عن ذكر الله وعن الصلاة.

وأما اللهو بالقلوب وهو الغفلة، وهذا أشد وأعظم غفلة القلب أعاذنا الله وإياكم منها وأحيا قلوبنا وقلوبكم، الغفلة عظيمة تفقدك جميع لذات الطاعات، وتحرم من جميع آثارها، لقوله تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الكهف:28] لم يقل: لا تطع من أسكتنا لسانه، قال: (من أغفلنا قلبه) وما أكثر ذكرنا باللسان مع غفلة الجنان، وهذا لا شك أنه ينقص الثواب وينقص الآثار المترتبة على الذكر، من صلاح القلب والاتجاه إلى الله، وإنابته إليه، وغير ذلك.

لَعِبٌ وَلَهْوٌ اللعب في الجوارح، واللهو في القلوب.

وَزِينَةٌ نعم زينة في الملابس، زينة في المراكب، زينة في المساكن، زينة في كل شيء، ولذلك تجد الإنسان ولو كان فقيراً يحب أن يزين بيته بالديكور وغيره، وكذلك سيارته، عنده أزواج إذا أراد الزوج أن يركب سيارة يجعل عليها عقوداً من الأزهار زينة.

وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ كل واحد يفخر على الآخر، أنا من القبيلة الفلانية وأنت من القبيلة الفلانية، قبيلتك لا تساوي شيئاً في المجتمع، وقبيلتي قبيلة رفيعة يتفاخرون.. تفاخر في العلم، يكون هذا عنده علم في الطب وهذا لا يعرف الطب، هذا علمه بالهندسة وهذا لا يعرف فيفخر عليه، وأقبح من ذلك التفاخر بالعلم الشرعي؛ لأن العلم الشرعي يجب على الإنسان إذا اكتسبه ومنَّ الله عليه به أن يزداد تواضعاً وأن يعرف نفسه وقدر نفسه.

وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ ومن ذلك ما يحصل بين الشعراء في بعض الأحيان من التطاول على الآخرين والتفاخر، كما يوجد في بعض الأفراح وبعض المناسبات كما نسمع ذلك.

وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ تكاثر كل واحد يحب أن يكون أكثر أموالاً وأكثر أولاداً، وهذا كقوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14] هذه حقيقة الدنيا، ومع هذا اللهو واللعب والتفاخر والزينة هل تبقى؟

أبداً لا تبقى لا بد أن تزول، وإذا طال بالإنسان زمان عاد إلى الهرم، وفي هذا يقول الشاعر:

لا طيب للعيش ما دامت منغصة     لذاته بادكار الموت والهرم

كل إنسان إذا فكر في عيشه وأنه في نعيم نقول: فما بعد ذلك؟ إما موت أو هرم، إما أن تموت وتنتهي من الدنيا، وإما أن تهرم وتكون عالة على ابنك وبنتك حتى أهلك يملون منك، ولهذا أشار الله عز وجل إلى هذه الحالة، فقال: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] لأنهما إذا بلغا الكبر اختل تفكيرهما، وصارا يتعبان، فأنت إما أن تموت أو تصل إلى حال الهرم، هذا إن بقيت لك الدنيا وإلا فقد تسلب إياها قبل أن تصل إلى الهرم.

إذاً.. نأخذ من هذا الحذر من فتنة الدنيا، وكم من إنسان أطغته الحياة الدنيا فهلك، وفي الحديث القدسي: (إن من عبادي من إذا أغنيته أفسده الغنى) بل قد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (والله ما الفقر أخشى عليكم وإنما أخشى عليكم أن تفتح الدنيا عليكم فتنافسوا فيها كما تنافس فيها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم) وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، أكثر الفسقة والكفرة من الملأ والأشراف، اقرءوا القرآن! من يكذب الرسل؟ الملأ والأشراف، اعتبروا بالواقع الآن، أكثر ما يفسد في الدنيا هم الأثرياء والأغنياء الذين فتحت عليهم الدنيا، فليحذرها العاقل اللبيب وليقتصر منها على ما ينفعه في الآخرة.

ثم ضرب الله لها مثلاً في قوله: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20].

في سورة الحديد قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ [الحديد:19] الإيمان بالله سبق أنه يتضمن أربعة أشياء: الإيمان بوجوده، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، وتكلمنا على هذا.

أما الإيمان بالرسل فإنه يتضمن تصديقهم فيما أخبروا كلهم من أولهم إلى آخرهم، يجب أن نصدق بما أخبرت به الرسل إذا صح عنهم، وأما العمل بشرائعهم فإننا لا نعمل -أو لا يلزمنا العمل- إلا بشريعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذلك لأن الشرائع السابقة كلها نسخت بهذه الشريعة، لقول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3].

وقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] وقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة -يعني أمة الدعوة- يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار).

إذاً.. الإيمان بالرسل يتضمن شيئين:

أولاً: تصديقهم فيما أخبروا به، لكن بشرط أن يصح عنهم.

ثانياً: العمل بالشرائع، ولكن هذا لا يكون إلا بشريعة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأن شريعته نسخت جميع الشرائع.

قوله: أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ (أولئك) أي: الذين آمنوا بالله ورسله.

(هم الصديقون) أي: البالغون في الصدق مبلغاً كبيراً؛ لأن الصديق صيغة مبالغة، والصدق يكون بالقصد وبالقول وبالفعل، فأما الصدق بالقصد فأن يقصد الإنسان بعبادته وجه الله تبارك وتعالى لا يقصد غيره، فمن قصد بعبادته شيئاً غير الله فقد أشرك ولا يقبل عمله، لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث القدسي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).

الثاني: الصدق في القول، بأن يكون الإنسان صادقاً فيما يخبر به، وقد أثنى الله تعالى على الصادقين وأمر أن نكون معهم، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] وأثنى على المهاجرين الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون.

وأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالصدق وحث عليه ورغب فيه، فقال: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).

أما الصدق بالفعل: فمتابعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأن من كان صادقاً فيما يدَّعي من محبة الله ورسوله فليتبع الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31] وقد سمَّى بعض السلف هذه الآية آية المحنة -أي: آية الامتحان- فمن ادعى أنه يحب الله ورسوله قلنا له: اتبع الرسول، فإن اتبعه فهو صادق، وإن خالفه فليس بصادق.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
لقاء الباب المفتوح [63] 3396 استماع
لقاء الباب المفتوح [146] 3352 استماع
لقاء الباب المفتوح [85] 3317 استماع
لقاء الباب المفتوح [132] 3297 استماع
لقاء الباب المفتوح [8] 3282 استماع
لقاء الباب المفتوح [13] 3262 استماع
لقاء الباب المفتوح [127] 3118 استماع
لقاء الباب المفتوح [172] 3092 استماع
لقاء الباب المفتوح [150] 3039 استماع
لقاء الباب المفتوح [47] 3034 استماع