لقاء الباب المفتوح [67]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو اللقاء الأخير في شهر صفر عام (1415هـ) من اللقاء المعروف بـ(لقاء الباب المفتوح)، والذي يكون كل يوم خميس من كل أسبوع.

وهذا اليوم هو اليوم (السابع والعشرون) من شهر صفر.

وكان من عادتنا أن نتكلم عن تفسير شيء من آيات الله، وقد انتهينا إلى قوله تبارك وتعالى: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً [الفجر:21] * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً[الفجر:22] * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى[الفجر:23].

تفسير قوله تعالى: (كلاّ إذا دُكت الأرض دكاً دكاً)

يُذَكِّر اللهُ سبحانه وتعالى الناس َبيوم القيامة: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً [الفجر:21] أي: دكاً بعد دك حتى لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا، فتُدَكُّ الجبال، فلا بناء، ولا أشجار، وتُمَدُّ الأرض كَمَدِّ الأديم، فيسعى الناس عليها في مكان واحد، يُسْمِعُهُم الداعي، ويَنْفُذُهُم البصر، في هذا اليوم يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:23-24] ولكن قد فات الأوان، إلاَّ أننا اليوم لازلنا في مجال العمل، وفي زمن المهلة، يمكن للإنسان خلال ذلك أن يكتسب لمستقره كما قال مؤمن آل فرعون : يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39] متاعٌ يتمتع به الإنسان كما يتمتع المسافر بمتاع السفر حتى ينتهي سفره، فهكذا الدنيا.

واعتبر -يا أخي- لما يُسْتَقْبَل بما مضى، كل ما مضى كأنه ساعة من نهار، كأننا خلقنا الآن، فكذلك ما يُسْتَقْبَل سوف يمر علينا سريعاً، وينتهي السفر إلى مكان آخر ليس مُسْتَقَرَّاً؛ إلى الأجداث.. إلى القبور، ومع هذا فإنها ليست محل استقرار؛ لقول الله تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:1-2].

سمع أعرابي رجلاً يقرأ هذه الآية فقال: (والله ما الزائر بمقيم، ولا بد من مفارقةٍ لهذا المكان، وهذا استنباط قوي وفهم جيد، تؤيده الآيات الكثيرة الصريحة في ذلك، كما في قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:15-16].

تفسير قوله تعالى: (وجاء ربك والملك صفاً صفاً)

ذكَّر الله سبحانه وتعالى ما يكون في هذا اليوم فقال: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً [الفجر:22] أي: صفاً بعد صف.

فالأمر الأول: مجيء الله تعالى:

وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22] وهذا المجيء هو مجيئُه عزَّ وجلَّ؛ لأن الفعل أُسنِد إلى الله، وكل فعل أسند إلى الله فهو قائم به لا بغيره، هذه هي القاعدة في اللغة العربية، والقاعدة في أسماء الله وصفاته: كل ما أسنده الله لنفسه فهو له لا لغيره.

وعلى هذا فالذي يأتي هو الله عزَّ وجلَّ، وليس كما حرفه أهل التعطيل ، حيث قالوا: إنه جاء أمر الله، وهذا إخراجٌ للكلام عن ظاهره بلا دليل.

فنحن من عقيدتنا أن نجري كلام الله ورسوله على ظاهره، وأن لا نحرف فيه، ونقول: إن الله تعالى يجيء يوم القيامة هو بنفسه؛ ولكن كيفية هذا المجيء؟ هذا هو الذي لا علم لنا به، فلا ندري كيف يجيء.

والسؤال عن مثل هذا بدعة، كما قال الإمام مالك رحمه الله حين سأله سائل عن قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟! فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرُّحَضاء -أي: العرق- لشدة هذا السؤال على قلبه؛ لأنه سؤالٌ عظيم، سؤالُ متنطِّع، سؤالُ متعنِّتٍ أو مبتدعٍ يريد السوء، ثم رفع رأسه، وقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

والشاهد هو قوله: والسؤال عنه بدعة واعتَبِرْ هذا في جميع صفات الله.

