لقاء الباب المفتوح [12]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعــد:

فإننا في هذا اليوم. الخميس الثامن عشر من شهر جمادى الأولى عام (1413هـ) نلتقي بإخواننا اللقاء الثالث من هذا الشهر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله مباركاً نافعاً.

نستمر في تفسير سورة النبأ، حيث وقفنا على قول الله تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً [النبأ:31-33] ... إلى آخر ما ذكر الله عز وجل.

هذه الآيات جاءت بعد قوله: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلطَّاغِينَ مَآباً [النبأ:21-22]، وذلك لأن القرآن الكريم مثاني تثنى فيه الأمور، إذا ذكر الثواب ذكر العقاب، وإذا ذكر العقاب ذكر الثواب، وإذا ذكرت صفات المؤمنين ذكرت صفات الكافرين .. وهكذا؛ لأجل أن يكون الإنسان حين يقرأ القرآن راغباً راهباً، إذا قرأ ما فيه الثواب للمؤمنين رغب ورجا وأمَّل، وإذا قرأ ما فيه عقاب الكافرين خاف، فيكون سائراً إلى الله تعالى بين الخوف والرجاء، لا يأمن مكر الله ولا ييأس من رحمة الله.

قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: ينبغي أن يكون الإنسان في عبادته لربه بين الخوف والرجاء، فأيهما غلب هلك صاحبه.

تفسير قوله تعالى: (إن للمتقين مفازاً)

قال تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً [النبأ:31] المتقون هم الذين اتقوا عقاب الله، وذلك بفعل أوامر الله واجتناب نواهيه، أحياناً يأمر الله بتقواه، وأحياناً يأمر بتقوى يوم الحساب، وأحياناً يأمر بتقوى النار، قال الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ [آل عمران:130-131] فجمع بين الأمر بتقواه والأمر بتقوى النار، وقال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] فأمر بتقوى يوم الحساب.

وكل هذا يدور على معنى واحد، وهو أن يتقي الإنسان محارم ربه، فيقوم بطاعته وينتهي عن معصيته.

فالمتقون هم الذين قاموا بأوامر الله، واجتنبوا نواهيه، هؤلاء لهم مفازاً، والمفاز هو: مكان الفوز وزمان الفوز أيضاً، فهم فائزون في أمكنتهم وفائزون في أيامهم.

يقول عز وجل: حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً [النبأ:32] هذا نوع المفاز، حدائق، أي: بساتين عظيمة الأشجار، منوعة الأشجار، وَأَعْنَاباً [النبأ:32] جمع عنب، وهي من جملة الحدائق لكنه خصها بالذكر.

تفسير قوله تعالى: (حدائق وأعناباً)

قال تعالى: حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً [النبأ:32] هذا نوع المفاز (حدائق) أي: بساتين عظيمة الأشجار، منوعة الأشجار، وَأَعْنَاباً [النبأ:32] جمع عنب، وهي من جملة الحدائق لكنه خصها بالذكر.

تفسير قوله تعالى: (وكواعب أتراباً ...)

قال تعالى: وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً [النبأ:33] (الكواعب) جمع كاعب، وهي المرأة التي تبين ثديها ولم يتدلِ، بل برز وظهر كالكعب، وهذا أكمل ما يكون في جمال الصدر، أَتْرَاباً [النبأ:33] أي: على سن واحدة، لا تختلف إحداهن عن الأخرى كبراً كما في نساء الدنيا؛ لأنه لو اختلفت إحداهن عن الأخرى كبراً، فربما تختل الموازنة بينهما، وربما تكون إحداهما محزونة إذا لم تساوي الأخرى، لكنهن أتراب.

تفسير قوله تعالى: (وكأساً دهاقاً ...)

قال تعالى: وَكَأْساً دِهَاقاً [النبأ:34]، أي: كأساً ممتلئة، والمراد بالكأس هنا كأس الخمر، وربما يكون من الخمر وغيره؛ لأن الجنة: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً [محمد:15].

لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً [النبأ:35] لا يسمعون في الجنة لغواً، أي: كلاماً باطلاً لا خير فيه، ولا كذاباً، أي: لا كذباً، فلا يكذبون ولا يُكذب بعضهم بعضاً؛ لأنهم على سرر متقابلين، قد نزع الله ما في صدورهم من غلٍ وجعلهم إخواناً.

تفسير قوله تعالى: (جزاء من ربك عطاءً حساباً)

قال تعالى: جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً [النبأ:36] أي: أنهم يجزون بهذا جزاء من الله على أعمالهم الحسنة التي عملوها في الدنيا، واتقوا بها محارم الله.

وقوله عز وجل: حِسَاباً ، أي: كافياً مأخوذة من الحسب وهو الكفاية، أي: أن هذا الكأس كافٍ لا يحتاجون معه إلى غيره؛ لكمال لذته وتمام منفعته.

ثم قال عز وجل: رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً [النبأ:37] فالله سبحانه وتعالى هو رب كل شيء، قال الله تعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ [النمل:91]، فهو رب السماوات السبع الطباق، ورب الأرض -وهي سبع كما ثبت ذلك في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- وما بينهما، أي: ما بين السموات والأرض من المخلوقات العظيمة كالغيوم والسحب، والأفلاك وغيرها مما نعلمه ومما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وقوله: لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً [النبأ:37] يعني: أن الناس لا يملكون خطاباً من الله، ولا يستطيع أحد أن يتكلم إلا بإذن الله، وذلك يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ [النبأ:38] وهو جبريل: وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً [النبأ:38] أي: صفوفاً صفاً بعد صف؛ لأنه كما جاء في الحديث تنـزل ملائكة السماء الدنيا فتحيط بالخلق ثم ملائكة السماء الثانية من ورائهم، ثم الثالثة ثم الرابعة والخامسة وهكذا صفوفاً، لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (يوم يقوم الروح والملائكة .....)

قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً [النبأ:38] أي: لا الملائكة ولا غيرهم، كما قال تعالى: وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طـه:108] إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ [النبأ:38] بالكلام فإنه يتكلم كما أذن له وَقَالَ صَوَاباً [النبأ:38] أي: قال قولاً صواباً موافقاً لمرضاة الله سبحانه وتعالى، وذلك بالشفاعة إذا أذن الله سبحانه وتعالى لأحد أن يشفع شفع فيما أذن له أن يشفع فيه، على حسب ما أذن له.

تفسير قوله تعالى: (ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً)

قال تعالى: ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ [النبأ:39] أي: اليوم الذي أخبرناكم عنه هو اليوم الحق، والحق ضد الباطل، أي: الثابت الذي يقوم فيه الحق ويقوم فيه العدل، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] أعانني الله وإياكم على ذلك اليوم.

فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا أي: من شاء عمل عملاً يئوب به إلى الله، ويرجع به إليه، وذلك العمل الصالح الموافق لمرضاة الله تعالى.

وقوله: فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا قيدتها آية أخرى وهي قوله تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29] أي: أن لنا الخيار فيما نذهب إليه، لا أحد يكرهنا على شيء، لكن مع ذلك خيارنا وإرادتنا ومشيئتنا راجعة إلى الله، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]، وإنما بين الله تعالى ذلك في كتابه من أجل ألا يعتمد الإنسان على نفسه وعلى مشيئته، بل يعلم أنها مرتبطة بمشيئة الله حتى يلجأ إلى الله في سؤال الهداية لما يحب ويرضى، ولا يقول الإنسان: أنا حر أريد ما شئت وأتصرف كما شئت، نقول: الأمر كذلك لكنك مربوط بإرادة الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (إنا أنذرناكم عذاباً قريباً...)

قال تعالى: إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا [النبأ:40] أي: خوفناكم من عذاب قريب، وهو عذاب يوم القيامة، وهو في الحقيقة قريب، ولو بقي في الدنيا ملايين السنين فإنه قريب: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعات:46]، فهذا العذاب الذي أنذرنا الله قريب ليس بين الإنسان وبينه إلا أن يموت، والإنسان لا يدري متى يموت، قد يصبح ولا يمسي، أو يمسي ولا يصبح، ولهذا كان علينا أن نحزم في أعمالنا، وأن نستغل الفرصة قبل فوات الأوان.

قال تعالى: يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [النبأ:40] المرء، أي: كل امرئ ينظر ما قدمت يداه، ويأخذ كتابه ويعرف مصيره، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:14] ويقول الكافر من شدة ما يرى من الهول، وما يشاهد من العذاب، يقول: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40] أي: ليتني لم أخلق، أو ليتني لم أبعث، أو إذا رأى البهائم التي يقضي الله بينها ثم يقول: كوني تراباً، حينئذ يتمنى أن يكون مثل البهائم، فقوله: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40] تحتمل ثلاث معاني:

المعنى الأول: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40] أي: فلم أخلق؛ لأن الإنسان خلق من تراب.

المعنى الثاني: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40] فلم أبعث، يعني: كنت تراباً في أجواف القبور.

أو المعنى الثالث: أنه إذا رأى البهائم التي قضى الله بينها وقال لها كوني تراباً فكانت تراباً قال: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40] أي: كما كانت هذه البهائم، والله أعلم.

وإلى هنا تنتهي سورة النبأ وفيها من المواعظ والحكم وآيات الله عز وجل ما يكون موجباً للإيقان والإيمان، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بكتابه، وأن يجعله موعظة لقلوبنا وشفاء لما في صدورنا، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

قال تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً [النبأ:31] المتقون هم الذين اتقوا عقاب الله، وذلك بفعل أوامر الله واجتناب نواهيه، أحياناً يأمر الله بتقواه، وأحياناً يأمر بتقوى يوم الحساب، وأحياناً يأمر بتقوى النار، قال الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ [آل عمران:130-131] فجمع بين الأمر بتقواه والأمر بتقوى النار، وقال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] فأمر بتقوى يوم الحساب.

وكل هذا يدور على معنى واحد، وهو أن يتقي الإنسان محارم ربه، فيقوم بطاعته وينتهي عن معصيته.

فالمتقون هم الذين قاموا بأوامر الله، واجتنبوا نواهيه، هؤلاء لهم مفازاً، والمفاز هو: مكان الفوز وزمان الفوز أيضاً، فهم فائزون في أمكنتهم وفائزون في أيامهم.

يقول عز وجل: حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً [النبأ:32] هذا نوع المفاز، حدائق، أي: بساتين عظيمة الأشجار، منوعة الأشجار، وَأَعْنَاباً [النبأ:32] جمع عنب، وهي من جملة الحدائق لكنه خصها بالذكر.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
لقاء الباب المفتوح [63] 3395 استماع
لقاء الباب المفتوح [146] 3352 استماع
لقاء الباب المفتوح [85] 3317 استماع
لقاء الباب المفتوح [132] 3297 استماع
لقاء الباب المفتوح [8] 3281 استماع
لقاء الباب المفتوح [13] 3262 استماع
لقاء الباب المفتوح [127] 3118 استماع
لقاء الباب المفتوح [172] 3092 استماع
لقاء الباب المفتوح [150] 3039 استماع
لقاء الباب المفتوح [47] 3034 استماع