فلو سألَنا سائل فقال: إن الله يقول: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] أي: آدم، كيف خلقه بيده؟!

نقول: هذا السؤال بدعة.

فلو قال: أنا أريد العلم، ولا أحب أن يخفى علي شيء من صفات ربي، فأريد أن أعلم كيف خَلَقَه!

نقول: نحن نسألك أسئلة سهلة.

السؤال الأول: هل أنت أحرص على العلم من الصحابة رضي الله عنهم؟!

فهو إما أن يقول: نعم.

وإما أن يقول: لا.

والمتوقع أن يقول: لا.

السؤال الثاني: هل الذي سألته أعلم بكيفية صفات الله عزَّ وجلَّ أم الرسول عليه الصلاة والسلام؟!

سيقول: الرسول صلى الله عليه وسلم.

إذاً: الصحابة أحرص منك على العلم، والمسئول الذي وجَّهوا إليه السؤال أعلم من الذي تسأله أنت، ومع ذلك ما سألوه؛ لأنهم يلتزمون الأدب مع الله عزَّ وجلَّ، ويقولون بقلوبهم وربما بألسنتهم: إن الله أجل وأعظم من أن تحيط أفهامُنا وعقولُنا بكيفيات صفاته، وقال الله عزَّ وجلَّ في كتابه في الأمور المعقولة: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110] وفي الأمور المحسوسة: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام:103].

فنقول: يا أخي! الزم الأدب، لا تسأل كيف خلق الله آدم بيده، فإن هذا بدعة.

وكذلك الحال في بقية الصفات، فلو سأل: كيف عين الله عزَّ وجلَّ؟!

قلنا له: هذا بدعة.

ولو سأل: كيف يد الله عزَّ وجلَّ؟

قلنا له: هذا بدعة. وعليك أن تلزم الأدب، وأن لا تسأل عن كيفية صفات الله عزَّ وجلَّ وكل إنسان يسأل عن كيفية صفات الله فهو مبتدع، متنطِّع، سائلٌ عما لا يمكن الوصول إليه. فموقفنا من مثل هذه الآية وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22] أن نؤمن بأن الله يجيء؛ لكن على أي كيفية؟

الله أعلم.

ولو قال قائل: هل يحتمل أن يكون مجيئُه كمجيء الإنسان العادي، أو كمجيء الملِك إلى مكان الاحتفال؟!

الجواب: نحن نعلم أنه لا يكون، والدليل: قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] فنحن نعلم النفي، ولا نعلم الإثبات، أي: نعلم أنه لا يمكن أن يأتي على كيفية إتيان البشر؛ ولكننا لا نثبت الكيفية، وهذا هو الواجب علينا.

الأمر الثاني: صفوف الملائكة:

قال تعالى: وَالْمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً (أل) هنا: للعموم، أي: جميع الملائكة يأتون فينـزلون ويحيطون بالخلق، تنـزل ملائكة السماء الدنيا، ثم ملائكة السماء الثانية، وهلم جراً، يحيطون بالخلق إظهاراً للعظمة، وإلا فإن الخلق لا يمكن أن يفروا يميناً ولا شمالاً؛ لكن إظهاراً لعظمة الله وتهويلاً لهذا اليوم العظيم تنـزل الملائكة فيحيطون بالخلق.

وهذا اليوم يوم مشهود، يشهده الملائكة والإنس والجن والحشرات وكل شيء، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير:5] فهو يوم عظيم لا ندركه الآن ولا نتصوره؛ لأنه أعظم مِمَّا يُتَصَوَّر.

فبعد أن عرفنا الأمر الأول، وهو: مجيء الله تعالى.

ثم الأمر الثاني، وهو: صفوف الملائكة.

نعرف الأمر الثالث هذا اليوم، وهو: المجيء بجهنم:

تفسير قوله تعالى: (وجيء يومئذٍ بجهنم)

قال تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [الفجر:23] فقال: (جيء يومئذ) ولم يذكر (الجائي)؛ لكن قد دلت السنة أنه يؤتى بالنار، تقاد بسبعين ألف زمام، كل زمام منها يقوده سبعون ألف مَلَك، وما أدراك ما قوة الملائكة! قوة ليست كقوة البشر، ولا كقوة الجن، بل هي أعظم وأعظم بكثير، ولهذا لما قال عفريت من الجن لسليمان: أَنَا آتِيكَ بِهِ [النمل:39] أي: بعرش بلقيس قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل:39-40] بعد ذلك رآه مستقراً عنده، قال العلماء: لأن هذا الرجل دعا الله فحَمَلَتْه الملائكة، فجاءت به إلى سليمان في الشام من اليمن .

فقوة الملائكة عظيمة، وهذه النار يجرها سبعون ألف زمام، كل زمام يجره سبعون ألف ملك.

إذاً: هي عظيمة نسأل الله العافية، ونسأل الله أن يجيرنا وإياكم منها.

فهذه النار إِذَا رَأَتْهُم [الفرقان:12] أي: إذا رأت أهلها مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان:12] وزفيرها ليس كزفير الطائرات، أو المعدات، بل هو زفير تنخلع منه القلوب والعياذ بالله.

وقال تعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك:8].

وقال الله عزَّ وجلَّ: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الملك:8] تكاد تقطع من شدة الغيظ على أهلها والعياذ بالله، فلهذا أنذرنا الله تعالى منها.

فهذه ثلاثة أمور كلها إنذار:

1- مجيء الرب جلَّ جلالُه.

2- صفوف الملائكة.

3- الإتيان بجهنم.

قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر:23] يتذكر ويتعظ؛ لكن أنَّى له الاتعاظ، فقد فات الأوان، وانقطع الاتعاظ بحضور الأجل في الدنيا قبل أن يصل الإنسان إلى الآخرة، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء:18].

فنسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المتعظين بآياته، ونسأله تعالى أن يرزقنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، ورزقاً طيباً واسعاً.

يُذَكِّر اللهُ سبحانه وتعالى الناس َبيوم القيامة: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً [الفجر:21] أي: دكاً بعد دك حتى لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا، فتُدَكُّ الجبال، فلا بناء، ولا أشجار، وتُمَدُّ الأرض كَمَدِّ الأديم، فيسعى الناس عليها في مكان واحد، يُسْمِعُهُم الداعي، ويَنْفُذُهُم البصر، في هذا اليوم يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:23-24] ولكن قد فات الأوان، إلاَّ أننا اليوم لازلنا في مجال العمل، وفي زمن المهلة، يمكن للإنسان خلال ذلك أن يكتسب لمستقره كما قال مؤمن آل فرعون : يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39] متاعٌ يتمتع به الإنسان كما يتمتع المسافر بمتاع السفر حتى ينتهي سفره، فهكذا الدنيا.

واعتبر -يا أخي- لما يُسْتَقْبَل بما مضى، كل ما مضى كأنه ساعة من نهار، كأننا خلقنا الآن، فكذلك ما يُسْتَقْبَل سوف يمر علينا سريعاً، وينتهي السفر إلى مكان آخر ليس مُسْتَقَرَّاً؛ إلى الأجداث.. إلى القبور، ومع هذا فإنها ليست محل استقرار؛ لقول الله تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:1-2].

سمع أعرابي رجلاً يقرأ هذه الآية فقال: (والله ما الزائر بمقيم، ولا بد من مفارقةٍ لهذا المكان، وهذا استنباط قوي وفهم جيد، تؤيده الآيات الكثيرة الصريحة في ذلك، كما في قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:15-16].




استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
لقاء الباب المفتوح [63] 3389 استماع
لقاء الباب المفتوح [146] 3346 استماع
لقاء الباب المفتوح [85] 3310 استماع
لقاء الباب المفتوح [132] 3288 استماع
لقاء الباب المفتوح [8] 3270 استماع
لقاء الباب المفتوح [13] 3255 استماع
لقاء الباب المفتوح [127] 3114 استماع
لقاء الباب المفتوح [172] 3086 استماع
لقاء الباب المفتوح [150] 3033 استماع
لقاء الباب المفتوح [47] 3028 استماع